خبر النيل همّ عربي ثقيل ..عبد الستار قاسم

الساعة 08:05 م|15 مايو 2010

النيل همّ عربي ثقيل ..عبد الستار قاسم 

دول منابع النيل تتحدث عن حصصها في مياه النهر، وبدأت منذ العام 1995 تعقد المؤتمرات بهذا الشأن وتضع الأفكار والمطالب التي تلقي بثقلها على السودان ومصر، ولا أظن أن المحاولات قد انتهت عند قمة شرم الشيخ الأخيرة التي انتهت بالفشل. دول المنبع ستستمر في محاولاتها التفاوضية من أجل الحصول على حصص من مياه النهر، وفشل المفاوضات لا يعني أنها ستمتنع عن استخدام مياه النهر بصورة متصاعدة مع الأيام. من المتوقع أن تأتلف هذه الدول فيما بينها وتقرر اتخاذ قرارات مائية بمعزل عن مصر والسودان، ومن المحتمل أن تجد من يؤازرها ويدعمها في الساحة الدولية سرا أو علانية.

 

 

من الوارد جدا أن متاعب مصر والسودان مائيا ستظهر تصاعديا في المستقبل إن لم يتم إيجاد الحلول العملية للمشاكل المائية التي تواجهها كل من دول المنبع والمصب، ومعها ليبيا أيضا التي تنعم بكمية كبيرة من المياه الجوفية جنوب شرق البلاد بفضل نهر النيل. وإذا تم دعم دول المنبع في جهودها لاستخدام نسب متزايدة من مياه النهر، فإن العرب سيواجهون كارثة كبيرة قد توازي أو تفوق كارثة فلسطين.

 

هناك حوالي 120 مليون عربي يعتمدون في حياتهم على مياه النيل، وهم، أو جزء كبير منهم، سيهيمون عطشا إن انخفض تدفق مياه النيل. ربما يستطيع السودان أن يتدبر أمرها جزئيا بسبب هطول الأمطار على مناطقه الجنوبية، وبسبب بعض الينابيع المنبثقة من أرضه، لكن الكارثة في مصر ستكون مهلكة.

 

 

الإقرار بحقوق الأمم

 

تحصل مصر الآن وفق اتفاقات عام 1929 على حوالي 55 مليار م3 من مياه نهر النيل، بينما يحصل السودان على حوالي 18 مليار م3. لقد تمت صياغة هذه الاتفاقات مع بريطانيا التي كانت مهيمنة في ذلك الوقت، وهي تعتبر مرجعية قانونية لأي بحث في اقتسام النهر.

 

من المعروف أنه لا يوجد قانون دولي معين واضح المعالم بشأن اقتسام مياه الأنهر بين الدول ذات العلاقة، لكن من العرف الدولي أن يتم التوافق بين مختلف الدول التي يمر منها النهر سواء كانت دول منبع أو دول مصب، على أن تبقي هذه الدول للنهر نفسه حصة تصل عرفيا إلى حوالي 25%.

 

 

الحصص المخصصة لمصر والسودان لم تعد تكفي، ومصر الآن بحاجة إلى أكثر من 10 مليارات متر مكعب إضافية. عدد السكان يزداد في مختلف الدول، وكذلك الاحتياجات المائية بسبب التوسع في الزراعة والصناعة والخدمات، والضائقة المائية لا مفر ستزداد.

 

 

نحن العرب نقر بحق الأمم في مياه الأنهر، ونحن بالتأكيد لا نريد أن نكيل بمكيالين بحيث نطالب تركيا بتسهيل جريان المياه إلى سوريا والعراق، وفي نفس الوقت ننكر على بوروندي وأوغندا وإثيوبيا وغيرها من الدول حقوقها في المياه. لكن هذا الاعتراف لا بد أن يأخذ بعين الاعتبار احتياجات مصر والسودان لأن المسألة بالنسبة لنا ليست مجرد رفاهية أو مجرد زيادة رقعة أرض زراعية، وإنما مسألة حياة أو موت.

 

بالنسبة للعديد من الدول، الحرص على استغلال أفضل للمياه يرتبط بمسألة التطور الزراعي والصناعي وزيادة الدخل القومي، لكن بالنسبة لمصر مياه النيل تعني الحياة، وبالنسبة للسودان قد تعني نصف الحياة. ولهذا يجب البحث عن حلول ترضي الجميع، وتبعد شبح الصدام.

