خبر يوم النكبة والخداع..معاريف

الساعة 11:21 ص|14 مايو 2010

بقلم: بن – درور يميني

                "النكبة" – أي قصة اللاجئين الفلسطينيين، هي أكبر نجاح في تاريخ العصر الحديث. نجاح كله خداع. لم تعد توجد مجموعة "لاجئين" في العالم تحظى بتغطية عالمية واسعة الى هذه الغاية. فلا يوجد اسبوع لا يعقد من أجل ذلك مؤتمر ثم مؤتمر آخر، في شأن الوضع البائس للفلسطينيين. ولا يوجد حرم جامعي في الغرب لا يفرد ما لا يحصى من المناسبات والمؤتمرات والنشرات كل سنة او كل شهر تذكيرا بالنكبة الفلسطينية. لقد اصبحوا الضحية الوحيدة. وقع مليون أزمة ومظلمة وطرد وتبادل سكان ومذابح وحروب في العالم منذ أعلن العرب، وفيهم الفلسطينيون ، حرب ابادة لاسرائيل – لكن "نكبة" الفلسطينيين تحتل اكبر مساحة. سيظن ضيف اجنبي يأتي من كوكب آخر الى القرى الارضية ان هذه هي المظلمة الرئيسة التي جربها الكون منذ الحرب العالمية الثانية بحيث أنه يحسن تحطيم هذه الاكذوبة. يحسن ان نعرض الحقائق. ويحسن أن نبين عن الخداع.

        أتى اليهود أرض اسرائيل التي كانت جزءا من الدولة العثمانية، في موجات كثيرة غير كبيرة، قبل الهجرة الاولى. فهل طردوا ملايين العرب من هنا؟ لا جدل في أنه لم يكن في تلك السنين "فلسطينيون" ولم توجد "فلسطين" ولم تكن "هوية فلسطينية". ولم يكن في الاساس حد حقيقي بين العرب من سورية او مصر او لبنان او الاردن. كانت هنالك حركة دائمة للناس.  في السنين التي احتل فيها محمد علي وابنه هذه المنطقة 1831 – 1840، ارسلا عربا كثيرا من مصر الى غزة ويافا ومدن اخرى.

        يوجد جدل بين المؤرخين في عدد العرب الذين سكنوا في تلك السنين داخل "فلسطين"، التي كانت في واقع الامر لوائين يخضعان لسورية كجزء من الدولة العثمانية. أكثر الشهادات جدية فيما كان قبل الهجرة الاولى هي شهادة منسية او ربما انسيت. يصعب أن نجد لها ذكرا عند كثير من المؤرخين الذين يبحثون عن تلك الفترة. الحديث عن وفد استطلاع من باحثين من بريطانيا، جاس خلال أرض اسرائيل الغربية في السنين 1871 – 1878 من دان الى بئر السبع، ونشر خريطة استيطان دقيقة اصيلة في 26 جزءا نادرة في نوعها وصدقها. لقد وجد الباحثون هنا عددا قليلا من البلدات الضئيلة. نشر الصحفي زئيف جليلي تحقيقا شاملا على اثر نشر الخريطة، ووجد أن حيفا مثلا كانت بلدة مساحتها 440 مترا في 190 مترا. لا أكثر. وكانت عكا والناصرة أكبر كانت مساحتهما 600 متر في 300 متر. وكانت مساحة يافا 540 مترا في 240 مترا. ووقعت القدس بين الاسوار وكانت ضخمة نسبيا في حدود الف متر في الف متر. وقف عدد السكان العام على نحو من مائة الف نسمة. تبين مجموعة صور نادرة في أرض اسرائيل في تلك السنين مساحة البلدات وتعطي نظرة آسرة اخرى لتلك الايام.

* * *

        ثمّ من يعرضون الجولة المشهورة لـ "احاد هعام" في ارض اسرائيل، في سنة 1891، والذي وجد ايضا حقولا مفلوحة زاهرة. بيد أنه يبدو ان انطباعات "احاد هعام" تصبح قزما إزاء طائفة من المعطيات القوية من تلك الفترة. كان مارك توين ضيفا لمدة قصيرة مثل "احاد هعام"، ساح في البلاد في سنة 1865 "أرض خاوية تربتها غنية جدا بيد أنها لا تنبت سوى الشومر والشث، وهي منطقة ساكنة حزينة. توجد هنا أرض مهجورة لا يستطيع حتى الخيال ان يمنحها مجد الحياة والفعل. بلغنا جبل الطابور بسلام... لم نرَ طول الطريق نسمة حية... تقع أرض اسرائيل في الوحل والغبار... ساكنة ومظلمة جدا... الصحارى فارغة من الناس..." وكان مثله ايضا هنري بيكر تريستام الذي أجرى بضع زيارات الى البلاد في تلك السنين وأوصافه شديدة القرب من أوصاف توين.

