خبر بالثقة والمحبة وليس بالقوة والمكر .. علي عقلة عرسان

الساعة 03:42 م|28 مايو 2010

بقلم: علي عقلة عرسان

وضعت إدارة الرئيس أوباما سياسة واستراتيجية جديدة في المنطقة وربما في كثير من بلدان العالم، لبسط النفوذ، ومحاربة " الأعداء"، وتنمية الاقتصاد، وتغيير صورتها الشائهة، والهيمنة بالوسائل والأدوات المرنة لا بالحروب الساخنة وإراقة الدماء، وقررت جذب حلفاء جدد يقومون بالحرب على أعدائها نيابة عنها، لأنهم أعرف بالناس " الأعداء"، وبالمنطقة التي تخوض الولايات المتحدة الأميركية حرباً فيها، ولأنهم يكفونها شر من يعاديها وشر أنفسهم أيضاً، فيفني بعضهم بعضاً وهي تتفرج وتقدم السلاح وبعض المال فقط، ولا تخسر الرجال والمعارك، وتزعم في الوقت ذاته أنها ليست طرفاً مباشراً لا في الحرب ولا في خلق بؤر التوتر.. ولم تكتف التوجهات الاستراتيجية الأميركية الأخيرة بهذا، بل غيرت بعض المصطلحات المتداولة في السياسة والإعلام، لا سيما مصطلح الإرهاب، الشعار الذي خاض بوش حربه الصليبية ضد الإسلام ولمسلمين تحت شعاره رايته، فاستغنت عن شعار الحرب على الإرهاب لتأخذ بالحرب على القاعدة، لأنها رأت أن الأول جر عليها عداوات إسلامية شعبية، فقد ربطت الإرهاب بالإسلام وروجت لذلك وعاملت المسلمين بوصفهم إرهابيين ، وأساءت معاملتهم حتى داخل الولايات لمتحدة الأميركية تحت هذه الذرائع وبوحي من تلك الأحكام التي دفع الحركة الصهيونية واليمين المسيحي المتطرف باتجاهها.. ولأن القاعدة استفادت من ذلك في تقديم نفسها قيادة إسلامية مستهدفة لأنها تدافع ن الإسلام المستهدف.. حسب تفسير محللين أميركيين.

إن الرئيس أوباما يفكر بصورة أفضل، لتنفيذ أهداف أميركية ثابتة، ما زالت بعيدة عن النظر إلى الأميركي على أنه مساو للآخرين، أو إلى الآخرين بوصفهم بشر ذوي حقوق ومصالح وأنهم شركاء في الشرط والمصير الإنسانيين.. إنه لا يملك حماقة جورج بوش، وليس مهووساً بالحروب الصليبية المقدسة مثله، وله رؤية مختلفة نسبياً عن رؤى اليمين.. ولكنه حامل، أو مضطر لحمل، لواء مؤسسات أميركية ذات تاريخ طويل في العنصرية والسلب والنهب والهيمنة والإبادة الجماعية والاستعباد.. ولا يستطيع هو ولا تستطيع هي، أن تغير ذلك التاريخ وتلك التوجهات الراسخة بصورة مناسبة ولا أقول بصورة جذرية تتلاءم مع القيم الإنسانية السليمة.

