خبر دراسة : تحدي المقاومة وخصائصه: سبل مواجهة اسرائيل الممكنة

الساعة 09:45 م|04 مايو 2010

دراسة : تحدي المقاومة وخصائصه: سبل مواجهة اسرائيل الممكنة*

 

بقلم: ميخائيل ميلشتاين**

*تقدير استراتيجي – المجلد 12 –  العدد 4 - كانون الثاني 2010.

** مختص بتاريخ القضية الفلسطينية. في 2004 نشر كتابه "بين الثورة والدولة" – فتح والسلطة الفلسطينية. وفي سنة 2007 صدر كتابه "الثورة الخضراء – صورة حركة حماس الاجتماعية")

        جذور فكرة المقاومة وخصائصها

        ثمة فكرة قديمة جديدة تأسر في العقود الاخيرة قلوب أبناء الشرق  الاوسط. يمكن أن نترجم المصطلح العربي "المقاومة" ترجمة حرفية الى "هتنغدوت" (في العبرية)، لكن هذه الترجمة يصعب عليها أن تجسد المضمون الفكري والعملي الواسع المتنوع للمصطلح. فـ "المقاومة" هي أكثر كثيرا من نهج  عمل عسكري او فكرة سياسية – انها تصور عام كامل.

        برغم ان استعمال مصطلح المقاومة شائع جدا اليوم في الشرق الاوسط ربما أكثر من كل منطقة أخرى في العالم، جذوره الأصلية مغروسة خارج هذه المنطقة خاصة. فقد ظهر مصطلح "Resistance" اول مرة في الحرب العالمية الثانية واستعمل لتعريف حركات سرية في اوروبا المحتلة (ولا سيما في فرنسا) حاربت القوات الالمانية، بواسطة العصابات والتمرد الشعبي في الاساس. هذه الاسس التاريخية تمنح مصطلح المقاومة معنى أساسيا ايجابيا في الرأي العام الدولي، وتساعد على رسوخ صورته على أنه اجراء شرعي بل بطولي لشعب يقع تحت الاحتلال او لمحاربي حرية يواجهون بعملهم قوة أجنبية.

        بعد الحرب تبنت المصطلح حركات تحرير وطنية عملت في مواجهة قوى الاستعمار في العالم الثالث، وهكذا بدأ يظهر في الشرق الاوسط ايضا. ان رسوخ المصطلح في الخطاب السياسي والجماهيري في المنطقة عائد في الاساس للحركة القومية الفلسطينية. فقد لعب الفلسطينيون دورا مركزيا في بلورة فكرة المقاومة في المنطقة، واستعانوا به لعرض الكفاح المسلح الذي استعملوه على أنه اجراء شرعي تأخذ به قوة ليست عندها أسس دولة في مواجهة عدو أجنبي عظيم القوة.

        في العقدين الاخيرين بلغت فكرة المقاومة ذروة قوتها في المنطقة، وحظيت بصوت لم يسبق له مثيل. لكن هذه التوجه يقدم تحت قيادة جديدة هي المنظمات الاسلامية الاصولية ودول المحور المتطرف (ولا سيما ايران) – التي صبت فيه مضمونا فكريا وعمليا يختلف عما صاغه صاغته الاوائل في المنطقة. بوحي من هذه الجهات صيغت أهداف فكرة المقاومة الحالية وهي: الشوق الى تغليب نظام بديل في المنطقة بهدي من الاسلام المتطرف؛ والقضاء على التأثير الغربي في المنطقة؛ وأهم من كل ذلك – تدبير كفاح دائم لاسرائيل حتى القضاء عليه.

        في العقود الاخيرة حشدت جهات المقاومة في المنطقة انجازات ملحوظة فقد احتلت مواقع من المناطق، وقدمت معارك عسكرية في عدد من المراكز، وهي تغرس افكارها في وعي أبناء المنطقة. على أثر ذلك أصبحت المقاومة أحد أبلغ التهديدات التي تواجهها اسرائيل اليوم. مع ذلك يشتمل هذا التحدي ايضا على مشكلات أساسية كثيرة. أبرزها طابعه الغامض غير المتجانس الذي يميز الجهات التي تنتمي اليه. تمثل عدة جهات هذه الفكرة ولا يوجد بينها بالضرورة صلة حقيقية فهنالك: منظمات ليست دولة (مثل الجهاد الاسلامي الفلسطيني او عناصر المقاومة المسلحة في العراق)، ومنظمات غير دولة تطور صبغة دولة (حماس في قطاع غزة) او شبه دولة (حزب الله)، وكذلك دول (ايران وسورية). كل اولئك يمثل هويات دينية وطائفية وعقائدية مختلفة بل متباعدة تباعدا كليا أحيانا. فوق ذلك لا تعتمد العناصر كلها على نظرية منظمة واحدة وهي في واقع الامر تعطي تصور المقاومة تفسيرا مختلفا وتحدد أهدافها على نحو مختلف وبحسب الظروف الخاصة ومصالح كل واحد منها. وعلى ذلك يوجد من جهة صعوبة أن نعرف المقاومة على أنها "معسكر" أو "محور"، ومن جهة أخرى أن نصفها على أنها تيار او ظاهرة، وفي واقع الامر تأليف لجميع التعريفات والمفاهيم.

