خبر اصنعوا عرقا لا حربا-يديعوت

الساعة 08:22 ص|18 مايو 2010

اصنعوا عرقا لا حربا-يديعوت

بقلم: الداد باك (البقاع اللبناني)

 (المضمون: بعلبك في نظر صحفي اسرائيلي، بعد الحرب وقد غيرت وجهها لان قيادة حزب الله أدركت انه لا يكفي حشد الصواريخ للحرب بل يحتاج الى تشجيع السياحة والتجارة - المصدر).

        المدينة الضاجة تقف عن السير. فالشارع الرئيس مسدود أمام الحركة من جانبيه، وكل ذلك لأن شخصا ما استقر رأيه لسبب ما على اقتلاع الشارع. يقف تجار من منطقة البحر المتوسط عند مداخل حوانيتهم، ويجادلون بحماسة نظراءهم من المشاغل بالجوار ويشاهدون أعمال الحفر التي تتم رويدا رويدا. ويشرف جيران على ما يجري من شرف البيوت المجاورة ولا يحجب بعضهم عن بعض آراءهم. ومندوبون عن "قوات الأمن الداخلي"، يرتدون بزات عسكرية منمرة، وعلى رؤوسهم القبعات وتزمزم أجهزة الاتصال في أيديهم، يراقبون الساحة بنظرة جدية توعدية. وعلى نحو غير مفاجىء، يشغل أناس كثير أنفسهم بمراقبة ما يحدث والتعبير عن رأي في طريقة اتمام ذلك أكثر من اولئك الغارقين في واقع الأمر في أعمال الحفر.

        في قلب الشارع العاج، المقلوب رأسا على عقب، تقوم أعمدة نور، مثل جزر استقرار في العاصفة المحيطة. وترف فوقها صور نبيه بري الرئيس الخالد لمجلس النواب اللبناني – وهي أرفع وظيفة سياسية يستطيع لبناني شيعي الطموح اليها – وزعيم حركة أمل الشيعية، خصم حزب الله وشريكته. وترف الى جانبها أعلام سوداء عليها شعار أمل، تذكرنا بأن الوقت هو أواخر "الاربعين" – وهي فترة الحداد الشيعية التقليدية التي تذكر بموت آباء هذا التيار الديني. "حسن، واضح لك من الذي ينفق على إعادة بناء الشارع"، يقول لي ساكن محلي تند عنه ضحكة، "هكذا تكون الحال في لبنان عندما توجد انتخابات: يتذكر الساسة انه يجب عليهم فعل شيء ما من اجل الناخبين. تأتي اذن الانتخابات المحلية وتحفر الدولة كلها". ومع ذلك كله: أنبيه بري في قلب بعلبك وهي حصن حزب الله الذي لا اعتراض عليه؟

        يشير وجه بعلبك اليوم الى الاتجاه الذي يسعى اليه الامين العام لحزب الله حسن نصر الله. قبل 14 سنة، في زيارتي السابقة للمدينة. كانت هذه المدينة التاريخية، الشهيرة بفضل المعابد الرومانية التي حفظت فيها في وضع جيد جدا ومهرجان الفن الدولي الذي يجرى بين هذه الآثار القديمة كل صيف، كانت شاحبة وحزينة ومغلقة ومنطوية. في أثناء الثمانينيات، بعد الغزو الاسرائيلي للبنان، قام في بعلبك برعاية سورية الحرس الثوري الايراني. من هنا بدأوا في تغيير وجه الطائفة الشيعية اللبنانية وإدارة النضال العسكري لاسرائيل وسائر القوى الغربية التي أقيمت في الدولة الممزقة النازفة. أغلقت بعلبك – "مدينة الشمس"، كما سماها الرومان، أبوابها أمام العالم وأصبحت أحد مراكز القوة الرئيسة للحركة الجديدة، لحزب الله.

