خبر أسيرة محررة تخرج عن صمتها وتروي ما تعرضت له في سجون الاحتلال

الساعة 06:11 ص|07 مايو 2010

أسيرة محررة تخرج عن صمتها وتروي ما تعرضت له في سجون الاحتلال

فلسطين اليوم: غزة - فلسطين

"كنت أنظر إلى التلفاز بذهول، فالأسرى فوق بعضهم عرايا، والكلابُ تمر "بانكسارِ" أمام أجسادٍ عاريةٍ " مصلوبة " على قضبان أبواب الزنازين، تغطي وجوههم "أكياسا" حمراء..

ياااه "أبو غريب" مشهدٌ أيقظ "خوفا" داخلي، وحَصر ذاكرتي في ثلاثة أشهر استنفذتُ فيها قلقي ودموعي..

ثلاثة أشهر "خُزّنتُ" فيها بسجن "السرايا" أذوق بقهر ألوان التعذيب الحارقة، وأتنفس "بركانَ" ذل وإهانة و"تحرش جنسي".. صوت التلفاز مُرتفع والصور تحتل عرض الشاشة وأنا أشاهدها مُرفقة بشَبحِ "ذكراي" المرعب..

صرختُ وانتحبت و"سقطَ" مني جسدي على الأرض، لم أشعر سوى بيديه السمراء على كتفي، يقول بهدوء لا تقلقي "جوهرتي" المكنونة أنا معك.. فَجّري ما يتثاقل من صخر على صدرك، أنتِ الأنقى والأطهر"..

الأسيرة الفلسطينية المحررة إنعام حجازي "أطلقَت" لسانها" بوحاً "تحاربُ "شيطان" سكوتها وتقول للعالم كله، "نعم.. في السجن، تعرضت لتحرش جنسي، وهُددت بالاغتصاب، وتعرى أمامي أقبحُ شياطين الأرض، لأعترف..وما اعترفت، ولما خرجت رافعة رأسي، كسَّر القانون الاجتماعي رقبتي، وهربَ من "بطولتي" كلُ الرجال، عداه هو "أعظمهم".. زوجي الثاني ونصفُ روحي، أبو علي".

بدأت بـ " أحلام"

بعدَ أربعينَ عاماً "دَقّت" إنعام حجازي برفقة "فلسطين" باب "ذكرى" صدئاً، تُخفي خلفه أصعب ما يُمكن أن يؤذي المرأة، وهو "الاعتداء الجنسي".. تُداري جسدها وتستذكر قائلة : "سُجنت قبل 40 عاماً بتهمة مساعدة المقاومة، ولم أكن قد تجاوزت السابعة عشرة بعد، واجهتُ بثلاثِة أشهر قَضيتهم في الأسر الكثير من القذارة والذل والإهانة.. مُحاولَتَيْ تحرش جنسي، وتهديدٌ بالاغتصاب"..

تتأكد من اتساع ثوبها و"سترته"، كأنما هي مع نفسها لا ترانا، وتُطرق لصمت قليل كسرته ابتسامة أطلقتها نحونا: "أبو مصلح هو المُحقق الذي لن أنساه، وسيبقى اسمه "القذر" يتردد في عقلي إلى أن أقتص منه يوم التقاء الخلق برب العباد، سأقاضيه على خدشه لحيائي، وأدعو الله أن يحرقه بلظى جهنم"..

 

تُفصل قصتها كاملة بحياء تتورد به وجنتيها البيضاء "كنت طالبة في الثالث الإعدادي لما التحقتُ بصفوف المقاومة، أساعد فريق مجاهدين من الجبهة الشعبية، بنقل الأسلحة والطعام، لم أكن أعرف كيفية استخدام السلاح، فأنا كساعي البريد أنقل ما يطلب مني فقط بَعد انتهاء دوامي المدرسي، وأعود للمنزل قبل المغرب".

لُقبت إنعام بـ "الصغيرة" قبل أن تنضج لتُصبح "أحلام" حاملة السلاح، تقول بفخر جميل يَبرُق بعينيها السوداويين: "تدربت على حمل السلاح واستعماله بعد اقتناع قائد مجموعة الجبهة التي أخدمها، عبد الحليم أبو شهاب بنضجي وذكائي لمّا غيرت مساري عنهُ، بالقربِ من المدرسة حتى لا أثير الشُبهات حولي وحوله، فلقبني بأحلام وأشركني فريقه التدريب والمُقاومة".

