خبر من أين نبدأ؟ ..هيثم مناع

الساعة 08:46 م|21 مايو 2010

من أين نبدأ؟ ..هيثم مناع 

أرسلت إلى موقع الجزيرة نت مقالة كنت قد كتبتها في مطلع 1988 "من أجل نهضة جديدة"، أسأل عن الرأي فيها، لنيتي كتابة أكثر من مقال في الموضوع، فأعلمني الصديق المحرر بأنها ستنشر. استوقفتني في الإجابة نقطة إيجابية هي قوة حضور المقالة بعد 23 عاما على كتابتها، وإحساس موجع: أن ما تغير في أحوالنا منذ ذاك الزمان لا يتعدى تفاصيل يمكن أن تمر بشكل لا يلفت الانتباه. وكأن السلطات التسلطية العربية والأيديولوجيات المستنقعية قد نجحت في اقتطاع أكثر من عقدين من الزمن من وجودنا في التاريخ، من نقدنا للأوضاع ورغبتنا في تجاوزها.. بكلمة، من حقنا في الأمل.

 

كي لا نخرج من طموح النهضة، لا بد من استقراء مثبطاتها ومعيقاتها في المجتمعات العربية: مكبلات النهضة كثيرة، داخلية وخارجية، ذاتية وموضوعية، ولكن هناك عوامل مثبطة رئيسية لا بد من تفكيكها وتشريحها وتعريتها في الوعي الجماعي العام، نتعرض لها دون تراتبٍ في الأهمية وبوعي تام بالتداخل والتشابك بينها.

أول هذه العوامل الحالة الاستثنائية. ونعني بالحالة الاستثنائية تعليق القضاء والقوانين الدستورية وفرض ضبابية على تقسيم السلطات وقيود على السلطة المضادة والسلطة الرابعة ومصادرة مفهوم العدالة لصالح مفهوم الأمن. وقد انزرعت الحالة الاستثنائية في التاريخ السياسي العربي منذ الحرب الأهلية الإسلامية الأولى، وهي موجودة في التراث الأوروبي منذ أولى دول روما.

 

هي إذن ظاهرة عالمية، ولكنها في العالم العربي ظاهرة مركبة، اقتبست من التاريخ العربي الإسلامي أسوأ لحظات العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وأخذت من الممارسة السياسية الغربية أكثر محطاتها ظلامية. وكما أظهر جيورجيو أغامبن كيف بقيت الدولة الحديثة هشة أمام الضرورة الأمنية وأحكامها، تصدى محمد شحرور لقواعد فقهية، مثل مبدأ سد الذرائع، عممت الحالة الاستثنائية في تفكير وتكوين الدولة والمجتمع العربيين.

 

من يستطيع اليوم إغفال التقاطعات المركزية بين الحزب القومي القائد والحزب الثوري اليساري والحزب الإسلامي المخلّص لبناء أنموذج دولة أيديولوجية أحادية القيادة، هي المشترك الفكري السياسي الأكثر مأساوية لحالات الطوارئ خلال قرابة نصف قرن. فقد أنجبت حالات الطوارئ أيديولوجيات طوارئ. وسواء كانت الأمة الخالدة أم دكتاتورية الطبقة العاملة أم الحاكمية الإلهية، كانت "النحن السياسية" (حزبنا، وحركتنا، وجماعتنا، ومعتقدنا) هي الحل عند القامع والمقموع.

 

هذا الفكر الاستبدالي للجماعة بفريق منها، وللتعبيرات الفكرية بواحد منها كان وما زال السبب الأول لعدم القدرة على التعايش مع النهضة الثقافية التي تعتمد بالضرورة التعددية والاختلاف والمشاركة والابتكار الدائم لأنماط جديدة لتنظيم علاقة المواطن بالدولة والمؤمن بالدين والسلطة بالشعب. عندما تعود فكرة العدالة أقوى من موازين القوى والحرية أساسا للأمن، يوضع حجر الأساس للدولة المدنية، وتصبح كل أشكال عسف السلطة موضوع محاسبة عن أية جرائم ترتكبها.