        ان الاساس العملي، العسكري في أساسه لفكرة المقاومة يعبر عن اختلاف أساسي عند عناصر المقاومة المختلفة لتصور المعركة في مقابلة تعريفها عند الجهات التي هي دول. يجسد هذا الاختلاف تصور زمن ومجال المواجهة وكذلك تعريف المصطلحات الأساسية للنضال والنظر الى العدو ولا سيما اسرائيل، التي خصص لها مكان مركزي في تصور عناصر المقاومة على أنها هدف رئيس للهجوم.

        يقوم تصور النضال في فكرة المقاومة على عدد من المبادىء الأساسية: السعي الى استنزاف دائم للعدو؛ والتظاهر بقدرة واسعة على التضحية (تتفوق على قدرة العدو)؛ وتصميم ينبع من التمسك بالفكرة؛ واستعداد لاجراء معركة بعيدة الأمد تنتهي كما ترى عناصر المقاومة الى نصر محقق في المستقبل البعيد؛ ونفي تام للعدو، يجسد سعيا الى القضاء عليه في الأمد البعيد ورفضا تاما للاعتراف به؛ والامتناع من تقديس منطقة ونضال عنيد عن منطقة، واعطاء وزن محدود نسبيا لفكرة السيادة ومبدأ سيادة الدولة؛ واستعمال طرق ووسائل قتالية بسيطة لكنها عظيمة القوة؛ والسعي الى زيادة الخسائر في المستوى العسكري والمدني للعدو مع ادراك الحساسية الكبيرة في الغرب بالخسائر من الارواح؛ ودفع عن وعي للمعركة الى المجال المدني ينبع من جملة ما ينبع منه من ارادة اثارة معضلات اخلاقية عند العدو وأن تحظى بـ "درع بشرية". تؤكد عناصر المقاومة في المنطقة ايضا تفضيلها الواضح لعقد صلات وثيقة بالجماهير والشارع واحتقارها للحكومات في المنطقة التي تعد بحسب نهجها ضعيفة مشوهة من جهة فكرية ومستسلمة للغرب.

        لا تنوي عناصر المقاومة الوصول الى توازن عسكري فضلا عن احراز حسم للنضال مع اسرائيل، وهي تدرك ضعفها العسكري. مع ذلك تقول انها تملك قدرة على خفض التميز العسكري التقني للعدو بواسطة نوعيات ذهنية وبخاصة القدرة على الصمود والتضحية. بحسب تصور المقاومة، يجسد النصر في منع العدو الحسم، وفي القدرة على البقاء والعمل زمنا طويلا حتى بعد تلقي ضربات شديدة وبعبارة أخرى – تحقيق النصر بواسطة عدم الهزيمة. بواسطة هذه الطرائق تسعى عناصر المواجهة الى احراز "احتواء مزدوج": منع العدو الغربي ولا سيما اسرائيل حسما عسكريا وأن تحبط في الآن نفسه مسارات سياسية اقليمية ترمي الى احداث استقرار وتقديم مصالحة بين اسرائيل وجاراتها والتأسيس لمنطقة مناصرة للغرب (مثل سعي حماس الى تقويض الجهد لانشاء تسوية سياسية او نضال عناصر المقاومة في العراق لمحاولة اقرار الحكومة المركزية في بغداد). ترى عناصر المقاومة حرب لبنان الثانية حدثا تأسيسيا عبر فيه بكامل القوة عن نجوع وقوة الطرائق التي تعتمد عليها. وبهذا كما يرون سببت هذه الحرب لاسرائيل احدى أصعب الهزائم في تاريخها وأقامت أمامها تحديا مركبا صعب عليها ان تجد له ردا مناسبا.

        الى جنب طموح عناصر المقاومة الى اظهار القوة والتصميم والصمود التي لا تهتز، تلقى أكثر من مرة ضرورات قاسرة ومخاوف بل هزائم تجعلها تزيد مرونتها وتضبط نفسها. يبرز في هذا السياق على نحو خاص عناصر المقاومة في المنطقة التي طورت مزايا دولة او شبه دولة وعلى رأسها حماس وحزب الله. تفرض المكانة الجديدة على هذه المنظمات ضرورات جديدة ثقيلة وتجعلها بالتدريج حذرة ضابطة لنفسها وأشد قابلية للاصابة مما كانت في الماضي. يبرز تغير سلوكها على نحو خاص بعد المواجهات العظيمة التي تمت مع اسرائيل. فقد بينت لها صعوبة اجراء معارك استنزاف من موقعها الجديد والخطر الذي يتعرض له الكنز السلطوي الذي امتلكته. مع ذلك، والى الان لم تؤثر المكانة الجديدة في الجوهر الفكري لهذه العناصر وأهم من ذلك أنها لا تصد استعدادها المتعجل لمعركة أخرى مع اسرائيل في المستقبل. يعبر عن ذلك تعبيرا بارزا بتزود تلك العناصر الواسع بالوسائل القتالية ذات القدرة على الاصابة المحسنة (ولا سيما القذائف الصاروخية البعيدة المدى). ويجسد تعقيد آخر لتحدي المقاومة باستعمال دول لفكرة ولا سيما ايران وسورية اللتان تتبنيان طرق قتال غير تناسبي تعتمد عليها منظمات المقاومة. على أثر ذلك تواجه اسرائيل بالتدريج نظاما معقدا من التحديات مثل دول تتبنى طرائق كفاح لمنظمات ليست دولة وفي مقابلة ذلك منظمات ليست دولة تكتسب بالتدريج قدرة وطرائق عمل لجيوش نظامية.