        أتذكر بعلبك مليئة بأعلام حزب الله ولافتات لقادة الثورة الاسلامية في ايران واعلانات تنديد تمج السم في مواجهة اسرائيل. سيطر الفقر آنذاك على الأزقة، وكانت حوانيت كثيرة مغلقة أو فارغة، وجالت النساء متدثرات بملابس سوداء غطت أجسامهن كلها. كان الموقع الأثري مهملا، واختار  سياح قليل فقط الاتجاه شمالي بيروت بـ 55 كيلومتر من أجل المدينة المعزولة في شمال البقاع اللبناني.

        مرت 14 سنة وأصبحت بعلبك مدينة مختلفة. يمكن الشعور بالتغيير في الطريق اليها، في شوارع البقاع. الى جانب اعلانات حزب الله تنصب نشرات لمدينة زحلة – عاصمة البقاع المسيحية التي تفخر بانتاج عرقها ونبيذها. في بدء طريق حزب الله أرسل أناسه الى الحانات وإلى النوادي في غرب بيروت المسلم للقضاء على مجامع المشروبات الروحية. يمكن اليوم التمتع بالنبيذ اللبناني الممتاز من معاصر قصرة وبالعرق الزحلاوي الخالص في مطاعم بعلبك بل شراء المشروبات الروحية بلا قيد ما في أكثر الحوانيت.

        والى ذلك تفتتح بين آثار معبد جوبتر والهيكل شبه التام لمعهد باخوس اله الخمر الاستعدادات لمهرجان بعلبك في تموز، في أمل ألا تفجر دراما جديدة في الشرق الاوسط الخطط مرة أخرى. أسس هذا المهرجان الفني وهو الأول في العالم العربي، في منتصف الخمسينيات واجتذب اليه في أيام عظمة لبنان أفضل الفنانين العرب والدوليين. كف عن نشاطه في أثناء الحرب الأهلية اللبنانية، وجدد في 1996 رمزا لاعادة بناء لبنان التي نهضت من أنقاضها. على أثر حرب لبنان الثانية أجمد مرة أخرى مدة سنتين بعد أن وصلت قوة كوماندو اسرائيلية الى مشفى في ظاهر المدينة. سينشر برنامج المهرجان للسنة القريبة في نهاية الشهر.

        "هذا أكبر اسهام لنصر الله في تغيير الوضع في لبنان"، يقول أحد المحليين. "أدرك أنه يجب المضي نحو الناس. انه براغماتي لا عقائدي متطرف. انه سياسي في نفسه ولهذا يعلم أنه يجب التنازل. لهذا لا يبرز الجوانب الدينية لحزب الله بل يتحدث عن الكرامة الوطنية وعن الوحدة الوطنية. وهذا السبب الذي يجعل له مؤيدين كثيرا بين طوائف أخرى. والى ذلك، الصورة التي نشأت له والهالة التي ألصقت به لا تعبران عن الواقع. فهو ليس شديد الكمال بل فعل أخطاء كثيرة. كان أحدها اختطاف الجنود الاسرائيليين في 2006 الذي أفضى الى الحرب والدمار والخراب".

        الثورة الهادئة

        برغم الدمار العظيم الذي سببته المغامرة العسكرية في صيف 2006، ما زال نصر الله تراه أجزاء كبيرة من السكان على اختلاف الطوائف، هو المنتصر الأكبر من المواجهة مع اسرائيل ورمز "مناضلة الاحتلال"، الذي نجح في أن يبين أن لبنان الصغير والضعيف والمنقسم قادر على التغلب على عدو خارجي قوي صلب. صوره معلقة في الحوانيت وفي بيوت خاصة، ويمكن أن نرى على جوانب الشوارع لافتات ضخمة تحمل صورته مع اللحية والابتسامة، الى جانب المثل  العربي: "يا جبل ما تهزك ريح". والجبل هو نصر الله والريح هي اسرائيل. يتحدث السكان المحليون عنه باجلال كبير. لا يسمونه باسمه بل بلقب التكريم "السيد".