 

ثاني مثبطات النهضة اعتبار الطاعة منظمة للعلاقات الاجتماعية والفكرية والسياسية. الطاعة كتجسيد للانقياد والانصياع لأمر، لعبودية أدنى لأعلى. وليس من المجدي كثيرا خوض النقاش حول عبودية من لمن، لأن المنطق العبودي منطق شمولي يعيد إنتاج نفسه في العالم الافتراضي الذي يصنعه. فأية عبودية للمخلوق أو الخالق هي مسألة مجردة تجسيدها الواقعي في رصد أشكال الطاعات الأرضية: الطاعة المشروطة على الأرقاء القدامى والجدد في حق سادتهم، الطاعة المشروطة في حق الخلق لقيام شوكة السلطان، الطاعة المفروضة في حق الزوجة لزوجها، طاعة الإمام والأمير والشيخ في قضايا الدين والدنيا.

 

تنتج أيديولوجية الطاعة ثقافة الخوف وسلوكيات الخنوع وخشية البدع. وكون الطاعة تبدأ في البيت الذي يسبق المدرسة العامة، لذا فهي تحجّم تصور الفرد وخياراته قبل أن يكتشف وسائل التعليم العامة. فيدخل في حلقة إعادة إنتاج الثقافة التقليدية ويتموضع ذهنيا في شعائرها مع كل ما يترتب على ذلك من إضعاف لروح المواطنة العامة والعمل من أجل المجموع والواجبات والحقوق ذات الطابع الإنساني وليس فقط العائلي أو العشائري أو الديني. وتظهر الآيات القرآنية مخاطر اتباع الأهل والقوم دون تفكير أو تأمل.

 

وعليه، فليس من معنى لطاعة أولي الأمر منكم اليوم إلا بمعنى احترام دولة العقل والعدل بينكم وإقامة علاقاتكم على عهود ومواثيق لا على سيف وعسف. فلا طاعة لطغيان، ولا طاعة في ظلم إنسان، وستون عاما من إمام جائر أسوأ من ستين عاما بلا إمام.

 

العصبية هي ثالث مثبطات النهضة، وهي وفق ابن منظور في لسان العرب "أن يدعو الرجل إلى نصرة عصبته والتألب معهم على من يناوئهم، ظالمين كانوا أو مظلومين"، بتعبيرنا اليوم، تمسك الجماعة بمصالحها ومنظومة قيمها المشتركة وتعصبها في الحق والباطل لها. والعصبية في تعبيراتها المعاصرة، جملة الروابط والعلاقات العضوية قبل المدنية التي تربط الفرد بها وتحول دون تجسد العلاقات المدنية في الحياة اليومية للناس.

 

فالارتباط العشائري والقبلي والطائفي والمذهبي يعطي الشخص انتماء عضويا أي وراثيا غير قابل للنقاش، فابن أية طائفة لا يختار مذهبه عن قناعة بل بالوراثة، وقد تم تحديد مكان عبادته وقبره وشعائره وطريقة زواجه وطلاقه قبل أن يصل سن البلوغ.

 

ويدفع ثمن سياسة تمييزية أحيانا أو يتمتع بامتياز أحيانا أخرى دون أي فضل لشخصه كمواطن فرد. بعد أن نجحت حركة التحرر الوطني في إضعاف الروابط العضوية، عادت الدولة التسلطية والتكوينية العصبية الإسرائيلية (كأنموذج ناجح في اللاوعي العام المجاور) كلاهما ليعيدا العصبيات العضوية بقوة إلى المجتمعات العربية المعاصرة (وهذا ما فعلته الإدارة الأميركية في محاصّتها الطائفية ومجالس عشائرها وصحواتها في العراق!).

 

ولم يكن ذلك ممكنا دون محاصرة وسائل التنظيم والتأطير والتعاضد والتعبير عن الذات المستقلة عن السلطة السياسية من قبل السلطات التسلطية العربية التي اختزلت الدولة الحارسة والراعية في سلطات تتنكر لمفهوم حماية الأشخاص وتتصدى لأي شكل من أشكال المشاركة المجتمعية الحرة في الشأن العام.

 

عودة العصبيات قبل المدنية من جديد تداخلت مع الرضوخ الفردي والتبعية والانقياد الطفيلي للروابط العضوية مقابل الحماية الاجتماعية والمكاسب المباشرة وغير المباشرة. وكلما اعتلت العصبيات تشكيلات النفوذ والمصالح، تهمّش مفهوم المواطنة والاستقلال الذاتي والجرأة على بناء كيان أصيل.