        ان ازدياد تحدي المقاومة يعبر تبدل عميق لخصائص التهديد لاسرائيل على نحو يجعل من الواجب عليها أن تحدث تغييرات في استعمال القوة العسكرية وتعريف تصور الأمن القومي. ان ازدياد تحدي المقاومة يتم في نفس آن الانخفاض التدريجي لقوة تهديدات الدول المجسدة بالقوة العسكرية التقليدية والتي كانت التحدي المركزي لاسرائيل في العقود الاولى من وجودها. الحديث في ظاهر الامر عن بشرى خير تجسد انخفاض قوة التهديد لاسرائيل لكن استنتاجا كهذا موهم. ان تحدي المقاومة يتميز في الحقيقة بقوة عسكرية أقل من تحدي  الدول لكن ليس هدفه الاساسي تحقيق حسم سريع مع اسرائيل. يتجسد الخطر الكامن فيه على الخصوص في حقيقة انه يقوى ببطء وبالتدريج، وعلى ذلك قد يوهم أحيانا الناظر من الخارج ويقيم في الأساس تحدي استنزاف بعيد الأمد موجه الى قدرة المجتمع في اسرائيل على الصمود. وفي الصعيد العسكري – يصعب تحدي المقاومة على اسرائيل ان تعبر عن كامل قوتها وان تحقق في الأساس حسما واضحا كذاك الذي حدث في اكثر حروب الماضي التي تمت في مواجهة عدوات من الدول.

سبل مواجهة تحدي المقاومة

        تلوح مواجهة تحدي المقاومة على أنها مهمة مركبة وبخاصة بسبب هويتها المتعددة الوجوه، وحقيقة أن تعبيراتها تلحظ في مختلف الصعد: العسكري – الأمني والسياسي والثقافي – الفكري والاقتصادي وغير ذلك. تقتضي مواجهة ناجعة لهذا التحدي فهما حادا لطبيعة تحدي المقاومة المتميزة؛ وتعرف نقط ضعف العوامل المختلفة المنسوبة للتحدي؛ وملاءمة الاجراءات المخطط لها لطبيعة كل واحد من عوامل المقاومة؛ وفي النهاية فهم نطاق التأثير والأهداف الواقعية التي يمكن تحقيقها بمواجهتها.

        ان معرفة مستوى القادة في دولة اسرائيل العميقة لتحدي المقاومة شرط أساسي ضروري لصياغة فهم عميق للواقع الجغرافي – الاستراتيجي الذي أخذ ينشأ في المنطقة، وتحديد الأهداف وسبل العمل التي تلائم الوضع القائم. يحتاج القائد في المرحلة الاولى الى الاعتراف بأن ليس الحديث عن تهديد "تكتيكي جار" آخر من قبل جماعات متطرفة، تحافظ على قوة وعلى نطاق ثابتين. بدل ذلك ينبغي تبني افتراض يقول ان الحديث عن تهديد "زاحف": فهو ينمو وينتشر بلا انقطاع، (وان يكن ذلك بايقاع بطيء نسبيا ايضا)، مع السيطرة على مواقع اخرى في الشرق الاوسط.

        يحتاج القائد الى التخلي من عدد من الفروض الاساسية، كان عدد منها ذا فعل في نطاق المواجهات مع الدول لكن أكثرها لم يعد يلاءم مواجهة منظمات المقاومة. الفرض الاول هو انه يمكن تحقيق حسم واضح او مطلق للعدو، وهو مصطلح يبدو انه لم يعد ذا فعل في عالم مصطلحات مواجهة جهات المقاومة. والفرض الثاني هو أن انتقال العدو الى مكانة السلطة يفضي بالتدريج الى اعتدال مواقفه في الصعيد العملي بل العقائدي. في واقع  الامر وكما قلنا آنفا عندما يحظى عدد من جهات المقاومة بمكانة السلطة لا تقدس مصطلحي "السلطة" و "الارض" ولا يبشر الواقع الجديد بتغيير أهدافها ومبادئها الفكرية.

        لكن عبء السلطة يوجب مع كل ذلك تغيير طرائق عملها. يكون الوضع الجديد مصحوبا بضرورات أكثر مما في الماضي، ولهذا يوجب على جهات المقاومة أن تظهر مسؤولية وتوجها رسميا وأن تكف جماح نفسها في كل ما يتعلق بالأخذ بعمل عسكري. نقشت هذه الدروس في وعي جهات المقاومة على نحو قوي متميز بعد مواجهات عسكرية واسعة شديدة مع اسرائيل. مع ذلك، ليست هذه الاحداث ذات قدرة ردع مطلقة. دفع حزب الله بعد حرب لبنان الثانية وحماس على أثر عملية "الرصاص المصبوب" وعلى قدر كبير الى تناقض داخلي شديد. تظهر المنظمتان في الحقيقة حذرا شديدا من كل ما يتعلق باستعمال القوة العسكرية، لكنهما في مقابلة ذلك تعجلتا جدا مسار بناء القوة، ولا سيما التزود بوسائل قتالية محسنة، وذلك كي تستطيعا في معركة مع اسرائيل في المستقبل احداث أضرار باهظة بها أكثر مما في الماضي. وهكذا ينشأ واقع حساس يكمن فيه طاقة انفجار، برغم الهدوء المتصل في الجبهتين. قد تتحقق هذه الطاقة الكامنة في عدد من الشروط: أن يلاشي الوقت الذي يمر منذ المواجهات الشديدة الذكرى الصادمة التي نقشت في وعي جهات المقاومة ويزيل بالتدريج قوة ردع اسرائيل؛ وأن ينشأ ضغط داخلي يزداد في منظمات المقاومة ولا سيما من أجزاء صقرية، لتنفيذ أعمال عسكرية برغم المخاطرة فيها؛ وأن تلوح ضعضعة مكانة المنظمات كجهات حكم على نحو يضائل من قدرة الاعتبارات الكابحة التي تؤثر فيها اليوم.