 

الحل المائي الممكن

تحتضن أفريقيا أحد أكبر أنهار العالم وهو نهر الكونغو الذي تبلغ طاقته المائية حوالي 42 ألف م3/ثانية، أو حوالي 1350 مليار م3 سنويا. في حين تبلغ طاقة النيل المائية حوالي 2830 م3/ثانية، أو حوالي 90 مليار م3 سنويا. نهر الكونغو عبارة عن عملاق مائي مقارنة مع النيل، ومن الممكن أن يروي كل أفريقيا إذا تم استغلال مياهه بكفاءة عالية. مياه الكونغو تذهب كلها تقريبا إلى المحيط الأطلسي، وبسبب قوة تدفقه، يستطيع المبحر أن يشرب ماء شبه عذب على مسافة 500 كيلومتر داخل المحيط.

 

 

على الرغم من أن الهضبة الأفريقية التي تشكل مفرق المياه بين النيل والكونغو وعرة جدا، وتتسم بالجبال العالية والوديان السحيقة، فإن عملية التغلب على بعض الطبيعة واردة، ويمكن أن يتحسن مستواها مع الزمن. هناك تطور تقني عالمي يمكن أن يحفر في الطبيعة، ويمكن أن يتغلب على الكثير من الصعاب، لكن يبقى من الممكن تحسين استغلال مياه نهر الكونغو، وهذا يتطلب الكثير من الدراسات والأموال.

 

العرب يملكون الإمكانات المالية لدعم الدول الأفريقية بصورة عامة ودول منبع النيل بصورة خاصة. من المعروف أن الدول الأفريقية عموما فقيرة ولا تستطيع الاستثمار الواسع في قطاع المياه، ومن الأيسر على دول المنبع استغلال مياه نهر النيل، لكنها لن تُمانع إذا تقدم العرب بحلول عملية توفر لها المياه، وتحفظ لمصر والسودان حصصهما في مياه نهر النيل. أي أن الحل يتطلب توظيف أموال النفط لدعم قطاع المياه في أفريقيا، فهل توافق الدول العربية النفطية على التمويل؟ ربما توافق جزئيا، لكنها لن تذهب إلى آخر المشوار لتجنب مصر والسودان الهموم، وهذا يعني أن الاصطدام مع دول المنبع احتمال قائم.

 

 

هناك خطوات أخرى من الممكن القيام بها بالإضافة إلى استغلال مياه الكونغو وتتمثل باستغلال بعض الينابيع الصغيرة في الدول الأفريقية خاصة في إثيوبيا التي تقود حملة التحريض على اتفاقات تقسيم مياه النيل، والمساعدة في حفر الآبار الأرتوازية، وتحسين وسائل استخدام المياه باستبدال وسائل حديثة -مثل الري بالتنقيط- بأخرى قديمة.

 

 

الضغط المتوقع

ستواجه كل من مصر والسودان ضغوطا من أجل إعادة صياغة الاتفاقات الموقعة، ومن أجل اعتراف الدولتين بحقوق دول المنبع والتنازل عن بعض حصصهما من مياه النهر. هذه الضغوط، ضمن الظروف الدولية القائمة حاليا، ستكون مرتبطة بمصالح الدول الغربية بخاصة الولايات المتحدة.

 

لا أرى الآن أن أميركا والدول الأوروبية ستحرض دول المنبع لتنفيذ مشاريع مائية تؤثر على حصص مصر والسودان، لكن هذا مرتبط بالظروف، وإذا تغيرت مواقف مصر السياسية تجاه إسرائيل أو إيران أو الوحدة العربية أو امتلاك التقنية المتطورة فإنه ستكون لأهل الغرب مواقف أخرى. هذا ليس من قبيل الخيال، إنما حصل في عهد عبد الناصر أن حرضت أميركا دولا أفريقية للتأثير على مجرى النهر.

 

 

"

الضغط الأكبر المتوقع على مصر والسودان في قضية النيل يأتي من إسرائيل التي تعمل على أن تصبح مياه النيل ورقة بيدها  تلوح بها إذا اتخذت مصر أو السودان مواقف سياسية وعسكرية قد تؤثر سلبا عليها

"

الضغط الأكبر المتوقع على مصر والسودان يأتي من إسرائيل لأنها معنية بتدعيم مواقفها وأوراقها في مواجهة العرب حتى لا يحاولوا مضايقتها مستقبلا. ربما لا تحمل إسرائيل الآن نوايا تحريضية، لكنها تعمل على تحسين علاقاتها مع الدول الأفريقية لكي يزداد نفوذها فيها، وتصبح مياه النيل بدرجة أو بأخرى ورقة بيد إسرائيل تلوح بها إذا اتخذت مصر أو السودان مواقف سياسية وعسكرية قد تؤثر سلبا على إسرائيل.

 

إسرائيل ليست سعيدة الآن بمواقف السودان السياسية، لكن السودان غارق بما يكفيه من الهموم والمشاكل، وإذا استطاع السودان استعادة وحدته الوطنية فإن إسرائيل لن تعجز عن إثارة مشاكل جديدة. وإذا تمت معاقبة السودان بمياه نهر النيل، فإن مصر سيصيبها الضرر الأكبر وليس السودان.