لم تَخْفَ "مشاوير" إنعام عن عين "إسرائيل الشريرة" التي نشرت سحرها الأسود في كافة أرجاء القطاع، إذ كانت تحتله كاملا عام 1970، وهو العام الذي اعتقلت فيها " أحلام " المُقاومة..

رسمت بكلماتها مشهد اعتقالها قائلة :"طرقات الباب القوية أجبرت والدي على الخروج ليجد أمامه جيباً إسرائيلياً مُحملاً بالجنود، اعتقد أن المُستهدف من تلك العملية أخي الأكبر، وتفاجأ جداً لما طلبني قائدهم بالاسم"، مستدركةً وكأنما تحاول رسم صورةٍ مفصّلة :"خرجتُ وسط ذهول والديّ، وقد أخفيت عنهم أمر انضمامي للمقاومة، في حين بُحتُ بسري لإخوتي الذين أخفوا هم بالمقابل - في أغلب الوقت- خروجي للجهاد".

أبو مصلح".. أقذر القذرين

"لم تكن رهبة الأسر وما فيه تخيفني، إذ إنني على علم بمجمل تفاصيل أساليب التعذيب التي تدربت على تحملها، ولكن ما أدخلني دوامة التساؤل هو نظرة المجتمع لي بعد تحرري"..

نارين.. عاشتهما ضيفة " فلسطين".. فإنعام الفتاة النضرة تتطلع لحياة اجتماعية مزيّنة بالأبناء الذين خَشِيَت أن يحرمها "ظن" المجتمع منهم، و"أحلام" حاملة السلاح تَرقبْ دخولها السجن لتَعرف الحُكم..

تتابع :"أنكرتُ علاقتي بالمقاومة، وانتمائي لها، واكتفيت بـ "لا"، حتى واجهني المحقق باعتراف زميلتي مبروكة عكاشة عليَّ باسمي الحقيقي والحركي، فرفضت التحدث وبقيت صامتة على كرسي صغير أمام طاولة خشبية تعلوها بعض الأوراق وهاتف أسود بقرص دائري، حتى أحس المحقق بالعجز وخرج".

ضمت يديها بقوة "مُستَنفرة" وقالت :"خرج المحقق ودخل أول القذرين، جُندي أسود، خلع قميصه وهَّم بخلع بنطاله، لم أدر ولم أتوقع ما يحدث، وقبل أن أصل لنتيجة، حملتُ الهاتف الأسود ورميت الجندي به فوقع مضرجاً بدمائه وهرب خارج الغرفة، واقتُدت بعدها مُكبلة إلى زنزانة صغيرة سبقتني إليها رفيقتي مبروكة، امتنعنا عن التحدث خوفاً من المراقبة، مكتفيات بالإشارة".

تدربت أنعام على تحمل كل مراحل التحقيق، ولم يخطر في بالها أنه سيصل إلى "الاغتصاب"، حتى نبهتها إحدى زميلاتها الأسيرات، بورقة صغيرة دستها من فتحةٍ في باب الزنزانة، "أن إسرائيل لا تغتصب ولكن تُهدد بذلك"..

تضيف: "كانت فترة الفورة للأسيرات، حين ألقت إحداهن بورقة صغيرة من بين قضبان فتحة في الباب، كتبت فيها لا تخفن، المحقق يهدد بالاغتصاب ولا يرتكبه(..) كانت الورقة بُندقية أحارب فيها، وأَستمر بصمتي، حتى استعددت للتحقيق للمرة الثانية والثالثة، وهناك قابلت أقذر القذرين وأكثرهم حقارة".

" أبو مصلح " .. وكيف لها أن تنسى أول من خدش حياءها وكسر ذراعها؟، وكيف لثورتها أن تهدأ وهي تُعيد تخيّل "ما حدث"؟، أطفأت التسجيل، وصرخت بِحُرقة..

نارٌ اعترتني وغلٌ ملأ صدري، قبل أن أسأل.. أتحملتِ؟!!، وبهدوئها "الشّكلي" قالت "قاومت يده التي نزعت ثيابي، إلى أن كسر ذراعي، وركلتهُ، وصرختُ به، وبرأيك أأستطيع غير ذلك؟"..