        الفرض الثالث الذي نوصي القائد بالتخلي منه هو أنه يمكن اضعاف صورة منظمات المقاومة في نظر الجمهور الذي تعمل بينه، وذلك اذا عرضت على أنها مسؤولة عن الضائقة والدمار اللذين سببتهما المواجهات العنيفة. لم تولد ثلاثة عقود من الصراعات المريرة التي شاركت فيها منظمات المقاومة قط احتجاجا شعبيا واسعا عليها. بل العكس تكاد تصور دائما في ضوء بطولي ولا سيما في أزمان الصراع مع اسرائيل، وتبقى مشايعة الجمهور لها مستقرة بل تزداد أحيانا. ومن جملة أسباب ذلك الصلة العميقة لأكثر جهات المقاومة بالجمهور العريض – فهي تستعمل شبكات متشعبة للمساعدة الاجتماعية التي تزود السكان بحاجات وجودهم، وبذلك تساعد في الحفاظ على مكانتها العامة بل تعزيزها.

        علاج التحديات الجوهرية

        بعد التخلي من الفروض الاساسية التي وصفناها، يحتاج القائد الى التزود بالصبر الذي هو الوسيلة التي يقوم عليها نشاط جهات المقاومة. والى ذلك يجب أن يحدد القائد أهدافا واقعية في  مواجهة جهات المقاومة والامتناع عن تطوير توقعات مفرطة ولا سيما قبيل معركة عسكرية معها او في اثنائها.

        اولا يجدر بالقائد ان يمتنع عن حلول على صورة احتلال تام متصل بالارض التي تعمل منها منظمة المقاومة. فهذه الجهات لا تطمح الى واقع كهذا لكنه عندما ينشأ تجد فيه فائدة كبيرة لتقديم نضالها للعدو مع توريطه بقتال داخل المنطقة الآهلة. هذا ما حدث في جنوب لبنان وما يحدث اليوم في العراق وما قد يحدث في المستقبل في قطاع غزة اذا  تم  احتلال متصل للمنطقة.  في وضع كهذا في الحقيقة تتلقى منظمة المقاومة ضربات شديدة في المراحل الاولى من المعركة ويصبح نشاطها محدودا جدا في الصعد كلها لكن منذ لحظة تثبيت "واقع الاحتلال" زمنا طويلا، تنجح في اعادة بناء قدراتها وتجديد نشاطها العسكري.

        السياسة التي تبدو أفضل (او يفضل أن نسميها "أخف الشر") هي سياسة معركة عسكرية واسعة نسبيا بتردد مرة كل بضع سنين. يجب أن يشتق نطاق المعركة وترددها من قوة التهديد الذي تنشؤه المقاومة، وصورة ميدان القتال والظروف الاقليمية والدولية زمن المعركة. مع ذلك، وفي كل سيناريو من الحيوي ألا يكون الرد العسكري الاسرائيلي تناسبيا بأن يثبت للعدو الثمن الباهظ الذي يصحب محاولة الاخلال بالأمن في المجال المدني في اسرائيل. ثم حاجة الى ألا يكون هذا الاجراء طويلا وأن يحصر في المس الواسع بقيادة منظمات المقاومة (في المستوى العسكري وفي المستوى السياسي) والبنى التحتية المختلفة التي تملكها (والمدنية ايضا). ينبغي ان نفترض في مستوى عال من الاحتمال أن يكون الاجراء مصحوبا بمس واسع بالجبهة الاسرائيلية الداخلية وبمس واسع – غير متعمد بطبيعة الامر – في الوقت نفسه بالمجال المدني للعدو. وعلى ذلك يحتاج القائد الاسرائيلي الى اجراء معركة اعلامية في جبهتين – الاولى في الداخل حيث يحتاج الى بيان ما هو الثمن الذي سيطلب الى السكان في اسرائيل في المواجهات مع جهات المقاومة، وأن يؤكد أنه لا ينبغي تأميل نصر أو حسم سريع من الجيش الاسرائيلي؛ والثانية – ازاء الساحة الدولية، حيث يبين تعقيد مواجهة جهات المقاومة، وتوصف الضرورات التي يفرضها العدو على اسرائيل وعلى رأسها القتال في منطقة آهلة مزدحمة.

        لا يتوقع أن تفضي أي خطوة من الخطوات التي وصفت كما يبدو الى اخضاع مطلق لجهات المقاومة، واقناعها ببدء محادثة مباشرة مع اسرائيل او الاعتراف بها (ليس في الأمد القريب في الأقل). لكن اجراءات عسكرية ولا سيما اجراءات واسعة مصحوبة بمس شديد بجهات المقاومة قد تنشىء ردعا بعيد الأمد في كل ما يتعلق بتنفيذ نشاطات عنيفة في مواجهة اسرائيل. يلحظ في هذا السياق كما قلنا آنفا أن جهات المقاومة التي تصبح ذات مقام سيادة او شبه سيادة، تطور ايضا حساسية وقابلية للمس بها لم توجد عندها في الماضي. ان ادارة أملاك الحكم مثل حماس في قطاع غزة تمنح اسرائيل أهدافا أكثر للمس بها، وتشحذ عند منظمات المقاومة اعتبارات الخسارة ولا سيما حين يوضع على كفة الميزان تعريض استقرار السلطة للخطر.