ومن سوء طالع البشرية أننا في حقبة عصبيات جماعات الضغط واللوبي في المجتمعات الديمقراطية فكيف بنا في مجتمعات هشة وضعيفة تعتمد العديد من التعبيرات السياسية فيها نفس الآليات العضوية في تكوينها الحزبي وحمايتها لأنصارها، عوضا عن أن تكون مجالات المشاركة في الشأن العام باعثا للمقاومة المدنية والنضج السياسي، حملت غالبية الأحزاب السياسية العفش القديم بخيره وشره، فصارت جزءا من المشكلة أكثر منها طموحا للحل.

 

إن خيار الدولة المدنية والبناء المدني المجتمعي يتطلب قطيعة منهجية مع التكوينات العضوية. هذه القطيعة لا تعني تمزيق العائلة أو إلغاء أشكال الانتماء الفردي، فكوخ العصبية العضوية لا يستبدل بالعراء بل عمارة الفضاء المدني الضامنة للحقوق والحريات.

 

وبقدر ما تصبح ثقافة المواطنة بديلة بكل المعاني لثقافة الراعي والرعية، تعود الثقة للإنسان بالقدرة على بناء دولة مؤسسات تضع حدا لعمليات تأميم السلطتين القضائية والتشريعية وإطلاق العنان للفضاء المدني غير الحكومي يخرج من قمقم القرية والمنطقة والشلة إلى فكر الأمة والشعب والاتحاد القادر على الفعل التاريخي.

 

رابع مثبطات النهضة، المقاربة المتحجرة لمفهوم الهوية. ولا شك أن العلاقة مع الغرب في قضية الخصوصية والعالمية غير بريئة البتة عن مثل هذه المقاربة. فمن نقائص المجتمعات البشرية كَرَمها المفرط في نقد الآخر أكثر مما تفعّل في نقد الذات.

 

ولعل الصورة السلبية التي صنعها الغرب عن الإسلام والمسلمين وراء عملية الدفاع الذاتي ورد الفعل بل والوصول لاعتبار أي نقد للثقافة والتقاليد عملية إرضاء لغرب يعتبر ثقافته ونمط حياته الأفضل والأصلح، ليس له وحسب بل للبشرية جمعاء. لكن ردود الأفعال لا تصنع نهضة ولا تحقق تقدما، بل تحاصر أصحابها في مواقع هم أنفسهم غير قانعين بها وبجدواها.

 

لم يعد بالإمكان الحديث عن الهوية في القبيلة والقوم والدولة والدين باعتبارها أنماطا صافية للجماعات البشرية. فالهوية سيرورة تتكون عبر الأزمات، ورغم أن أساسها المفهومي قائم على الثبات، فهي في تغير دائم، سريع، أم بطيء، بعوامل ذاتية أو خارجية لا يهم. المهم هو أن عمق أي شعور بالهوية قضية نسبية في المطلق. وإن كانت النهضة مشروع ولادة هوية إنسانية وعالمية جديدة، فهي بالتأكيد تعتبر تراثها الذاتي ملكا للبشرية ومستقبلها رهنا بقدرتها على الفعل التاريخي في الوجود البشري.

 

من هنا تشكل التعبيرات الأبرز للهوية حتى اليوم الرد على مأساة تبعية المجتمعات العربية للغرب، وغياب الحدود الدنيا للفعل السياسي الإقليمي والدولي، أي ضحالة مفهوم السيادة عند حكام بدون شرعية شعبية أو دينية أو دستورية.

 

خامس مثبطات النهضة معضلة التبعية للغرب. وهي مشكلة بنيوية وثقافية واقتصادية تحتاج لتناول مفصل ومعمق. لا يمكن القول، حتى بالنسبة للمتحمسين للأنموذج الغربي الاقتصادي والسياسي والثقافي، بأنه الأنموذج القدوة اليوم. لقد شكلت الرأسمالية مشروعا تاريخيا بكل معنى الكلمة، أنجب ثورات أساسية غيرت معالم الوجود البشري، كالثورة الصناعية والعلمية والقانونية والاجتماعية والمعلوماتية والتحولات الاقتصادية التي ابتلعت أشكال الإنتاج ما قبل الرأسمالي برمتها.

 

وقد بدأت المنظومة الغربية تتراجع مع البروز المتسارع للوجه القبيح للعولمة: صيرورة رأس مال السلطة المطلقة التي تسخر الدول والمجتمعات، وعودة الحالة الاستثنائية، وتجديد أشكال استعمار البشر للبشر، والنبذ المتسارع للأضعف، والانشطار غير المتكافئ للعالم، وتلوث البيئة، وانتشار أسلحة الدمار الشامل والمخدرات والسلع الغذائية السامة.