أدركت الآن لما أثارت "صور سجن أبو غريب" أنعام، ولماذا صرخت بـ "كفى" بعد أكثر من ثلاثين عاما، وقبل أن أسألها عن "بّقيةُ الذكرى"، قالت " لم ينل أبو مصلح مني فرغم حقارته بقيت صامتة، واستمر صمتي في تحقيقين تابعين إلى أن طُلبت لمسئول الشرطة الإسرائيلية في غزة.. توقعت أن يكون التحقيق عسكرياً هذه المرة، ولكنه كغيره سيئ، قذر وحقير"...

تخلت عن هدوئها وقالت بانفعال :"جبان ووضيع وسافل ذلك المحقق، قذارته أخافتني، وأسلوبه الهمجي أغشاني، لأستيقظ في الزنزانة برفقة زميلتي، وبعد 15 يوماً خرجت لأخبر والدي ما حدث، وبكل صراحة خشيت أن أكون قد تأذيت جسدياً"..

خوفها الذي نقلته لوالدها تبدد نهائياً لما عرضها الأخير على طبيب نساء وولادة يسكن جوارهم، أكد أنها عذراء، ليترجم والدها فرحته بـ "حلو" وزعه على أهل الحارة..

هرَبَ الخُطاب

ذكرى السجن و"غيرها" تزدحم بها "مُفكرة" إنعام، وتفاصيل " مُتعبة " تَخفى عن كثيرين، تحملها هي "مُكرهة" في ثنايا قلبها "الجريء" وتَجترها "غَّصة" كلما باغتتها الأخبار الاجتماعية غير السارة "أحيانا" عن الأسيرات المحررات، خارج السجون، خاصة وأن حياتها تَحفل بـ "تبعات" الأسر النفسية والاجتماعية، "بِحُسنها" و"بشاعتها"..

مَرت مرحلة الأسر، في فترة قصيرة، ولكنها أسست لحياة مُضطربة تكثر مشاكلها، و"كُمبارساتها" من الخطّاب الذين يفرّون منها، خوفاً من ملاحقة الاحتلال لهم، وكان السجان الإسرائيلي يُضيق الخناق على الأسيرات خارج السجن بملاحقة عائلاتهن، وأزواجهن، حتى " الخطاب"..

"اجتماعيا.. عشت تجربة مُختلفة، كان لي فيها زوجان، أحدهما والد ابني البكر فقط، والآخر رفيق دربي ونصفي الجميل" تابعت بأملٍ مُنتقلة إلى قِصتها الاجتماعية..

"ما إن كان يسمع العريس بأني أُسرت، حتى يذهب ولا يعود، إلى أن جاء زوجي الأول لطلبي، فاعتقدت أنه يعلم بموضوع أسري لأن شقيقته كانت زميلتي في المدرسة، وما إن خُطبت، سافر إلى السعودية، وهناك عرفت أن لا علم له بالموضوع، وقررت إخباره، ولكن خشيت من الطلاق".

خوف إنعام "مبررٌ" جداً، إذ كان الرجال ينفرون من الأسيرات المُحررات، خوفاً من الملاحقة الإسرائيلية، وشكاً بأنهن غير عذراوات، حيث كان قد شاع بأن الاحتلال يعذبهن " اغتصابا"، ونفرت النساء أيضا من الأسرى المحررين، خوفا من "العُقم"، والمُلاحقة...

تتابع ":سمع زوجي من بعض الأشخاص أني كنت أسيرة سابقة، فحلفَ أنه إذا ما ثبت ذلك سيطلقني بلا رجعة، ولما عاد إلى القطاع أقنعته والدته أن تشابه أسماء يجمعني فقط بالأسيرة، تراجع عن قراره، وكنت طوال أسبوع أحاول الاتصال به، بعد عودته وقبل زواجنا، لأصرح له بالقصة، وكانت والدته تمنعني من محادثته خوفها عليَّ من الطلاق".

ابني " سُرق"!!

وفي ليلة زفافها، بعد انقضاء الفرح، سألته عن ردة فعله "إذا ما كانت هي السجينة ذاتها" تمهيداً لإخباره بالحقيقة، ولكن رده الصاعق أجبرها على مواصلة إنكارها..

قالت :"أجابني إذا كنتِ السجينة، فاذهبي مع والدتك الآن، رده نزل كالصاعقة عليّ"، متسائلة "كيف يفكر بتركي وهو منذ قليل عرف أني عذراء!!".

وأكملت بهدوء :"بعد أسبوع انتقلت وزوجي إلى السعودية، وفي الطريق قابلت صُدفة أحد زملائي في المُقاومة، ويُدعى عبد الله أبو زعيتر، ولما تَعرف عليَّ، شكَّ زوجي، ونجاني مكري وسرعة بديهة زميلي الذي خاف عليّ من "الطلاق"".