        ان النضال المتصل لتحدي المقاومة يوجب على اسرائيل ايضا أن تطمح الى الحفاظ على استقرار سائر الكيانات السياسية في المنطقة. والأمر صحيح وبخاصة عندما يكون الحديث عن دول تتصل بها بتسوية سياسية، لكن في الحديث أيضا عن دول تعاديها بل تقدم مساعدة لجهات المقاومة مثل سورية. لقد برهنت المعركة التي قامت بها الولايات المتحدة في العراق على أن تقويض الدولة في الشرق الاوسط لا يولد كيانا أكثر استقرارا وحرية بل اضطرابا قد يكون أرضا لنمو جهات المقاومة بل جهات أكثر تطرفا منها (ولا سيما تلك التي تعد في تيار الجهاد العالمي). هذا الدرس الاستراتيجي ليس ذا قوة قياسا بادارات في المنطقة فقط بل كيانات سياسية تسيطر عليها جهات المقاومة ايضا. وفي هذا السياق يبرز على الخصوص حكم حماس في قطاع غزة. ان تقويض هذه الادارة حتى انهيارها قد يعرض اسرائيل لسلسلة من المشكلات الصعبة وفي ضمنها فراغ في الحكم قد ينشأ على أثر اسقاط حكومة حماس، يتوقع أن يجتذب اليه جهات اسلامية أكثر تطرفا من حماس فيها من يشايع القاعدة، ونشوء تهديد ارهابي طويل في مواجهة القوات التي ستعمل في قطاع غزة كما هي الحال في العراق او عصيان مدني واسع؛ وعبء باهظ يصحب التزويد الجاري باحتياجات السكان المعدمين في قطاع غزة.

        ان تحقيق التوصيات التي وصفت قد يثبت فترات هدوء نسبي. ان نتيجة كهذه هي ذخر استراتيجي لدولة اسرائيل التي  تطمح الى جنب ادارة معارك عسكرية متصلة الى اقامة مجال مدني زاهر ومنح سكانها الأمن. وهذا الأمر على قدر كبير هو بمنزلة عودة الى تصور دافيد بن غوريون الأمني حيث حدد أن هدف المعركة العسكرية هو انشاء مجال واسع قدر المستطاع حتى المعركة التي تلي ذلك.

        مواجهة تحديات الغلاف

        إن أكثر الدروس والتوصيات التي أثيرت حتى الآن تلائم أشد تهديدات جهات المقاومة لاسرائيل في السنين الاخيرة. يبرز في هذا الاطار بروزا خاصا مكان جهات المقاومة الموجودة في مرحلة تطور متقدمة نسبيا: تلك التي سيطرت على مناطق واسعة تحاد اسرائيل ما تزال تجري كفاحا مسلحا من داخلها لكنها أصبحت في الوقت نفسه ذات مقام سيادة او شبه سيادة كما حدث لحماس وحزب الله.

        لكن الفحص عن تحدي جهات مقاومة أخرى في الشرق الاوسط وفيها دول أيضا لاسرائيل او لجهات أخرى في الغرب (ولا سيما الولايات المتحدة) يقتضي توصيات تختلف عما اقترح آنفا. نذكر في هذا السياق على الخصوص مواجهة جهات المقاومة الموجودة في مرحلة تطور متقدمة نسبيا. فهذه تعمل في ميادين لاسرائيل والولايات المتحدة فيها تأثير عميق لكن لا يوجد لهما سيطرة مطلقة، وتتم فيها محاولة تنمية جهة قوة حكومية محلية يفترض أن تكون وزنا معادلا لجهات المقاومة. يبرز في هذا الاطار بروزا خاصا مواجهة اسرائيل لحماس في الضفة الغربية والولايات المتحدة لجهات المقاومة في العراق.

        يلوح في الحالتين، في السنين الاخيرة نجاح ما في مواجهة الغرب لجهات المقاومة. هذا النجاح هو ثمرة مسيرة لسنين طويلة، تتشابه مزاياها - ونتائجها أيضا على قدر كبير – في الميدانين. احتاجت القوات الغربية في المرحلة الاولى الى مسار قوة شديد القوة يصحبه احتلال أكثر الأرض، وفي ضمن ذلك المدن الكبيرة التي هي مراكز عمل مركزية لجهات من المقاومة، مع تجاهل الادارة المحلية الضعيفة في واقع الامر التي سيطرت في ظاهر الأمر على هذه المناطق. مع انقضاء هذه المرحلة استطاعت اسرائيل والولايات المتحدة أن  تسحبا بالتدريج جزءا من قواتهما بل أكثرها من المنطقة التي احتلت (ولا سيما من المناطق المدنية)، ونقلها الى مسؤولية أجهزة أمن السلطة المحلية مع استمرار أعمال احباط مركزة في المناطق التي أخليت من أجل متابعة تعويق القدرة العسكرية لجهات المقاومة وتأثيرها في الصعيدين السياسي والعام. وفي الآن نفسه جرى وبجهد تقديم محاولة تطوير قوة الادارة المحلية وتشجيعها على العمل المستقبل في مواجهة جهات المقاومة. لحظ في الحقيقة في الحالتين – ادارة ابي مازن وادارة نوري المالكي – تحسن دائم في السنين الاخيرة، لكن ما زالت تثور طول الوقت شكوك كثيرة بقدرة هاتين الادارتين على متابعة القضاء على المقاومة (بل قدرتهما على البقاء)، بغير تأييد الجهة الغربية بل وجودها الأمني.

