خبر استقطابات « التسوية » وعودة التصعيد .. د. رضوان السيد

الساعة 03:44 م|25 ابريل 2010

بقلم: د. رضوان السيد

ما عادت أكثر الأطراف تشكُّ في سعي الولايات المتحدة للتسوية في مجال مشكلة الشرق الأوسط، ومجال الملف النووي الإيراني. بيد أنّ المتوجِّسين والمشكّكين يشيرون إلى أنّ عدم القدرة على السير باتّجاه التسوية بالفعل له سببان: قوة إسرائيل بالداخل الأميركي، وقدرة حكومتها على الصمود في وجه الضغوط بسبب طبيعة تشكيلها. فاللوبي الإسرائيلي شديد القوة، وتتداخل قوتُهُ وتتعاضد ضمن الحزبين الكبيرين بالكونجرس، كما تتداخل ضمن الانتخابات النصْفية في مطلع الشتاء المقبل (بعد ستة أَشْهُر). ثم إنّ الرئيس الأميركي يملك أَولوياتٍ منها اليوم حلّ مشكلة الشرق الأوسط أو محاولة ذلك. لكنّ هذه المسألة قد لا تظلُّ كذلك وسط ضغوط المشكلات المحلية والعالمية الأُخرى، ثم هموم تجديد الولاية بعد سنةٍ ونيِّف. ثم إنّ الحكومة الإسرائيلية نصفُها من المستوطنين وأنصارهم من اليمين المتطرف. وهؤلاء يعلمون أنّ المستوطنات، عاجلاً أو آجلاً في خَطَر، لذلك يُهمُّهُم اليومَ ولا يأبهون للغد؛ وبخاصةٍ أنهم لا يرون خَطَراً كبيراً حاضراً؛ إذ إنّ دولتَهم لا تملكُ جيشاً قوياً فقط؛ بل تملكُ كذلك سلاحاً نووياً. وهكذا يمكن القول إنّ اليمين الإسرائيليَّ لا يريد السلام، لأّنّ معناه في الحدّ الأدنى وقف الاستيطان، و"التنازُل" عن بعض القُدس، وتغيُّر طبيعة النظام الإسرائيلي بحيث لا يعودُ هناك مستقبلٌ لقوى اليمين المتطرف والاستيطان. على أنّ هذا التوجُّه اليمينيَّ ليس معزولاً، بل هو توجُّهٌ جماهيري إلى حدٍ ما. فما عادت بإسرائيل أحزاب أو جبهة قوية مثل "السلام الآن"، ودُعاةُ السلام أفراد يساريون، وبعض الفئات في حزبي "كاديما" و"العمل". ومن المحلِّلين مَنْ يُركّز على عامل الخوف لدى الإسرائيليين من الإسلاميين الذين لا تمكن مصالحتهم ويريدون إلغاء إسرائيل، إضافةً إلى العامل المستجدّ في السنوات الأخيرة والمتمثّل في الملفّ النووي الإيراني، وما يمكن أن يُشَكِّلَهُ من تهديدٍ لإسرائيل في المستقبل. وهذا العامل الاستراتيجي (الإسلامي والنووي) يثير قضايا كبرى وحسّاسة في وعي كبار العسكريين والاستراتيجيين الإسرائيليين الذين لا يُعارضون التوجُّه نحو التسْوية في الأساس، لكنهم يريدونها بعد حربٍ أو حروبٍ تُنهي هذين الخطرين أو تُضْعِفُ آثارَهما.

لكنْ ماذا عن المعسكر الآخر، معسكر الصراع أو العداء للتسْوية؟ ما عاد هناك فرقاء أقوياء يملكون استراتيجيةً للتحرير. بل هناك اليومَ في الواقع إيران التي تتحالف معها الحركات الإسلامية التي تملكُ سلاحاً وأرضاً مثل "حزب الله" و"حماس" و"الجهاد الإسلامي". أمّا الجهات "الدولية" المتحالفة مع إيران، مثل سوريا؛ فلا تُصرّح بالعداء للتسْوية، وإنما تقول بدعم حركات المقاومة، وتقومُ بسياسات "مُمانعة" نظراً لعدم ميل الحكومة الإسرائيلية للسلام، ولأنّ الولايات المتحدة لا تُظهر عزيمةً قويةً في أن تكونَ حَكَماً عادلاً. بيد أنّ هذا المعسكر -إن صحّت تسميتُه بذلك– يملكُ خصوصيةً ما كانت موجودةً في مراحل الصراع السابقة؛ وهي وجودُ جمهورية إيران الإسلامية على رأْسه. ولإيران مُشْكلاتٌ مع الغرب والولايات المتحدة، تتعدّى المسألة الفلسطينية، مثل مناطق النفوذ في المشرق العربي والعالَم الإسلامي، ومثل الملفّ النووي. لذلك يُصبحُ التعامُلُ مع القضية الفلسطينية جزءاً من الصراع الاستراتيجي في المنطقة. ومن الطبيعي –والحال هذه- أن تتأثّر طرائق رؤية إيران للصراع على فلسطين، بمدى التجاوُب أو عدمه من جانب الولايات المتحدة تُجاه ملفّاتها الأُخرى. وهذا تطورٌ جديدٌ ما عرفته القضية الفلسطينية منذ عام 1948؛ بمعنى أن يصبح القرار بشأن الحرب أو التسوية في فلسطين ليس بأيدي العرب، وأن يصبح النزاع بين الولايات المتحدة وإيران في جزءٍ منه نزاعاً على مناطق النفوذ في العالم العربي.

