خبر صورتان في مكاشفات مشعل .. علي بدوان

الساعة 06:03 م|28 مايو 2010

بقلم: علي بدوان

في جلسة مصارحة ووضوح، قد تكون من الجلسات النادرة التي يفصح فيها رئيس المكتب السياسي لحركة حماس عن دواخله وتقديراته السياسية، بل وعن مفاهيمه المتعلقة بطبيعة المرحلة فلسطينياً وعربياً وإسلاميا، قَدم خالد مشعل -في لقائه شبه المغلق مع بعض الفعاليات الإعلامية من الكتاب والصحفيين مساء يوم الثالث والعشرين من مايو/آيار 2010 والبعيد عن (كاميرات) التلفزة ووسائل الإعلام- رؤى سياسية ونظرية تتعلق بطبيعة المرحلة الراهنة من الحياة السياسية الفلسطينية والعربية والإسلامية.

وقد بدا في تقديمه لرؤيته شفافاً إلى أبعد الحدود، في لقاء طغت عليه (الأريحية) بينه وبين الحضور من جهة، والبساطة في عرض الأمور دون الغرق في حقول الأيديولوجيا والتنظير اللفظي الذي طالما سيطرت واستدامت على الساحة السياسية الفلسطينية.

وأروع ما سيطر على حديث مشعل ومكاشفاته للحضور، هدوء خطابه السياسي والفكري، وتجنبه إطلاق الإجابات الاستفزازية أو الانجرار وراء ردود قاسية على عدد من الأسئلة والتساؤلات التي وجهت إليه، فكان في هذا الجانب (صاحب المولود) الحريص على تقديم المبادرات المهدئة والمخلصة من موقعه كصاحب وكراعي مسؤولية في البيت الفلسطيني.

فما الذي جاء به رئيس المكتب السياسي في لقائه المشار إليه، وماهي تقديراته لأفاق المصالحة الفلسطينية، وهل يمكن لرؤيته أن تفتح الآفاق أمام مرحلة قادمة من العمل السياسي والوطني الفلسطيني؟

واحدة مرئية وواحدة مستترة

في البداية اعتبر مشعل أن صورتين تسيطران على الحالة العامة في منطقتنا. الصورة الأولى يراها الناس بسهولة ويسر، بسبب من (فقاعة) ألوانها ووضوحها، وهي صورة تعكس حالة التهالك العربي والفلسطيني في جوهرها، صورة تملي وقائعها ومحتواها القوى المعادية (للأمة) على المنطقة بشكل عام، في مظاهر صارخة عناوينها  احتلال، نفوذ، تدخل، إملاءات، احتواء، عزل، ملاحقة.

فهي صورة تعكس اللامعقول في السياسات العربية والإسلامية (حسب مشعل) التي ارتضت ارتسامات الصورة بأبعادها وألوانها وتضاريسها الواقعة عليها بفعل الطرف الخارجي. لتصبح صورة تغري "إسرائيل" وتدفعها لممارسة المزيد من الضغط على الفلسطينيين خاصة وعموم العرب عامة. كما هي صورة تعيق كفاح الشعب الفلسطيني. حيث يرى مشعل في تلك الصورة انعكاساً واضحاً لغياب المشروع العربي أو الإسلامي المقابل، واقتصاره على عناوين مختزلة فحواها (كيف ننفذ بريشنا) أو كي نحافظ على استقرارنا كلاً في قطريته الخاصة به.

وفي هذا الجانب يشدنا خالد مشعل نحو مساحة التقاطع بين مكونين أيديولوجيين في الساحة الفلسطينية: التقاطع بين الاتجاه الإسلامي المقوم والاتجاه القومي اليساري.

فأصحاب أيديولوجيا الاتجاه القومي واليساري في فلسطين والمنطقة عموماً، يقرون أيضاً بغياب أو بالأحرى تراجع المشروع العربي وحتى الإسلامي الموحد لصالح صعود السياسات والبرامج القطرية. وفي هذا التقاطع تعمل حركة حماس باتجاه الموائمة في الساحة الفلسطينية لتوليد برنامج موحد يلخص التقاطعات السياسية في الساحة الفلسطينية وهو ما أسهب عنه خالد مشعل عند تحديده لعناصر الأزمة الداخلية الفلسطينية، وفي طرحه للبدائل ومخارج الأزمة.

أما الصورة الثانية التي يراها خالد مشعل، فهي صورة قد لا يراها الناس وجموعهم بسهولة وفق تقديراته. فهي صورة بوجهين، وجهها الأول تفوق الطرف المعادي على المستوى العسكري والأمني والاقتصادي وحتى على مستوى الأداء السياسي. ووجهها الثاني وجود المقاومة وصمودها، الذي شل من حدة سطوع الصورة الأولى، ومن حدة حضور الوجه الأخر للصورة الثانية.