  قد تنجح إدارة أوباما في تغيير الواجهة، وتحسِن التنكر فتضع " الماكياج" بفن متقن، وقد تضحك على كثيرين لسنوات عدة، ولكنها لا يمكن أن تغير العقيدة الأميركية التاريخية التي غرسها من يسمون " الآباء المؤسسين" الملطخة أيديهم بدماء الهنود الحمر والعبيد، وصناع العنصرية الباقية في القيم الأميركية على الرغم من مارتن لوثر كينغ وأشباهه.. ولا يمكن لإدارة أوباما أن تخفي جوهر العقيدة الاستعلائية الاستعمارية، ولا الأغراض الإمبريالية الكبرى، ولا أن تنفي أن الأولية المطلقة لديها هي لمصالحها الثلاث الرئيسة في الوطن العربي والعالم الإسلامي: النفط والغاز " أي الطاقة"، وإسرائيل، والمواد الأولية والأسواق. كما أنها لا تستطيع أن تُخرج من دائرة تفكيرها المركزي أو مقومات تفكيرها الاستراتيجية ومحركاته، أنها تملك القدرة على/ ولها الحق في نهب الشعوب وإخضاعها من جهة، والإبقاء على مناطق نفوذها، ومواقع استراتيجية لقواتها، وتحالفاتها ذات دوائر متعددة ومستويات ولاءات راسخة ومتنوعة من جهة أخرى.. وأن تحشد كل ذلك ضد القوى المنافسة لها على الثروة والنفوذ والهيمنة.. لكي تبقى قوة عظمى أولى، ومرجعاً سياسياً وأمنياً واقتصادياً رئيساً، وقطباً متفرداً ـ إن هي استطاعت على الرغم مما يلوح جليا في عالمنا من تعدد الأقطاب ـ وأن تبقى حكماً منحازاً يصبغ وجهه بالحكمة والحياد.. وآمراً لا يرد أمره، لا سيما على دول وحكام يحسنون الخضوع، ويخافون على المراكز والمصالح الضيقة، ولا تعنيهم أوطانهم بل أنظمتهم.

لقد استفادت الولايات المتحدة الأميركية من الآراء الأميركية الجريئة ـ تقارير بترايوس مثلاًـ  ومن النقد الصريح لسياساتها، وقرأت صفحات مستقبلية بيقظة وحنكة، صفحات تخطط قوى أخرى لكتابتها على أرض الواقع قبل سجلات التاريخ، ومنها تعاظم القوة الاقتصادية للصين، و تحالفات روسية الاتحادية في آسيا.. وتمدد الدب الروسي من القوقاز إلى الشرق الأوسط، في علاقات استراتيجية مع تركيا وإيران وسورية.. إلخ. 

لم تنجح حرب بوش التي ورثها أوباما بإخضاع الشعوب، وقهر المقاومة، وفرض شروط إسرائيل على البقية الباقية من العرب المقاومين والممانعين، ولم تتمكن من بسط النفوذ الشامل، وصنع الشرق الأوسط الجديد.. نعم لقد دمرت وقتلت وأشاعت ما لا يمكن وصفه من الوحشية.. فأساءت إلى الولايات المتحدة الأميركية، وشوهت صورتها أكثر من ذي قبل أو أنها ساهمت في تعريتها و كشفتها على نحو ما يكشف ليبرمان صورة إسرائيل العنصرية الهمجية.. وأصبح الربط الأميركي ـ الصهيوني ـ الغربي بين الإسلام والإرهاب مؤذياً لأصحابه ومستقطباً لأعداء لهم بدلاً من أن يجعل المسلمين والعرب يستسلمون ويخضعون.. 

واقتنعت إدارة الرئيس أوباما بضرورة التغيير، تغير النهج والمصطلحات والوسائل، وليس تعديل الأهداف والاستراتيجيات البعيدة الأمد.. فما زال الوطن العربي والعالم الإسلامي لا يطمئن إلى أي تغيير تعد به الإدارة الأميركية، وتقم المواقف والوقائع والوثائق ألف دليل ودليل على انعدام الثقة بالغرب لأنه منحاز بصورة عمياء إلى الصهيونية من جهة، ومعادياً  في العمق، عقدياً وثقافياً واجتماعياً، لجوهر عقيدتنا وهويتنا ووجودنا.. جهلاً منه وغطرسة وغروراً.. وضعفاً منا وفينا بكل تأكيد.

لقد أيقن الرئيس الأميركي مؤخراً، وأقنع آخرين في إدارته، بالتغيير، وبأن حل قضية فلسطين أحد أهم المداخل لدعم الأنظمة العربية الموالية لبلاده، ولإزالة العداء للسياسة الأميركية في أوساط العرب والمسلمين، تلك السياسة المدمرة التي رسمتها الحركة الصهيونية وإسرائيل واليمين الأميركي المتطرف وحمل رايتها جورج بوش.. سياسة كراهية العروبة والإسلام، والقتل والاحتلال والتدمير والنهب وإثارة الفتن الداخلية، وفرض التبعية، وإقرار التوسع الصهيوني الاستيطاني، وبرامج التهويد وتشجيعها وتمويلها، وممارسة التعذيب بأنواعه..إلخ، كل ذلك على حساب الحقوق الأساسية للعرب والمسلمين عامة وحقوق الشعب الفلسطيني خاصة في الحياة على أرض هو الوطن حاضن الشعب والهوية والذاكرة والتاريخ.. وعلى حساب الحق في الحرية والاستقلال والعودة إلى وطن الآباء والأجداد، إلى فلسطين التاريخية أرض العرب الكنعانيين، إلى قدس العرب اليبوسيين، إلى مسرى رسول الله، حامل رسالة الإسلام إلى البشر أجمعين.