عاشت إنعام برفقة زوجها حياة "أسعد" ما يكون كانا فيها صاحبين وزوجين، تُحسد علاقتهما، إلى أن حملت وجاءها المخاض...

تأكد زوجها من ماضيها قبل ولادتها بدقائق، ولما أنجبت، طلقها غيابيا وأعادها إلى غزة برفقة ابنها، ولما وصلت القطاع أخبرها بأنها طالقٌ منه..

تقول: "حزنت على فراقه بكل تأكيد، ولكن كرامتي منعتني من الاتصال به أو التحدث بأمر عودتي له، إلى أن تقدم ابن خالتي لخطبتي، ووافق أهلي لتبدأ حياتي الحقيقية"، مكملةً: "غمرني بحنانه، وتغاضى عن أمر اعتقالي وزواجي الأول.. احتضنني وتولى الاعتناء بابني، وكنا قد تعودنا الحياة ثلاثتنا إلى أن بلغ ابني رامي عمر السادسة، وخطفه والده".

صمتت وتحدثت تجاعيد وجهها ودموعها البَارقة "همسا" باشتياق الأم ولهفتها أخذته حماتي ليقضي الليل برفقتها، ولما ذهبت لإعادته بعد يومين تقريباً كان الباب مُغلقاً بالقفل، ولا أحد بداخله، أيقنت لحظتها أنها سافرت برفقة ابني، ولما عادت ركضت كالمجنونة أطالب بابني المسروق، لكن لا أثر له"..

انتظرت إنعام برفقة زوجها أبو علي 16 عاماً ليحظيا برؤية رامي مرة أخرى، ولما زار غزة كان لقاؤه بوالدته "جَياشٌ" بدموعه ولهفته ودفئه.

أحنت ظهرها للأمام، شبكت يديها، وقالت :"عذرت زوجي الأول، فربما يكون على صواب بهجري، لم يظلمني أو يتسبب بألمي، ولكن ما لا أعذره وأسامحه عليه هو حرماني من ابني،

وأتساءل كثيراً لماذا أخفيت عنه عملي النضالي وأنا على قناعة به؟، أكنت أخشى الطلاق، أو استمرار نظرة المجتمع القاسية لي!!"..

بعد 40 عاماً.. أين حقوقي؟

تلك القناعة التي "تقوَّت" بها إنعام كانت سبباً مُقنعاً في استمرارها في النضال بعد زواجها الثاني ولكن بطريقة ثانية، تقول :"انتقلت من العمل النضالي المُنظم إلى التستر على المقاومين ومساعدة مُلقي الحجارة، وساعدني في تحدي الاحتلال ما رأيته في سجونهم الظالمة"..

"ما الذي دفعكِ للكلام عن التهديد بالاغتصاب والتحرش بعد أكثر من ثلاثين عاما، ألا تخشين نظرة المجتمع التي هربتِ منها فور خروجك من السجن، وكيف كان ردة فعل أبو علي، زوجك الثاني".. مطرٌ من الأسئلة سقط في حديثنا، ومطرٌ من الإجابات لحقه..

أجابت "زوجي هو من دفعني للكلام، بعد انهياري أمام شاشة التلفزيون وأنا أتابع أحداث سجن أبو غريب، برفق دفعني للكلام، ولما انتهيت، غمرني بحنان قائل باستغراب أتحملين كل هذا في قلبك!، عشرون عام تحملين الهم وحدك؟؟"..

رد أبو علي كان نقطة البداية، أستكمل بلقاء إنعام بزميلاتها الأسيرات، اللواتي أخبرنها بقصصهن وتجربتهنّ الشخصية مع التحرش والتهديد بالاغتصاب، لتدرك هي بعد ذلك أن أسلوب التعذيب ذاته مازال يُتبع في السجون، وأن (إسرائيل) يجب أن تردع..

تقول "أعلم أن الأسيرات المحررات الآن يأخذن بعض حقوقهن فور خروجهن، ويحترمهن المجتمع على عكس معاملته لنا، ولكن هذا لا يُلغي الشك بأنهن يتعرضن لما تعرضنا له سابقاً"..

دعت إنعام كل من "طالتهُ يدها" إلى الدفاع عن الأسيرات، ومنع الإهانة التي يتعرضن لها، مُطالبة بمنحهن حقوقهن " بأثر رجعي " في الحج والعمرة والتكريم.