        الموازنة بين الوضعين تثبت اختلافا جوهريا في طريقة علاج تحدي المقاومة، ينبع من الفرق في مكانة ممثلي الفكرة في الميدانين. في الضفة الغربية تجسد حماس في الاساس تحدي المقاومة، وحماس حركة ذات تأييد شعبي واسع أسست لمكانة حزب حاكم وتعرض بديلا من القيادة الوطنية القديمة برئاسة فتح. وعلى ذلك ترى اسرائيل مكافحة حماس في الضفة الغربية هدفا استراتيجيا مركزيا، وشيئا مشتقا من الخوف من سيطرة الحركة على هذا الميدان؛ وترى ادارة أبي مازن برغم ضعفها الأساسي حاجة الى مواجهتها في تصميم. في مقابلة ذلك تعرض العصابات المسلحة السنية في العراق تحدي المقاومة في الأساس والى جنبها عدد من الجماعات المسلحة الشيعية. لهذه مزية خاصة: عداوة الولايات المتحدة، وفي الوقت نفسه عداوة قوية لجهات القاعدة التي تعد عدوا رئيسا كالامريكيين والادارة العراقية. على هذه الخلفية نجح الامريكيون في تطوير سبل مواجهة متميزة لجهات المقاومة في العراق وعلى رأسها حشد عدد من العصابات المسلحة السنية فيما يشبه أطرا دفاعية مسلحة في مناطق مختلفة في الدولة، من أجل  تقديم مكافحة القاعدة. والى ذلك عمل الامريكيون في ادماج عدد من نشطاء منظمات المقاومة في أجهزة الادارة والأمن في العراق،  مع وقف نشاطهم العنيف في مواجهة الامريكيين والادارة العراقية.

        ان سبيل مواجهة الدول التي تشايع فكرة المقاومة تختلف كثيرا عما يؤخذ به في مواجهة المنظمات التي ليست دولا. ومن جملة أسباب ذلك أن الحديث عن جهات ذات أبعاد جغرافية وسكانية ضخمة، وسلطان مركزي مستقر على نحو عام وبنى تحتية وطنية واسعة النطاق. يبرز في هذا السياق على نحو خاص حالة ايران. ان مشاركة طهران في تعزيز قوة معسكر المقاومة لبنة واحدة فقط في التهديد الذي تعرض العالم الغربي والغرب عامة له واسرائيل خاصة وفي مركزه تطوير قدرتها الذرية. تحتاج مواجهة ايران الى تنسيق بين لاعبات اقليميات ودوليات كثيرة وتقتضي الأخذ بطائفة مختلفة من الخطوات وفي ضمنها منع احراز ايران لقدرة مستقلة في المجال الذري، وهذا سيناريو قد يساعدها في تعزيز مكانتها كقوة اقليمية وزيادة قوة ردعها لجهات خارجية؛ والاستمرار على تقديم عقوبات اقتصادية دولية شديدة ومعركة اعلامية واسعة لمواجهة الحكومة الاسلامية (ولا سيما في كل ما يتعلق بمشاركتها في الاخلال بالاستقرار الاقليمي بتأييد جهات ارهابية ومنظمات تآمرية)؛ وتنسيق اجراءات لصد التأثير الايراني في الشرق الاوسط ولا سيما بالمساعدة المالية والعسكرية التي تمنحها ايران الجهات الارهابية في المنطقة وعلى رأسها حزب الله وحماس.

        فيما يتعلق بسورية، خلافا لايران، التي يجري الفحص في مواجهتها عن خطط هجومية فقط – عسكرية او سياسية – قد تثير مكانة دمشق الشاذة في معسكر المقاومة افكارا أخرى لاحباط التهديد الذي تنشئه (يعبر عن هذا الشذوذ بالصبغة العلمانية للقيادة السورية خلافا لاكثر جهات المقاومة اليوم وبزعم سورية الذي يقول إن المقاومة وسيلة لتقديم تسوية سياسية مع اسرائيل لا للقضاء عليها كما يقول أكثر جهات المقاومة). يثار في هذا السياق على الخصوص امكان تقديم تسوية سياسية مع سورية، وهذا اجراء يكمن فيه امكان المس بالعلاقة التقليدية بين دمشق وسائر جهات المقاومة – ايران وحزب الله والمنظمات الارهابية الفلسطينية – بل انفصالها عن هذا المعسكر في سيناريوات ما.

        عملية "الرصاص المصبوب" – هل تم العثور على طريقة لنقض مبدأ المقاومة؟

        انتهت عملية "الرصاص المصبوب" في قطاع غزة (كانون الاول 2008 – كانون الثاني 2009) الى شعور بانتصار في اسرائيل. في الفترة المباشرة بعد انتهاء العملية اعتبرت العملية انجازا وطنيا في نظر أكثر الجهات في المستويين السياسي والعسكري في اسرائيل وعند الجمهور في الدولة. والى ذلك قوت العملية بالتدريج صورتها على أنها "تجربة تقويمية" لحرب لبنان الثانية، ببرهانها على تطبيق دروس المواجهة السابقة بين اسرائيل وبين جهة مركزية في معسكر المقاومة.