أدرك بوش ضرورة التغيير، وجاءت " استراتيجية جديدة" لينة ولكنها ثابتة على الأهداف الاستعمارية، والمبادئ القديمة المريضة العدوانية العنصرية البغيضة.. وأعلن ما أعلن ، وسوف يتحرك لجذب الدول إلى سياساته واستراتيجياته.. سوف يصل إلى أندونيسيا ويخاطب الناس هناك بعد أن وجه خطاباً للمسلمين من القاهرة وتركيا، كان الكلام مقبولاً والقدرة على التغيير منعدمة.. فمؤسسات الولايات المتحدة الأميركية الحركة الصهيونية هي التي ترسم السياسة العملية اليوم ضد العرب والمسلمين على الخصوص، ولن يستطيع أوباما الرئيس إلا أن يرثي أوباما الطيب لأنه عاجز عن التغيير الجذري، كما أن أوباما الأميركي لا يجرؤ على المجاهرة بضرورة مراجعة ونقد سياسة الآباء المؤسسين التي تغرق في العنصرية والاستعلاء وتبيح ارتكاب المجازر وإبادة الجنس وصولاً إلى أهداف .. تراها رسائل إلهية وأخلاقية يحملها شعب مختار، وقيمة حضارية لا بد من أن تخضع لها الشعوب، تكتوي بنارها شاكرة؟!

إن التغيير يبدأ في الذات نتيجة إيمان قوي بضرورته وأهميته، ومن استعداد للعمل في سبيله بكل قوة، ويبدأ من مراجعة شجاعة وجريئة ومبدئية للذات والتصرفات والمواجهات والسياسات، على أرضية نقدية معيارية إنسانية، ورغبة صادقة في التعامل مع الشعوب والدول والحوادث بعقل يحترم عقول الآخرين وخصوصياتهم ومصالحهم، ويحاول أن يصل على التفاهم والتعاون معهم على أرضية من الثقة والندية.. واستعداد لإزالة كل ما يوحي بتهديد القوة، ويهدد بالحرب، ويبقي الظلم والقهر، ويشي بالنفاق والمكر.

في الفكر الصيني يقدم " لاو تسي" أنموذج فعل لنزع فتيل الحرب والتوجه نحو السلم.. وتروي القصة التي استعادها لوشون بفن، أن موتسي، "لاو تسي"، شعر بنذر الحرب التي يعدّ لشنها ملك تشو على مقاطعة سونغ، أخبره بذلك أحد تلامذته، فقرر وضع حد لهذه الاستعدادات، وقصد مدينة تشو لأن مواطنه وتلميذه "قونغ شوبان" الحداد الذي يصنع المراقي استعداداً لغزو تشو يمكن أن يقتنع منه بالعدول عن ذلك، وعندها يفقد الملك وسيلة هجومية قد يمنعه فقدانها من المغامرة. وفي طريقة إلى تشو مر بأراضي سونغ القاحلة ورأى أناسها المعدمين، ووصفها خير وصف، بعد أن سار ثلاثة أيام، بقوله: "لم يلحظ فيها أثراً لمبنى ضخم واحد، ولا شجرة ضخمة واحدة، ولا وجهاً واحداً لإنسان مفعماً بالحيوية والنشاط، ولا حقلاً خصيباً واحداً.." وكانت مدينة تشو على عكس ذلك بشراً وعمراناً.

في المدينة بحث عن مواطنه الحداد قونغ شوبان، وأقنعه بمنطق صارم حازم بأن ما يقوم به عدوان أو تشجيع على العدوان ولا مسوِّغ له. ولكن الحداد لم يَعِدْ بالكفّ عن صناعة المرقاة الحديدية لأنه وعد الملك بها، فطلب موتسي أن يقابل ملك تشو، وكان لـه ذلك، ودار بينهما الحديث الآتي: "هناك رجل يزدري عربته الجيدة ولكنه يشتهى عربة جاره المخلعة، ويحتقر ثوبه المقصب ولكنه يشتهي معطف جاره اللبادي القصير، ويزدري أرزه ولحومه ولكنه يشتهي حفنة من القشور والعصافة. فماذا تقول عن هذا الرجل؟"...فأجاب الملك بصراحة: "إنه مصاب بهوس السرقة".

