خبر ردع بحري... وانتفاضة سفن! ..عبد اللطيف مهنا

الساعة 11:32 م|30 مايو 2010

ردع بحري... وانتفاضة سفن! ..عبد اللطيف مهنا

 

أنهت ترسانة آلة الحرب الإسرائيلية المتطورة مناورات "نقطة تحول 4". كانت غير المسبوقة في مسبق إعدادها واستعداداتها، وجار ترتيباتها التكنولوجية والبشرية، وفيما رافقها من الضجيج الإعلامي المدروس، الذي كان يراد له أن يكون متعدد الأهداف والإيحاءات. هذه التي كان منها الاطمئنان إلى "جهوزية مواجهة الأخطار" القادمة، والتي منها تقصّد محاولة الردع وإعادة ترميم أسطورة القدرة والتفوق المتآكلة...

 

استخدم الإسرائيليون في مناوراتهم هذه، 2754 صافرة إنذار فقط، فاكتشفوا إنها لا تكفي، فقرروا زيادة عددها مستقبلاً إلى الثلاثة آلاف. والآن، أما وقد انتهت المناورات وصمتت صافراتها، فقد كانوا أول من اكتشف أنها لم تحقق أياً من أهدافها المرادة، وعلى رأسها هذان الهدفان اللذان مر ذكرهما. لم تُطمْئن آلتها وآلياتها الضخمة والمعقدة جمهورهم المحكوم عليه، نظراً لطبيعة كيانهم الاستعماري، بالقلق الأبدي، بل زادته قلقاً على قلقه، وعمّقت لديه صافرات إنذارها "غير الكافية" عقدة الخوف المزمنة، وصعدت لديه سعار فوبيا عدم الاطمئنان على وجوده، أو مستقبل كيانه الهش المفتعل، كجسم مفروض ومرفوض في هذه البقعة من الأرض التي تلفظه، والتي لا يقبل تاريخها ولا جغرافيتها ولا ثقافتها بقاءه الطارئ الغريب بين ظهرانيها... استخلص الإسرائيليون من نقطة تحولهم هذه أن جبهتهم الداخلية " ليست جاهزة لمواجهة المخاطر المنتظرة ". ولخصت صحيفة "هآرتس" هذا بقولها:

 

"لا ينبغي لأحد أن يوهم نفسه، فالوضع الأمني القومي غير جيد. لقد جعل الانسحاب من طرف واحد من لبنان إسرائيل تتعرض لتهديد استراتيجي من الشمال، والانسحاب من جانب واحد من قطاع غزة جعل إسرائيل تتعرض لتهديد بالصواريخ من الجنوب أيضاً. حرب أولمرت في لبنان زادت في قوة حزب الله زيادة لم يسبق لها مثيل. وحرب أولمرت في غزة أضعفت شرعية إسرائيل على نحو خطر".

 

أما والحال الإسرائيلية قد غدت هي هذه الحال، فقد رأت الصحيفة أن السجال الدائر بين ما يسمى اليمين واليسار في "إسرائيل" إنما هو يتمحور حول "عنصر الوقت. اليمين يعتقد أنه لصالح إسرائيل ويسمح لها بفرض وقائع على الأرض. وهذا غير صحيح "... وعليه، تنتهي الصحيفة إلى الاستنتاج التالي وهو، "إن الصافرات التي لا تسمع هي صافرات إنذار حقيقي"...

 

بالتزامن، وقبل أن تضع هذه المناورات التحولية العتيدة أوزارها، داهمت الإسرائيليين نقطتا تحوّل نقيضتان طغتا على تحوّلهم وضجيجه وخلطت أوراقه، وأخذتا في دفعهم مكرهين إلى إعادة التفكير في ترتيبها من جديد، والتحسب لسواهما الذي قد يلحق.