        في مقابلة ذلك، يصور معسكر العدو صورة غريبة في نظر المتأمل الغربي في الاقل ولا سيما الاسرائيلي. يوجد في الحقيقة ادراك واضح للضرر الشديد الذي تلقاها الفلسطينيون عامة وحماس خاصة لكن يلحظ، كما يصور في المستوى الظاهر في الاقل، ان هذا الادراك لم يعبر عنه اعتراف بوجود مشكلات اساسية فضلا عن التصريح عن الهزيمة. بحسب ما تقول حماس، لم تحدث هزيمة لان الحركة حققت المبادىء الاساسية لفكرة المقاومة وعلى رأسها منع اسرائيل حسما عسكريا تقليديا واظهار قدرة عملياتية (حتى وان كانت محدودة جدا) طول مراحل المعركة كلها ولا سيما في نهايتها.

        طبقت حماس في ظاهر الامر زمن العملية على نحو دقيق جملة مبادىء نظرية المقاومة: اظهار صمود صلب ونجاح في الامتناع عن "رفع العلم الابيض"؛ والسعي الى استنزاف الجبهة الاسرائيلية الداخلية وعرض قدرة على البقاء في مستوى العمليات طول مراحل المعركة (ولا سيما القدرة على اطلاق الصواريخ)؛ وتوسيع دائرة البلدات وعدد السكان في اسرائيل المعرضين لتهديد صواريخ حماس؛ وتعزيز الصمود في المنطقة المدنية المزدحمة على نحو يفترض أن ينتقص من تميز القدرة العسكرية النظامية؛ ومزج مقصود بين المنطقة الآهلة والعسكرية زمن المعارك من اجل ايقاع مصابين كثيرين من بين السكان، لانشاء ضغط دولي على اسرائيل بذلك؛ وقدرة عالية على احتمال الضربات ولا سيما ما يتعلق بالخسائر من الأرواح؛ والسعي الى "سفك دم" العدو (ولا سيما من المستوى العسكري)؛ ومحاولة تثوير الشارع الفلسطيني والعربي والاسلامي.

        برغم تطبيق جملة مبادىء تصور المقاومة، يبدو ان شيئا ما أساسيا تشوش مع كل ذلك في العملية الحالية من جهة حماس. ان عملية "الرصاص المصبوب" بالفحص الموضوعي تبدو عدم نجاح لحماس بل تبدو نقيضا لسلوك حرب لبنان الثانية ونهايتها. توجد عدة أسباب مركزية بين يدي هذا الفرق العملي وفرق الصورة:

أ‌.      اختلاف سلوك اسرائيل: عملت جملة الجهات في اسرائيل على نحو مختلف تماما عن نهجها في حرب لبنان الثانية، وبهذا ناقضت على قدر كبير منطق العمل غير التناسبي والاهداف التي نصبتها حماس في المواجهة. أقر المستوى السياسي الرفيع في اسرائيل للعملية أهدافا محدودة نسبيا قابلة للتحقيق (لم يستعملوا مصطلحات مثل "نصر" و "حسم" أو "وقف اطلاق الصواريخ")؛ وأظهر الجيش الاسرائيلي قدرة على القتال وطرائق عمل تختلف عما تعلمته جهات المقاومة في صيف 2006، ولهذا كانت خسائره ايضا قليلة نسبيا؛ وأظهر الجمهور في اسرائيل منعة و "طول نفس" ازاء الاصابات المستمرة، بل أظهر قدرا لا يستهان به من ادراك أن اطلاق الصواريخ لا يمكن وقفه تماما.

ب‌.     حدود القوة الفلسطينية: صعب على حماس أن تلعب دور حزب الله في حرب لبنان الثانية، بسبب معطيات الحركة الاساسية وبسبب الظروف الخاصة التي تمت فيها العملية. فمن جهة عسكرية لم يكن لحماس قدرة على استعادة مقدار اطلاق الصواريخ التي كانت عند حزب الله والاصابات الشديدة التي اوقعها بالجبهة الاسرائيلية الداخلية في سنة 2006؛ ولم تلق حماس في المعركة "مفاجآت" عسكرية مثل استعمال سلاح محكم مضاد للطائرات او الدبابات او السفن والذي كان في مركز "قصة النصر" التي صاغها حزب الله في حرب لبنان الثانية؛ وأظهرت الحركة قدرات عسكرية محدودة جدا في المواجهة مع قوات الجيش الاسرائيلي بسبب المناورة البرية في العملية (أسهم هذا الامر من جملة ما أسهم في عدم نجاح تحقيق هدف "سفك دم العدو"). وقامت في خلفية ذلك كما قلنا آنفا أيضا الظروف الاساسية المشكلة لساحة القطاع: فهي مساحة صغيرة مستوية، محدودة من جميع جهاتها وليس لها عمق لوجستي، قياسا بالمساحة الجبلية ذات الغابات في جنوب لبنان، ومساعدة اللوجستية الواسعة العتيدة التي منحتها ايران وسورية حزب الله. كذلك تبين ان الجبهة الداخلية العامة الفلسطينية أشد تعرضا للاصابة مما تخيلت حماس، وبرغم أنه لم تنشأ موجة احتجاج واسع على الحركة، كان واضحا ان الجمهور في قطاع غزة غير مستعد لـ "احتمال الى غير نهاية" للاصابات وأنه يطمح الى وقف سريع للقتال.

ت‌.     قدرة المساعدة المحدودة لمعسكر المقاومة: برغم شعور القوة الذي توحي به جهات المعسكر في السنين الاخيرة، وقفت حماس آخر الامر وحدها في مواجهة اسرائيل، من غير أن يهب أي لاعب في المعسكر لمساعدتها في الصعيد العسكري. جرى التعبير عن ذلك تعبيرا قويا على نحو خاص بعدم تدخل حزب الله خلافا لميله في العقد الاخير الى استغلال المواجهات بين اسرائيل والفلسطينيين لتنفيذ أعمال عسكرية موجهة الى اسرائيل.