 

 

إسرائيل لعبت في السابق من خلال جنوب السودان، وما زالت أبواب اللعب مفتوحة حتى الآن. إسرائيل حرضت الجنوبيين ضد السودان وسلحتهم ودربتهم، وليس من المستبعد أنها ستستعملهم في المستقبل بخاصة إذا انفصلوا وأقاموا دولة مستقلة.

 

 

الإجراءات المطلوبة عربيا

أرى أن الإجراءات التالية مطلوبة عربيا بخاصة من مصر:

أولا: على المستوى المصري، من المتوقع أن تنشط الدبلوماسية المصرية لتعطيل أي موقف جماعي لدول المنبع لصياغة اتفاقية مائية جديدة بدلا من اتفاقية عام 1929. ستجري مصر اتصالاتها مع دول المنبع ومع الولايات المتحدة والدول الغربية، وأرى أن هذه الاتصالات ستثمر مؤقتا، لكنها لن تقضي على القلق العربي.

 

ثانيا: تحسين علاقات العرب مع الدول الأفريقية وإعادة أجواء الوئام العربية الأفريقية التي سادت إلى حد كبير في عهد الرئيس عبد الناصر، وعقب حرب 1973. العرب مقصرون في هذه الناحية، وعليهم رفع مستوى الحوار العربي الأفريقي، ورفع قيمة المساعدات المالية لدول أفريقيا وقيمة الاستثمارات فيها، ودول النفط والغاز تتحمل مسؤولية الإنفاق.

 

ثالثا: تشجيع دور الجامع الاجتماعي والثقافي في مختلف الدول الأفريقية.

 

رابعا: العمل على تحسين ظروف جنوب السودان، وتصحيح الأخطاء التي ارتكبها السياسيون العرب بحق الجنوبيين، والعمل على وقف إجراءات الانفصال. انفصال الجنوب السوداني خطير بخاصة أن إسرائيل ستجعل من الجنوب قاعدة عملياتية لها لاختراق أفريقا وللإضرار بمصر والسودان.

 

خامسا: وقف التدخل الإثيوبي في الصومال لأن العرب أعطوا لإثيوبيا انطباعا قويا بأنها القوة التي يعتمد عليها في مواجهة خصومهم الداخليين، وهي لا تجد مانعا أمامها لتحريض دول المنبع بالمزيد وصنع حالة التوتر مع الأنظمة العربية.

 

 

الوحدة العربية

 

الإجراءات أعلاه مهمة جدا، لكنها لا تقدم علاجا إستراتيجيا. العلاج الإستراتيجي يكمن فقط في وحدة العرب لأنهم بذلك يصونون وطنهم ومصالحهم ومصادر عيشهم. العرب لا يتقدمون نحو الأفضل، وتشير أغلب الإحصاءات إلى أن التدهور حاصل في مجالات عدة على رأسها مجال الوحدة الوطنية. فشل العرب في تحقيق الوحدة، وفشلوا في صيانة الوحدة الوطنية في أقطارهم القبلية وغير القبلية. العرب متنازعون داخليا، والأمم تتطاول عليهم، ومشاكلهم وهمومهم تتفاقم.

 

قطعا الأسباب وراء ذلك كثيرة، لكنني أرى أن فشل العرب في تحقيق الوحدة يدخلنا جميعا في متاهات الإحباط والعجز والهزيمة مما يرفع من وتائر تنازعنا الداخلي وتنابذنا وتوجيه الاتهامات والاتهامات المضادة. لقد ثبت أن الدولة العربية القطرية القائمة الآن هي نقيض الاستقلال، ورديف التخلف والتنازع.

 

 

إذا أردنا حلا لمشاكلنا المتعلقة بالمياه أو التعليم أو الاحتلال الأجنبي أو المحافظة على الثروات أو الاحترام إلخ، فلا يوجد أمامنا سوى الوحدة العربية. الأمر ليس سهلا، لكن المسيرة تبدأ بخطوة، شريطة أن يقوم بهذه الخطوة خبراء ومختصون يسلم لهم حكام العرب بما يرون من إجراءات.

 

عدا ذلك، علينا أن نتوقع المزيد من التدهور العربي، والمزيد من الهموم التي تأكلنا قطعة قطعة. بالأمس فلسطين، واليوم العراق، وغدا مصر والسودان. هذا ناهيك عن الدول التي تظن أنها مستقلة وهي لا تملك من أمرها سوى أعمال المختار (العمدة) المنسجمة مع سياسات السيد الأجنبي.