        كتب جيمس بن، القنصل البريطاني في القدس لمدة 17 سنة (1845 – 1862)، الذي جال البلاد طولا وعرضا ونشر كتابا يصف أرضا قليلة السكان مخيفة تنتظر سكانا يخلصونها، كتب شهادات أكثر تحقيقا. في مذكرة ارسلها الى بريطانيا في 1857 ذكر ان "البلاد خالية من السكان في الاساس".

        لكن يبدو ان معطيات وفد التحقيق فوق كل خلاف. ليس الحديث عن ضيوف لمدة قصيرة. الحديث عن باحثين مكثوا هنا سنين وبحثوا البلاد، وانتقلوا من بلدة الى اخرى، وقاسوا كل جبل وبلدة وتل، ونشروا 6 مجلدات. زعم أحد الباحثين وهو آرثر بنرين ستانلي عن منطقة يهودا قائلا: "لا نرى نفسا حية في ميل مربع".

* * *

        برغم هذه النتائج، يوجد جدل شديد بين الباحثين والمؤرخين وعلماء السكان في عدد العرب الذين سكنوا المنطقة قبل الهجرة الاولى. تراوح التقديرات بين مائة الف بحسب وفد التحقيق البريطاني وبين مئات الالاف بحسب باحثين آخرين. ويثور جدل آخر ايضا في شأن سعة الهجرة العربية الى اسرائيل على أثر الصهيونية. تناول هذا الشأن ايضا باحثون آخرون، موشيه برفر وموشيه شارون وآخرون. قال وينستون تشرتشل في 1939 "برغم أن العرب لم يطاردوا تدفقوا جموعا الى البلاد وكثروا فيها الى أن ازداد السكان العرب اكثر مما يستطيع كل يهود العالم زيادة السكان اليهود". يوجد عشرات مصادر معلومات اخرى عن السكان العرب القليلين قبل الهجرة الاولى، وعن الهجرة العربية التي يختلف في مقدارها منذ بدء الصهيونية.

        ان كتاب جيوان بيترز، "منذ القديم"، الذي يعرض معطيات كثيرة عن الهجرة الفلسطينية، مختلف فيه جدا. دحض جزء من المعطيات التي تظهر هناك ولكن باحثين اكثر جدية، مثل اريه افنيري (الذي يدحض دعوى السلب والاستعمار) وفيرد غوتهيل يعرضون صورة وضع صادقة محققة، تؤسس أسس دعاوى بيترز. وعندما نضم ذلك الى شهادات وفد التحقيق، والى كتاب ومذكرة بن – تكون النتيجة قاطعة لا لبس فيها. وهي انه قد كان قبل الهجرة الصهيونية الاولى في ارض اسرائيل سكان قليلو العدد على نحو مخيف.

* * *

        اشتملت مساحة الانتداب الاصلية بحسب تصريح بلفور على ضفة الاردن الشرقية. كانت المنطقة كما قلنا آنفا قليلة السكان على نحو مخيف. ما كانت اقامة وطن قومي للشعب اليهودي لتسبب أي مظلمة، لانه لم تكن هنا دولة ولا شعب. وكانت هذه هي الخلفية الحقيقية لتصريح بلفور. في 1922 اقتطعت عصبة الامم من المنطقة الموعودة لمصلحة العائلة الهاشمية، وبعد ذلك بسنة اقتطعت هضبة الجولان ايضا من أجل الحكم الفرنسي في سورية.

        وقع تنكيل باليهود في الفترة العثمانية ايضا. وزاد في ايام الانتداب البريطاني. قادت المقاومة اللجنة العربية العليا التي رأسها الحاج امين الحسيني. ضم الزعيم الفلسطيني نفسه الى دول المحور. ودعا الى كراهية اليهود وابادتهم وقضى ايام الحرب العالمية الثانية في برلين. "للمفتي ولهتلر عدو مشترك هو اليهود"، اعلن فيلم الماني يصف لقاء الاثنين. لم يتحدث المفتي فقط بل فعل ايضا. فقد أقام كتائب الهانزر المسلمة التي حاربت في صفوف هتلر.

