خبر غزة من كل الجهات! ..خيري منصور

الساعة 07:13 ص|30 مايو 2010

غزة من كل الجهات! ..خيري منصور

 

ليست تايتانك، أثاثها المتقشف لا يسيل لعاب الفقراء، وتخلو من الفئران التي تشم رائحة الغرق فتقفز إلى الماء بحثاً عن النجاة.. وليست سفينة نوح، لأن من فيها قدموا من أقاصي العالم ليدافعوا عن آدميتهم أولاً، وليقولوا لنا جميعاً بأن المحاصرين ليسوا عرباً أو فلسطينيين فقط بل هي البشرية بعد أن أصبح العالم مشطوراً إلى صهاينة وآخرين، قد يحمل هؤلاء الآخرون اسماً أممياً كالجوييم، لكن الألسنة على اختلاف اللغات تنشد للحرية على مشارف تلك الجغرافيا الحزينة، التي توهم لصوص التاريخ أنها أصبحت أرملة.

 

ولن ترتطم باخرة الحرية أو أسطول العصيان على تعاليم الاسخريوطي الجديد بجبل جليد، فالماء دافئ، والبحر المتوسط ليس غادراً كالأطلسي لمن فككوا شيفرة الموجات القادمة في يافا والتي ما أن تصل رمال الشاطئ في غزة حتى تعانقها وتبلغ الأهل السلام.

 

ذات يوم ستصبح كل خشبة من هذه السفن وثيقة لإدانة الاحتلال رغم اختلاف أسمائه ومن يقترفون جرائمه. فالحصار أصبح في العشرين سنة الماضية عربياً بامتياز.. لم تسلم منه بيروت الاجتياح والمقاومة، وعراق الانتهاك وفلسطين التي لم تكن ولن تكون خاتمة المطاف في هذه الدراما القومية.

 

نعرف أن البحر كاليابسة والفضاء هو في النهاية لمن غلب، لكن بحر غزة الآن ليس مغلوباً على أمره. فهو حليف القباطنة الأحرار والمدى الأزرق الشفيف لتلك المعزوفة البحرية التي بدأها ساكسفون الغرباء الحزين.. وسوف يختتمها نشيد تشارك فيه الكائنات كلها بدءاً من العصافير العائدة إلى سمائها حتى الشجر الذي أعاقته جذوره الراسخة عن الرحيل.

 

والعشاء المتقشف لمن فتحت فلسطين ذراعيها لهم من مختلف الجنسيات لن يكون الأخير أيضاً لأن الموعد المضروب في أقاصي الحلم لا بد أن يأزف موعده فهو محتم لأنه توأم القيامة.

 

من لم يظفر بمقعد في أسطول الحرية والعصيان على الخنوع، يفرض عليه أضعف الإيمان أن يضيف صوته حتى لو كان مبحوحاً إلى ذلك النشيد فالإنسان يفقد آخر امتياز آدمي له من الخجل إذا قال للقبطان الباسل.. أبحر أنت وربك إنا هنا في هذا السجن الكبير قاعدون، بل متقاعدون عن إنسانيتنا، وعن كل ما يدافع عن حقنا في أن نكون بشراً يستحقون الحياة.

 

ما من بوصلة الآن يتجه سهمها إلى غزة لأنها الجهات كلها، فهي جنوب الجنوب وشمال الشمال وغرب الغرب وشرق الشرق. إنها الاختبار الأعسر منذ بلغ الإنسان رشده التاريخي، ولن يكون حراً عل الإطلاق من يستقيل الآن من دوره، بمعزل عن لسانه وجنسيته. وقد سمعتها وكانت عبارة ساخنة كالزفير من ناشط أوروبي، عندما قال بأنه جاء ليعتذر وأنه يشعر بالإهانة حتى النخاع كلما شاهد طفلاً يذبح في فلسطين بينما ينصرف الفريسيّون إلى التجشؤ بعد وجبة طازجة من لحم الأطفال.

 

ما من موجة أو قطرة ماء الآن في الطريق البحري إلى غزة لا تردد صدى النشيد، فالخطوة رمزية بقدر ما هي إغاثة واقعية، وثمة كثير من الورد بين أكياس الطحين، لأن الوطن أخيراً رغيف ووردة، أو بندقية وقلم وافتداء وقيامة.