معتبراً أن أهم ما في استخلاصات الصورة الثانية بوجهها الثاني، أن "إسرائيل" باتت عاجزة عن الحسم، وهو إنجاز شبه إستراتيجي في مسار الصراع مع المشروع التوسعي الاستيطاني الإجلائي الصهيوني على أرض فلسطين وفي المنطقة.

الصراع بين الأمم والحضارات له قوانينه

وفي هذا السياق يفسر خالد مشعل وجود صورة المقاومة وفعلها وتأثيرها بالرغم من الاختلال الهائل في ميزان القوى، بأن الصراع بين الأمم والحضارات له قوانينه المغايرة للفهم (الإستاتيكي) الجامد لدور أدوات الصراع المادية المباشرة التي تتجاهل الحراكات والتحولات والتطورات اليومية على الأرض.

فلو اقتصر الصراع على الركون لموازين القوى المادية لوحدها دون غيرها، لما استقلت دولة واحدة في العالم عن أي نظام استعماري، ولما خرج مستعمر واحد من بلد ما في العالم، ولما شهدت جنوب أفريقيا تحولها الكبير مطلع تسعينيات القرن الماضي باتجاه دولة لكل مواطنيها بقيادة حزب المؤتمر الأفريقي. ولما انهارت إمبراطورية واحدة خلال القرن الماضي الذي شهد انهيار خمس إمبراطوريات عظمى.

وفي هذا الإطار خاطب مشعل الإسرائيليين بقوله: (إن ميزان القوى المختل لصالحكم لا يعني أن الأمور لكم) فخاتمة الأمور لا تقررها موازين القوى الراهنة على الأرض لوحدها.

وفي هذا السياق، تحدث مشعل عن اللقاء الذي جمعه مع الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف، معتبراً أن اللقاء يحسب ويسجل أولاً للرئيس ميدفيديف كرجل شجاع، استطاع أن يتجاوز سقف (المحرمات) الأميركية باللقاء مع قيادة تنظيم وطني فلسطيني وضعته الإدارة الأميركية تحت قوائم الإرهاب، بالرغم من أن روسيا تعمل في إطار اللجنة الرباعية الدولية. كما يحسب لسوريا ولرئيسها بشار الأسد، التي ما زالت تواجه حملات أميركية متواصلة عليها بالرغم من تراجع حدتها عن السنوات الماضية.

وبتقدير مشعل، فإن اللقاء الثلاثي الذي جمعه مع الرئيس السوري بشار الأسد والرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف، شكل واحدة من أهم المحطات الملفتة للانتباه في زيارة الرئيس ميدفيديف لدمشق، وواحدة من أهم العلامات الصارخة المؤشرة على بوصلة السياسة الروسية للمرحلة التالية بخصوص الشرق الأوسط، في ظل الجهود التي تبذلها موسكو لإعادة تكريس تموضعها السياسي في المنطقة، وتحديداً في قوس بلاد الشام التي كانت على الدوام ساحة وجود تاريخي للاتحاد السوفياتي في ظل العلاقات السوفياتية السورية في العقود الماضية.

المصالحة والمرجعية وحكمة الموقف

أما بالنسبة لمسألة المصالحة، فإن مشعل وإن بدا (قاسياً غير متفائل) بإنجازها في المرحلة الراهنة، باعتبارها مستبعدة عن طاولة البحث، انطلاقاً من معطى هام عنوانه أن الأساس المطروح الآن عند الآخرين في الإطار الرسمي العربي وحتى الفلسطيني هو استئناف المفاوضات، وأن الحالة العربية عامة تنحو لتفضيل هذه المهمة في المرحلة الحالية، وبالتالي القفز فوق مسألة المصالحة الفلسطينية بالرغم من الحديث الإعلامي المتواتر من مختلف الجهات العربية حول المصالحة الفلسطينية وأهميتها.

إلا أنه بالمقابل أطلق موقفاً (عاقلاً وحكيماً وحريصاً) وواضحاً (لا لبس فيه) من مسألة المرجعية في الساحة الفلسطينية التي أشار إليها البعض من الحاضرين في مجلس مشعل، معتبراً أن حماس لن تسهم بتوليد ازدواجية وتنازع في المرجعيات، وبالتالي لن تسهم بتوليد المزيد من الانقسام في الساحة الفلسطينية، بل إن حماس ترى أن الأصل أن يعمل على إعادة إحياء وبناء منظمة التحرير بعملية جذرية، سياسية، وطنية، تشاركية، ائتلافية، توافقية، تعيد المنظمة لأصولها، وتسحبها من دائرة الاستخدام (كختم خليفة) لصالح مشاركة في القرار السياسي والأمني، وتشكيل مجلس وطني جديد وفق حضور وفعل وتأثير مختلف القوى وأوزانها على الأرض، وتشكيل لجنة للإشراف على الانتخابات إن كان للمجلس التشريعي في الداخل أو للمجلس الوطني الموحد والمنشود.