        نصر الله غير معني بأن يكتب في التاريخ على أنه زعيم طائفي – فئوي آخر، ممن عرف لبنان ودفن كثيرا منهم. يريد ان يصبح زعيما وطنيا، من أجل ان يغير حقا وجه لبنان. ومن أجل ذلك يمد يده نحو كل اتجاه ويعقد أحلافا. استعدادات للانتخابات البلدية قرر حزب الله وأمل المنافسة في قوائم مشتركة وأن يعززا بذلك الحلف السياسي الذي بدأ بينهما على أثر الهبة الشعبية المعادية لسورية الواسعة التي أتت بعد مقتل رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري. الحزبان الشيعيان اللبنانيان حليفان لسورية. ان الموجة الوطنية الكاسحة التي أفضت الى انهاء الاحتلال السوري لبلاد الأرز قبل خمس سنين، عرضت للخطر الانجازات الكثيرة التي سجلها الشيعة لانفسهم بفضل "تهريب اسرائيل من جنوب لبنان". لم يبق لحزب الله المتدين ولأمل التي هي أكثر علمانية من خيار سوى التعاون.

        بوتيك حزب الله

        لا يمد نصر الله يده الى خصومه في المعسكر الشيعي فحسب بل يريد ان يقنع الجمهور اللبناني كله بأن "المارد" الشيعي الأصولي ليس تهديدا. عندما فحص عن نتائج الانتخابات العامة الاخيرة في لبنان، التي أجريت قبل نحو من سنة، أدرك انه لا خيار له سوى فعل ذلك. برغم الانجازات العسكرية والسياسية لحركته في العقد الاخير، بقي تمثيلها في مجلس النواب في بيروت بلا تغيير – 12 مقعدا فقط من 128 مقعدا.

        في اطار الجهد المركز لعرض حزب الله على أنه حركة وطنية لبنانية عامة يحرص نصر الله على مضاءلة اظهار صلاته وصلات حركته بايران. يمكن أن نلحظ قبل دخول بعلبك لافتة ضخمة تحمل صورة والد الثورة الاسلامية آية الله الخميني، لكن هذا هو الحضور البصري الوحيد الذي ينم عن الرعاة من طهران. "على نحو مفارق شيئا ما"، يعترف مسيحي محلي، "تبنى حزب الله رموز لبنان الرسمية وفي ضمن ذلك أرز لبنان، الذي استعمله من جملة من استعمله القوات المسيحية التي أرادت لبنان مسيحية تماما. أدركوا في حزب الله ببساطة أن مستقبلهم كامن في الذوبان، خارجيا في الأقل في الواقع اللبناني الأساسي".

        والى ذلك أدركت قيادة حزب الله، بطبيعة الأمر ان مستقبلها السياسي سيكون متعلقا أيضا بالتطوير الاقتصادي لمؤيديها وللمناطق التي تسيطر عليها. جرب البقاع اللبناني، وهو أحد أشد المناطق فقرا واكتظاظا في الدولة – برغم أرضه الزراعية الخصبة التي ما زالت تستعمل على غير رضا من الدولة في زراعة المخدرات – جرب في السنين الاخيرة نموا اقتصاديا واستثمارات في البنية التحتية. أعيد بناء نظام الشوارع خارج مواسم الانتخابات ايضا، ويمكن أن نرى في كل مكان دارات جديدة. كذلك حل محل السيارات القديمة البطيئة طرز كبيرة براقة، والحوانيت في شوارع بعلبك مليئة بكل لذيذ، والتجارة رائجة جدا. ليس الجميع يتمتعون الى الان بهذا الانفجار الاقتصادي. عند مداخل موقع بعلبك التاريخي يحرس حافلات السياح شبان كثير بغير شهادة ثانوية ويعرضون بيع قمصان مع رمز حزب الله أو قطع نقد رومانية مزيفة. الأسعار عالية جدا حقا لكنهم يحطونها سريعا جدا ويخفضون الطلب الى مستويات سخيفة كي يستطيع أن يأتوا البيت بشيء من المال. وفي واقع الأمر هم الى التسول أقرب منهم الى البيع. ولما كان السياح الغربيون غير متحمسين جدا لشراء قمصان حزب الله فان اسعارها تنخفض سريعا جدا لتبلغ دولارين. "بين السياح العرب فقط يوجد طلب لهذه القمصان"، يعترف حسن ابن السادسة عشرة.