 

نقطة التحول الأولى التي داهمت الإسرائيليين، أو قل النقطة النوعية في سياق الصراع المديد، الذي يعتبرونه هم أكثر من سواهم صراع وجود لا حدود، كانت الإعلان عن معادلة "الردع البحري"، التي جاءتهم أنباؤها عبر خطاب الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، بمناسبة مرور الذكرى العاشرة لانتصار المقاومة اللبنانية وانكفاء الإسرائيليين مدحورين من جنوب لبنان عام الألفين. أو " نقطة التحول البحرية " في سياق معادلة مسار الردع المقاوم، حيث أضاف قائد المقاومة إلى معادلة مطار مقابل مطار وميناء مقابل ميناء، وتل أبيب مقابل الضاحية، إضافة جديدة وهي، حصار مقابل حصار، وذلك بقوله: إن كل السفن العسكرية والمدنية والتجارية المتجهة إلى موانئ فلسطين على امتداد البحر الأبيض المتوسط ستكون تحت مرمى صواريخ المقاومة الإسلامية في حال محاصرة الشواطئ اللبنانية في أي حرب مقبلة، وحيث أضاف: " وعندما سيشاهد العالم كيف تدمر هذه السفن في المياه الإقليمية لفلسطين المحتلة لن يجرؤ أحد على الذهاب إلى هناك".

 

الإسرائيليون دائماً يأخذون ما يقوله الأمين العام لحزب الله على محمل الجد، وهو عودهم على ذلك، حيث عرفوه أنه كان دائماً عند ما يقوله لهم.

 

... أما نقطة التحول الثانية، فهي كونية إنسانية، ومن خارج التحولات الدولية الإقليمية التي تحدثنا عنها سابقاً وكثر ويكثر الحديث عنها هذه الأيام، ونقصد بهذه بداية العد العكسي لزوال أحادية القطبية الأميركية، وتراجع مشاريعها الإمبراطورية، وتخبطها في أزماتها الاقتصادية والأخلاقية، والبروز المضطرد للمراكز الكونية المتعددة الطامحة لمزاحمتها بأخذ أدوارها المستحقة في عالم لم يعد مزرعة أميركية... الصين، الهند، البرازيل، وأفاقه الدب الروسي من بيات ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. والمراكز الإقليمية المتنامية الأثر والدور، تركيا وإيران... نقطة التحول الجديدة أو المختلفة هي هذه الانتفاضة البحرية الأممية ضد الهمجية الإسرائيلية وتواطؤ العجز العربي التي تتمثل في "أسطول الحرية "، هذا الذي يمخر البحر الأبيض المتوسط باتجاه غزة الصامدة المحاصرة، غزة التي تخطو اليوم فيما بعد الألف يوم من الحصار الإبادي، والذي نظمته "حركة غزة حرة "، و"مؤسسة الإغاثة التركية "... تسع سفن، وكانت المحاولات السابقة لا تعدو الواحدة، وسبعمائة وخمسين متطوعاً كاسراً للحصار، وكانوا من قبل العشرات، ومن أربعين دولة، ومن مختلف الأديان، بينهم أربع وأربعون شخصية رسمية وبرلمانية وسياسية، ويضاف لهم ممثل عن كل محافظة ومدينة تركية، وفي مقدمة الجميع مطران القدس المبعد هيلاريون كبوجي في محاولته الثانية للعودة من منفاه. ويرافق هذا الأسطول أسطول إعلامي من أجهزة بث فضائية، بحارته ستة وثلاثون صحافياً من واحد وعشرين وكالة أنباء ووسيلة إعلام.