ولجأ موتسي وقونغ شوبان إلى تجريب المعركة في لعبة شطرنج، وخسر قونغ بالدفاع والهجوم أمام موتسي، وبذلك أعلن الملك وقف الاستعداد للهجوم على سونغ وألغى الفكرة الشريرة وعاد موتسي راضياً بما قام به، مؤكداً تعلقه بالعدالة والخير والتزامه أدواته المنطقية والإنسانية التي يراها تفوق الأدوات الرهيبة التي تستخدم في الحرب والشر، وهو يعلن التزامه الحب: "كلاليب ومناخس..؟! عدالتي أفضل مما لديكم. إني أتشبث "بالحب" بينما أقوم بالصد "بالاحترام". وأولئك الذين يتشبثون بالحرب يفقدون عواطف الناس. ومن لا يدافعون بالاحترام مبتذلون. وإن الابتذال وفقدان العواطف في عيون الناس معناه التفريق. ولكن الحب والاحترام المتبادلين يؤديان إلى فائدة مشتركة. وإذا هاجمت الآخرين بالكلاليب وصددتهم بالمناخِس، فسيذيقونك من نفس الكأس. إن استعمال الكلاليب والمناخِس معناه الدمار المشترك. فلذا كلاليب ومناخِس عدالتي أفضل من تلك المستخدمة في معاركك البحرية.".

فهل إلى هذا النهج يميل أوباما، أو يمكنه أن يميل، لكي ينزع فتيل الحروب، ويبني الثقة، ويقيم العدالة، ويتقرب من الناس؟! إن ذلك يكون باليقين الداخلي المتجه جذرياً نحو العدالة والسلام والرخاء، يكون بتغيير الذات والأهداف والاستراتيجيات والسياسات والنظرة على الآخرين، يكون بالمحبة الصادقة.. وليس باستمرار الجشع المزمن، والنهب الدائم، والاحتلال المستمر، والقتل الذي يستشري يومياً.. يكون باحترام الشعوب وعقائدها ومصالحها وسيادتها وحقوقها وهوياتها الثقافية، ولا يكون بالإفساد والتخريب الثقافيين والاجتماعيين، ولا بالتبشير بالقوة، والتلويح بالجيوش والقواعد العسكرية والعقوبات، ولا بالتهديد المبطن، ورفع القبضة الحديدية المغطاة بقفازات حريرية بوجه الدول والناس!!.

أيها الرئيس أوبانا .. فلتكن مارتن لوثر كينغ الشعوب بوجه الإمبريالية الأميركية والغطرسة والبلطجة والعنصرية، ولا تكن لوناً آخر من وجه جورج بوش المشبع بالهوس الصهيوني العنصري الصليبي، الذي كان يزعم أن " الرب" كلفه برسالة إلهية، تقوم على الغزو والاحتلال والقتل والتدمير.. شأن " يهوة" رب الجنود الذي لا ينتشي إلا برائحة الدم والحريق.. كن رئيساً منقذاً لبلدك وللقيم، قبل أن تضعك أطماع بعض أبناء بلدك ومؤسساتهم وحلفاؤهم خارج سلم المبادئ الإنسانية والقيم الرفيعة.

أزعم أيها الرئيس أنني أرى هوة بين ما تريد وما هو ممكن، وأدرك أنك لن تنجح في مساعيك لأن قوة التاريخ الإمبريالي ومؤسساته التي تشدك إليها، بوصفك رئيساً، هي أقوى منك.. ولكن حاول.. حاول.. وستدخل التاريخ من باب إنساني واسع، وليس من باب سلفك الذي دخل تاريخكم بوصفه أسوأ رئيس أميركي، ودخل التاريخ البشري بوصفه من أكبر مجرمي الحروب الهمجية والعنصرية والصليبية التي عفى عليها الزمن.

والله ولي التوفيق.