        برغم المعركة على تجار المخدرات والالتزام الرسمي لمنع وصول السلاح  الى حزب الله، قل عدد الحواجز العسكرية في أنحاء لبنان كثيرا منذ اخراج الجيش السوري. يتم تفتيش سريع للسيارات في المعابر فقط بين منطقة وأخرى او عند مداخل المدن الكبيرة. يقوم بالمهمة جنود الجيش اللبناني الذي يوجد في مرحلة تجدد وتعزز. تقوم الحكومة المركزية بمعركة عامة لعرض الجيش على أنه بوتقة صهر وحيدة للمجتمع اللبناني والضمان الرئيس لوحدته. "يدا بيد سنبني لبنان الغد"، تقول نشرة من نشرات الجيش، تستعمل أيضا مصطلحات حركة المقاومة العسكرية لحزب الله. "فجر الشهادة لن يختفي"، تعد نشرات أخرى، "بالشهادة ندافع وبالعمل نحصد".

        يلعب المعسكران الخصمان في لبنان بورقة الوحدة الوطنية. فالمعسكر الموالي للغرب يعرض نفسه على أنه أكثر وطنية وينضم الى مناضلة اسرائيل. وحزب الله في  مقابلة ذلك يعرض الانفتاح والتسامح مع جميع الطوائف بل يشارك في اعادة ترميم الكنيس القديم في بيروت. بيد ان هذه رقصة تانغو الذئاب المستعدة في كل لحظة لأن ينقض بعضها على بعض.

        "المنظر الخارجي قد يضلل"، يحذر أحد المحليين. "الوضع هنا جد مختل وقابل للانفجار، ويمكن في كل لحظة أن ينشأ اشتعال جديد بين المعسكرات المتخاصة". ويوجد بطبيعة الأمر السياق الاقليمي: هل ستقع حرب جديدة في الصيف القريب؟ يتحدى نصر الله الاسرائيليين ويصرح مع السوريين عن أن اسرائيل في الجولة الحربية القادمة ستدفع ثمنا أكبر، ويعد حزب الله أيضا بالانتقام لاغتيال مسؤول المنظمة الكبير عماد مغنية. لكن هل لنصر الله اليوم مصلحة في المبادرة الى حرب جديدة؟ "السؤال هو ما هي خطط الجيش الاسرائيلي ايضا"، يقول الساكن المحلي، "وهل يستطيع أن يسكت عن تسلح حزب الله".

        أزيل عن وجه بعلبك على نحو شبه تام أيضا شعارات التحريض الهوجاء والمعادية للسامية المضادة لاسرائيل التي كانت جزءا لا ينفصل من مشهد المدينة عندما زرتها أول مرة. أدرك شخص ما أن اسلوب الدعاوة هذا قد يرتد مثل عصا مرتدة على وجه المدينة التي تجتذب مئات آلاف السياح كل سنة. مع ذلك، في أحاديث الى شبان لبنانيين من جميع الطوائف لا يخفون موالاتهم لحزب الله من البين ان غراء الوحدة الوطنية الضعيف يقوم في الأساس على مشاعر عداء عميق تام لاسرائيل. هؤلاء الشبان، الذين ولدوا بعد انقضاء الحرب الأهلية الفظيعة، يوجدون لانفسهم ايضا روايات تاريخية مريحة.

        "الحرب الاهلية؟" تساءلت أمامي طالبة جامعية شابة من بيروت تصر على أن تسمي اسرائيل "فلسطين المحتلة"، "لم توجد في لبنان حرب اهلية بل حرب بين قوى أجنبية. أخطأ اللبنانيين خطأ شديدا عندما اختاروا هذا الجانب او ذاك. ان تلك الحرب حركتها اعتبارات اقتصادية فحسب. لبنان بقعة خضراء في الشرق الاوسط موفورة الماء. ولهذا السبب وقعت هنا حرب". لا يوجد عندها ولو كلمة نقد للذات عن اسهام اللبنانيين في الكارثة التي جلبوها على أنفسهم بأيديهم. لكن بعد "نصر حزب الله الكبير" على اسرائيل لا تريد ان تسمع عن حروب أخرى. تقول "كان عندنا ما يكفي من الحرب، حسبنا".