أمّا العربُ الآخَرون -ورغم التفاوت في الخطاب من دولةٍ لأُخرى- فهم داخلون جميعاً، ومعهم السلطة الفلسطينية، في معسكر التسوية، وسقْفُهُمُ "المبادرةُ العربيةُ للسلام". ومن هذا المنظور فهم يؤيدون السياسة الأميركية الجديدة الساعية لتسْويةٍ، والعاملة طوال العام ونصف العام المنصرمَين، على الملفَّين الفلسطيني والإيراني. وقد سعت كُلٌّ من الولايات المتحدة وإيران لكسْب الأطراف العربية لوجهة نظرها. ورغم توجُّس العرب في الخليج والمشرق من التدخلات الخارجية؛ فإنّ الأطراف العربية في أكثريتها أصرَّت دائماً على أنه لا علاقة مباشرةً لها بالصراع الغربي مع إيران حول الملفّات الخاصّة بها. وما اقتنع الطرفان الأميركي والإيراني بذلك. فالأميركيون يتهمون سوريا بالانحياز لإيران، والإيرانيون يتهمون دول الاعتدال العربي بالانحياز للولايات المتحدة.

في ضوء هذه الاصطفافات القائمة منذ عام 2006 على الأقلّ، يُلاحَظُ عودةُ التوتُّر والتصريحات المهدِّدة بالحرب. وكان التوتُّر العلنيُّ قد تراجع حتّى برزت مسألتان: قصة صواريخ سكود، والتي قالت إسرائيل والولايات المتحدة إنّ سوريا أعطتْها لـ"حزب الله"، ونجاح الولايات المتحدة في إقناع المجتمع الدولي (ومن ضمنه روسيا والصين؟) بفرض عقوبات في مجلس الأمن على إيران في يونيو المقبل. وللتوتُّر الذي نتحدثُ عنه مظهران: تصريحات الإسرائيليين المُتضاربة والداعية للحرب على حزب الله وسوريا وإيران. وتجدد المطالبة الإيرانية للولايات المتحدة بمغادر المنطقة، والردّ الأميركي العالي اللهجة. على أنّ هذا التلاطُم العلني تخللهُ أيضاً تصاعُدُ الجدال بين الحكومة الإسرائيلية وإدارة أوباما بشأن الاستيطان، وشروط بدء التفاوُض مع الفلسطينيين، واختلاف التقديرات بشأن إيران.

إنّ الذين يتحدثون عن ارتفاع درجات وأخطار الحرب، يعْنُون بذلك عدة احتمالاتٍ أو سيناريوهات: أنّ تُبادر إسرائيل لشنّ هجومٍ على "حزب الله"، وربما على سوريا أو طُرُق إمدادها للحزب. أو أن تُهادن إسرائيل إيران. أو أن يبادر الحزبُ لإطلاق صواريخ على إسرائيل، أو أن تتحرك إيران ضدّ القواعد الأميركية بالخليج. ولا شكَّ أنّ إسرائيل شديدة الانزعاج من موقف إدارة أوباما، وربما لجأت بالفعل للحرب الصغيرة للإحراج وتغيير الموضوع. أمّا "حزب الله" فإنه منذ فترةٍ لا يُهدِّدُ ويتهم إسرائيل بتقصُّد العدوان. في حين تؤكّد إيران على أنّ مواجهتها مع الولايات المتحدة دفاعية وفي الخليج الذي تُجري البحرية الإيرانية الآن مناوراتٍ فيه، لكنْ رغم تعدُّد الاحتمالات، وارتفاع الأخطار بالفعل؛ فالراجحُ أنّ أياً من الأطراف لا يريد أن يكونَ البادئ، وهم جميعاً يعتبرون أنّ الكرة في ملعب الولايات المتحدة، التي لا يرضى أيٌّ منهم بسياساتها الحالية. إنما هذا لا ينفي أنّ كلَّ الأطراف إنما ترمي إلى الحصول على رضا الولايات المتحدة في النهاية، وبما يؤدي إلى التوفيق بين مصالح الطرفين. وإذا كان الأمر كذلك؛ فاللجوء إلى الحرب يظلُّ الحلُّ الأخير، لأنّ الولايات المتحدة لن تقبل ذلك من أحدٍ الآن.

ويبقى أنّ الذي يحدث الآن هو المزيدُ من الاصطفاف، والمزيدُ من التوتُّر، ولا أحد يريد التنازُل عَلَناً، رغم التفاؤل المستمرّ لوزير الخارجية التركي!.