لا أوراق تحت الطاولة، كلها فوق الطاولة

وفي جلسة مكاشفات مشعل، فإنه لم ينف، بل أكد، الحديث المتواتر عن رغبة حركة حماس بفتح قنوات الاتصال مع واشنطن وغيرها من دول العالم سعياً وراء تحشيد القوى إلى جانب الحق الفلسطيني والعربي، قائلاً بأن (لا شيء تحت الطاولة عند حركة حماس، كل شيء فوق الطاولة).

وزاد مشعل، أن أفصح عن وجود لقاءات متواصلة مع وفود أوروبية تتقاطر كل يوم بالاتصال مع قيادات حركة حماس في أكثر من بلد، حيث طرحت تلك الوفود تقديم صيغ مخففة لشروط اللجنة الرباعية الدولية، لتتمكن من خلالها حركة حماس من التحاور المباشر مع الإدارة الأميركية ومع الغرب بشكل علني ورسمي وفق صيغة كان قد طرحها الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر في لقاءاته العديدة مع قيادات حركة حماس في فترات سابقة. لكنه في الوقت نفسه رفض فلسفة الشروط للحوار مع الآخرين، معتبراً إياها انتقاصا ليس من مكانة حركة حماس بل ومن مكانة الشعب الفلسطيني.

في هذا السياق، وبالفعل بات ملفتاً للانتباه تواتر لقاءات قيادات حركة حماس العلنية مع الوفود الأوروبية القادمة بين حين وآخر إلى منطقة الشرق الأوسط، بعدما كانت في الفترات الماضية تتم في الكواليس وخلف الستار وداخل الغرف المعزولة عن وسائل الإعلام.

وكان من تلك اللقاءات، الاجتماع الذي ضم وفداً برلمانياً قوامه ثمانية نواب بريطانيين وأيرلندياً وإسكتلندياً مع رئيس المكتب السياسي لحماس خالد مشعل، تلاه إجراء وفدين من النواب اليونانيين والإيطاليين محادثات مماثلة مع مشعل بعد اللقاء الأول بيومين فقط وبعد أعوام قليلة من إدراج مكتبها السياسي ضمن اللائحة الأوروبية للإرهاب.

وبالتالي فإن لقاءات قيادات حركة حماس الأوروبية (العلنية والسرية) لم تأت من فراغ أو دون مقدمات. فقد جاءت لقاءات الرئيس الأميركي الأسبق كارتر المتعددة، لتكسر تابو الفيتو الأميركي، ولتحمل معها أكثر من دلالة وأكثر من مؤشر سياسي، بعد سلسلة من التحولات التي تلاحقت خلال الفترات الماضية على جبهة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والتي فرضت نفسها تلقائياً مع رسوخ مكانة حركة حماس في النسيج المجتمعي والمعادلة الفلسطينية، وتعاظم تأثيرها في المسار السياسي بعد سنوات من محاولة شطبها وإزاحتها خارج دائرة الفعل والتأثير.

وهو ما رآه البعض من الفصائل الفلسطينية بدايات هامة للتأسيس لتغيير المواقف الرسمية الأوروبية من الفصائل الفلسطينية المختلفة وقوى المقاومة، وحركة حماس خصوصاً، بينما اعتقد البعض أنه من المبكر الحديث في ذلك الاتجاه، مشيرين إلى عدم حدوث تغيير جذري في المواقف الأوروبية.

التحول في الموقف الأوروبي

وبالتأكيد فإن الحوارات واللقاءات الأوروبية التي تمت وتتم الآن مع حماس وقيادات باقي القوى والفصائل، لم تكن حباً خالصاً من الغربيين أو إنصافا منهم لقضية عادلة، بل في سياقات تبلور قناعات بدأت ترسو رويداً رويداً، داخل مصادر القرار الأوروبي، وهي قناعات تقر بأن الخريطة السياسية الفلسطينية الداخلية متنوعة، وأن على الأوروبيين أن يتعاملوا بطريقة مغايرة مع الفلسطينيين، طريقة تحترم هذه التعددية الفلسطينية، وهي تعددية رسختها وأكدت عليها الانتخابات التشريعية الفلسطينية التي جرت تحت رقابة الأوربيين والرئيس كارتر ذاته.

كما ساعد ويساعد الآن على إعادة بناء الموقف الأوروبي التحولات التي أحدثتها عملية الصمود في قطاع غزة، وما حققته قوى المقاومة الفلسطينية بشكل عام، على جميع الأصعدة السياسية والكفاحية والإغاثية، رغم قرار الحصار الإسرائيلي الجائر المفروض على قطاع غزة.

فقد جاءت مرحلة ما بعد غزة لتثير قناعات بدأت تتعزز لدى الكثيرين مفادها إدراك الغرب الرسمي، والإدراك الأميركي "غير الرسمي" لخطأ تقديراتهم المتعلقة بتكوين الخريطة السياسية الفلسطينية، وتجاهلهم صعود حركة حماس، حيث لم يعد بالإمكان معاملتها كتيار هامشي بالإمكان إقصاؤه أو تهميشه، ومن ثم القضاء عليه تلقائياً.