 

تخوض دولة الاستقلال القطرية في العالم العربي، التي كانت وليدة عوامل تعسفية أو بمحض الصدفة، هذه المعركة بأسلحة خشبية. فكيف يمكن بلورة مشروع سياسي وثقافي ضمن حدود خضعت إما لإرادة موظفين من الدرجة الثانية في الإدارة الاستعمارية أو نتيجة لموازين قوى آنية رجحت هذا الاتجاه أو ذاك؟ كم دفعت شبه القارة الهندية ثمن التقسيم الاستعماري لها؟ وكم تدفع أفريقيا السوداء ثمنا لخارطتها الاستعمارية؟

 

تعرف الإدارات الغربية التاريخ كما نعرفه، وقد أدركت منذ عقود أن أية نهضة عربية ستكون على حساب المسيطر العالمي اليوم على المدى القصير، أي المدى الفاعل في العقلية السياسية الغربية اليوم، لهذا تسعى لتنشيط شرق أوسط لها فيه صوت قبل اتحاد مغرب كبير تغيب عنه، وتحولنا لدول واقعة على مياه بحر في وجه حضارة واتحاد اقتصادي واجتماعي وثقافي كبير في المشروع الأوروبي المتوسطي.

 

لكن كل المليارات التي صرفت والنخب التي استهلكت في هذه المشاريع لم تنجح في إدخالها الثقافة المحلية التي تدرك، في وعيها ولا وعيها، أن مفهوم الاتحاد والتكامل الاقتصادي موجود في الفضاء الثقافي اللغوي المشترك المتربع مع ثورة الاتصالات فوق تأشيرات الخروج ومراكز الحدود وأجهزة الأمن، وهي في المشتركات الاعتقادية المتقاطعة والمتصارعة والتسهيلات الطبيعية التي لا تحتاج إلى تنظير أو تفسير.

والسؤال المطروح علينا جميعا، كيف يمكن تحويل الفضاء اللغوي والاعتقادي المشترك إلى نعمة ممكنة بعد أن جعله النظام الاستعماري القيم نقمة قائمة؟ كيف يمكن تحطيم الحدود الاستعمارية التي صارت افتراضية في العقول وتحتاج لمسيرات خضراء تحولها إلى سراب في الواقع؟ كيف يمكن تحرير اللغة كوسيلة تواصل خلاقة بين البشر من جنوحات التعصب القومي، ودخول المسلمين معركة الإصلاح الثقافي والأخلاقي كشرط لتحرير الدين من الطائفية والمذهبية والتعصب؟ كيف يمكن بناء هوية نسبية تنطلق من الكرامة الإنسانية، نقطة التقاء الأصالة والحداثة، كتصور جامع للحقوق الإنسانية والحقوق البيئية والحريات الأساسية، أي كتجسيد قانوني وليس فقط أخلاقي ومثالي، لدولة العدل والعقل المدنية التي تعتبر كرامة الإنسان، أي إنسان، مهمة جماعية لمواطنيها الأحرار؟

 

قبل الإجابة عن هذه التساؤلات لا بد من التذكير بأن مراكز القوى السياسية والمالية الغربية ضد هذا المشروع بالتأكيد لأنه على حساب مصالحها، ولن تكون معنا فيه إلا القوى المدنية والديمقراطية المناهضة للهيمنة والرافضة للنظام الاقتصادي السائد.

 

إن توسيع جبهة المقاومة المدنية في منطقتنا والعالم يفتح دون شك آفاقا أرحب لنهضة جديدة ترفض إعادة إنتاج التسلط في الحياة اليومية للبشر، إلا أن تحول هذه الحمالة الفكرية والنضالية إلى قوة فعلية، يتطلب تبنيها من أوسع الشرائح المجتمعية ذات المصلحة في التغيير.

 

ما هي الحمالة المجتمعية للنهضة؟ وهل باستطاعتها خوض معارك صعبة وصلبة تعيد الاعتبار لفكرة تغيير العالم التي أحبطتها الهزائم المبكرة والمتأخرة؟ هل تسمح موازين القوى لأصحاب المصلحة في التغيير بخوض معركة ممكنة مع الاستبداد الداخلي والاستعباد الخارجي ومواطن خلل العدالة الدولية والمؤسسات السياسية الأممية؟ هذا هو مربط الفرس في استكمال مواجهة المثبطات وتحرير الطاقات، ولهذا الحديث بقية.