* * *

        في موازاة قرار الامم المتحدة على اقتراح التقسيم، أعلنت الدول العربية حرب ابادة لاسرائيل. والنتيجة معروفة. فقد افضى اعلان الحرب الى ان اضطر مئات الاف من العرب الى الهجرة الى البلدان المجاورة. هرب كثير منهم، وشهد كثير بانهم اضطروا الى المغادرة بضغط من الزعماء. وكان منهم من طرد في أوج المعارك والحرب. أصبح نحو من 600 الف نسمة لاجئين.

        التجربة التي جرت على العرب أصبحت هي "النكبة"، التي أخذت قصتها تنفخ على السنين. اصبحوا المطرودين الوحيدين على الارض والنزاعات. ولا توجد اكذوبة اكبر من هذه. اولا لانه قد حدثت في مقابلتها "النكبة اليهودية": فعلى نفس الخلفية لنفس المواجهة، اضطر اكثر يهود البلدان العربية ويزيدون على 800 الف الى مواجهة السلب والطرد. لم يعلنوا حرب ابادة على الدول التي سكنوها. وثانيا وهو أهم جرت على اكثر من 50 مليون نسمة تجربة تبادل سكان نتيجة صراعات قومية او نشوء دول قومية جديدة.

        لكن الفلسطينيين وحدهم من جميع المجموعات، يلقبون بلقب لاجئين منذ أكثر من ستين سنة. وقد نزحوا في ان ينشئوا لانفسهم رواية تاريخية متميزة. أخذت هذه الاسطورة تزداد انتفاخا بمساعدة وكالة الغوث  وهي جهة انشئت لعلاج اللاجئين الفلسطينيين علاجا مستقلا عن علاج سائر اللاجئين في العالم على يد منظمة (UNHCR). يساعد اكثر دول العالم، وفيها اسرائيل، في اقامة وكالة الغوث التي تعمل في التحريض. المأساة هي انه لو حظي الفلسطينيون بمعاملة وعلاج مشابه من الجماعة الدولية لكان وضعهم اليوم افضل كثيرا.

        تعرض السلطة الفلسطينية وثيقة تزعم أنه توجد سوابق لـ "حق العودة". والمثل الاكثر جدية الذي يعرض هناك هو اتفاق دايتون في 1995. في واقع الامر، احبطت كرواتيا العودة، وحتى لو تحققت لما قوضت وجود كرواتيا بكونها دولة قومية للشعب الكرواتي. وكذلك ليس سائر الامثلة التي يعرضها الفلسطينيون من افريقيا وامريكا الجنوبية ذات صلة بتبادل السكان الكثير في العالم، ومن المحقق انها كذلك فيما يتعلق بتبادل السكان بين البلدان العربية واسرائيل.

        ان التناول الاكثر جدية لقضية حق العودة موجود في اتفاق قبرص الذي بادر اليه الامين العام للامم المتحدة السابق كوفي عنان. حظي هذا الاتفاق ايضا بمباركة الجماعة الدولية عامة والاتحاد الاوروبي خاصة. وليس صدفة ان الفلسطينيين لا يذكرون السابقة القبرصية. لان حق العودة قد حدد هناك بحيث تقف الاكثرية التركية دائما على 80 في المائة في الاقل.

* * *

        قال عزمي بشارة في الماضي انه "لا توجد امة فلسطينية. هذا اختراع استعماري. لم يوجد فلسطينيون قط". بشارة على حق. قال ذلك قبله ايضا احمد الشقيري وحافظ الاسد وكثيرون آخرون مثلهما. بيد أنه يجوز عرض موقف مختلف. فالفلسطينيون يرون أنفسهم شعبا وقد صاغوا هوية وطنية مستقلة، وارادتهم كرامتهم.

        احدى الدعاوى الفلسطينية انه ينبغي الاعتراف من أجل حل النزاع بالنكبة الفلسطينية، ولا سيما المسؤولية الاسرائيلية عن مشكلة اللاجئين. الحقيقة عكسية. وهي ان تنمية اسطورة النكبة هي التي تعوق حل النزاع. لان الفلسطينيين مشغولون بتعظيم المشكلة ونفخها وعرض مطلب شاذ عن كل سابقة دولية. لقد نسوا انهم هم الذين فضلوا تأييد محور الشر النازي. وهم الذين رفضوا اقتراح التقسيم. وهم الذين اعلنوا الابادة. وهم الذين بدأوا الحرب. وبهذا فانهم يخلدون معاناتهم فقط. وبرغم كل ذلك يستحق الفلسطينيون الاحترام والحرية والاستقلال ايضا. لكن الى جانب اسرائيل، لا بدل اسرائيل. ولا بواسطة النكبة التي ليست سوى خدعة سياسية وتاريخية.