 

تشكل هذه الانتفاضة البحرية الأممية الشعبية المتزامنة مع الردع البحري المقاوم، قلقاً مضافاً للإسرائيليين وفيها مؤشر يربكهم، إذ أنهم يقرأون جيداً ما تعنيه مثل هذه المسيرة الإنسانية، التي تمخر البحر الأبيض المتوسط باتجاه غزة هاشم، سواء نجحوا أم فشلوا في منعها من الوصول إلى هدفها، ففي الحالين ولمجرد كونها انطلقت فقد حققت سلفاً غالب أهدافها. الإسرائيليون المربكون واجهوها سلفاً بالوعيد والترهيب والإعلان عن استعداداتهم لاعتراض أسطولها، ولدرجة استدعاء الاحتياط في قواتها البحرية، وكأنما هي حيال مواجهة أرمادا غازية وليس تسع سفن تحمل شيوخاً وشباناً ونساءً، ترمز للضمير الإنساني المنتفض ضد الهولوكوست الحصاري المضروب على مليون ونصف فلسطيني، واستقبلوها بحملة مضادة وصلت حد اتهام المبحرين المصرين على كسر الحصار بمعاداة السامية! وبأخرى دعاوية وصلت وقاحتها إلى حيث الزعم بأن أهل غزة في حصارهم إنما هم في نعيم مقيمون! وكل هذا مترافق مع تشديد الغارات الدموية على القطاع المحاصر، ومع الضغوط الهائلة على البلدان التي قدم منها كاسرو الحصار بقصد منعهم، وقد يكونوا قد نجحوا هنا أو هناك، كما هو حال الموقف القبرصي الذي طلب من السفن الإنسانية المقاصد الابتعاد عن موانئه، لكنهم بكل تأكيد قد فشلوا في أكثر من مكان. والمفارقة أنهم قد استنجدوا بمحافظ العريش الذي هب لنجدتهم بإبداء الاستعداد للتخفيف عنهم، بالسماح لأسطول الحرية بالرسو في مدينته بديلاً عن غزة، بمعنى تحويل هدفه من كسر الحصار إلى مجرد توصيل بعض المؤن، التي لم تكن أصلاً الهدف، وحيث المجلوب منها رمزي ولا يكفي المحاصرين إلا لساعات، لكن هذا الشقيق المتبرع المبادر تراجع فنفى ما بدر منه، أو هو طٌلب منه لاحقاً ذلك!

 

تحولان طغيا على مناورة التحول الإسرائيلي، وقد بلغ العتو الممزوج بالتأزم والارتباك مداه لدى الثكنة التي لم تعد ترساناتها تخفف من تفاقم قلقها. هذا المزيج، الذي من مظاهر التعبير عنه أن يتهم نتنياهو بوقاحة الفلسطينيين قائلاً: "إنهم يلوثون مياهنا"! وأن يتوعدهم بأن مقاطعتهم لبضائعنا "أمر غير مقبول"، في حين أن باراك، وهنا المفارقة، يطالبهم بضمانات!

 

تحولان، مقاوم وإنساني كوني زاحف جعلا من "إسرائيل" تنسى مناورات "نقطة تحول4" وصافراتها وتعيد مجدداً حساباتها، ويشدان انتباهنا إلى التحول الأعظم الذي أشرنا إليه بداية"، والذي دعا الراعي الأميركي للجريمة الإسرائيلية المستمرة منذ ما ينوب عن الستة العقود، أن يعترف على لسان هيلاري كلنتون بأن العالم يشهد تغييرات هائلة، الأمر الذي يدفعها مواربة إلى مقاربة الاعتراف ببداية نهاية أحادية القطبية، وهو اعتراف عبرت عنه بقولها، إننا لا نريد عالما متعدد الأقطاب ولكن متعدد الشركاء... ما يرعب الإسرائيليين يقلق رعاتهم، الذين بدأوا مكرهين في محاولة قبول الشراكة بديلاً عن التبعية... ربما لهذا كلاهما مستعجلان في التهويد وتصفية القضية... ولعله لهذا الاستعجال، أو قطع الطريق على تداعيات مثل هذه التحولات، تم استدعاء نتنياهو إلى البيت الأبيض عشية انتظار وصول أبو مازن إليه؟!

 

كاتب فلسطيني