ث‌.     سلوك الحلبتين الاقليمية والدولية: ان طريقة سلوك الشارع العربي والاسلامي والغربي زمن العملية سبب لحماس كما يبدو خيبة أمل ما لكنها ليست بمنزلة ظاهرة جديدة. ففي حالات أخرى أيضا مثل نشوب انتفاضة الاقصى او حرب لبنان الثانية، ثارت وفارت هذه الشوارع لكنها لم تسبب تغييرا حادا لمواقف الحكومة. في مقابلة ذلك كان يفترض ان ينشىء الشارع في الضفة الغربية (والوسط العربي في  اسرائيل ايضا) "جبهة داخلية وطنية" بالنسبة لحماس، لكن يبدو انها لم تحقق الامال التي علقتها الحركة عليها. وزاد سلوك الحكومات العربية والغربية زمن العملية على صعوبة تحقيق حماس للادوات الاعلامية والسياسية للمقاومة. وذلك في الاساس ازاء التفهم الذي أظهره أكثرها للاجراءات التي نفذتها اسرائيل، والضغط المحدود جدا الذي استعملته عليها والتوجه النقدي الذي استعمله كثير منها نحو حماس.

برهنت عملية "الرصاص المصبوب" على أن اسرائيل تملك بعض الطرائق لنقض المبادىء التي تعتمد عليها عناصر المقاومة. يقتضي هذا النقض التأليف بين عدد من العناصر وهي: الفهم العملياتي الدقيق لاجراءات العدو واهدافه والامتناع عن "اللعب" بحسب منطق عمله؛ وصياغة أهداف واضحة حقيقية على يدي مستوى القادة لمواجهة من هذا القبيل، على نحو يضعف على نحو خاص جهد العدو الاعلامي؛ واعداد لوعي الجمهور في ضوء تلك الاهداف؛ وتجنيد العناصر الاقليمية والدولية على نحو قد يخفف الضغط الخارجي.

ينبغي ان  نؤكد مع ذلك ان المواجهة الاخيرة تمت مع احدى أضعف الخلايا في معسكر المقاومة، وفي السياق الخاص للساحة الفلسطينية. في نظرة للمستقبل، من الحيوي صياغة فروض انطلاق أكثر تشددا، فحواها ان نتائج العملية الحالية لن تستعاد كاملة في مواجهة عناصر مقاومة أخرى. سيكون من الحيوي في معارك المستقبل تقديم اجراءات "تثبيط" تشبه ما تم الأخذ به في عملية "الرصاص المصبوب"، لكن ينبغي الاستعداد ايضا لمواجهة عدو ذي قدرة عسكرية وروح قتالي أفضل مما عند حماس، وذي قدرة ايضا على ايقاع خسائر أشد بالمستوى العسكري والمدني في اسرائيل.

***

ان الميزان العام لتحدي المقاومة في الشرق الاوسط يمكن أن يعرف على أنه مشارك مع ميل ما لمصلحة العناصر التي تشايع الفكرة. غيرت هذه العناصر وجه المنطقة وهذا أمر يعبر عنه تعبيرا بارزا بأبدال بعيدة المدى طرأت على الساحتين الفلسطينية واللبنانية، وقوت مكانة فكرة المقاومة على أنها التصور المهيمن على أكثر الجماهير في المنطقة. لكن الفكرة لم تنجح حتى الان في أن تصبح الترتيب البديل في المنطقة بسبب جهود الصد من العناصر الغربية وفي ضمنها اسرائيل، وبسبب دول المعسكر المعتدل في العالم العربي ايضا. في الحقيقة تعاني هذه الدول ضعفا اساسيا ويصعب عليها طرح بديل فكري مبلور جذاب من فكرة المقاومة، لكنها تنجح مع كل ذلك في وضع عوائق في طريقها وبذلك تمتنع حسما سريعا في الصراع على صورة الشارع.

        ليست فكرة المقاومة بمنزلة موضة فكرية عابرة. ان صلتها الوثيقة بمسارات عميقة – ثقافية وسياسية واجتماعية – تمنحها قوة وحيوية تجعلها تهديدا بعيد الأمد بالنسبة لاسرائيل. من أجل مواجهتها لا ينبغي تأميل ضربة عسكرية ساحقة كتلك التي افضت الى انهيار الحلم العربي في 1967. بدل ذلك يحتاج الى معركة صبور، ومرهقة وطويلة لا تنحصر فقط في القوة العسكرية لعناصر المقاومة بل تسعى الى تقويض المراكز التي تصاغ فيها الفكرة وتبث منها الى وعي الجمهور العريض. يبرز في هذا الاطار على نحو خاص دور أجهزة الاعلام والتربية والمؤسسة الدينية في دول المنطقة. يبدو أنه بعد ان يلوح تغيير جوهري بعيد الأمد فقط لنهج العمل في المدارس والجامعات ووسائل الاعلام الرسمية وغير الرسمية والمساجد والمؤسسات الدينية الاخرى في الشارع الاسلامي، سيكون من الممكن فحص هل نشأ في الآن نفسه بديل عقائدي في الشرق الاوسط، وفي ضمنه أيضا صورة تصور فكرة المقاومة في نظر الجماهير المختلفة في المنطقة.