خبر في الذكرى الثانية والستين لـ« تسللهم »../ رنا بشارة

الساعة 06:51 م|22 ابريل 2010

في الذكرى الثانية والستين لـ"تسللهم" رنا بشارة

 

قبل 62 عاما تسللت ميليشيات الحركة الصهيونية إلى فلسطين. لم يحمل أعضاؤها إقامات أو تأشيرات دخول أو جوازات سفر، وإنما حملوا وعدا بريطانيا لشرعنة نهب الأرض والسيطرة عليها والاستيطان فيها. فاقتلعوا الفلسطينيين من 20 مدينة ونحو 400 قرية وهجروا حوالي 700 ألف فلسطيني عن وطنهم.

 

لقد منح "بلفور" غطاء لبطش المتسللين، ووفر شعور الأوروبيين المتعاطف مع ضحايا المحرقة من اليهود على أيدي النازيين في الحرب العالمية الثانية فرصة دائمة للإسرائيليين لتحقيق أهدافهم.

 

قبل نحو أسبوع وعشية استعداد الفلسطينيين لإحياء الذكرى الثانية وستون للنكبة جاء خبر الطرد الذي يتهدد سبعين ألف فلسطيني ومتضامن أجنبي وفق قانون يحمل الرقم 1650.

 

لقد أعاد الخبر- الذي قيل بأنه "سرب" لصحيفة هآرتس الإسرائيلية- إلى أذهان الفلسطينيين مشهد العام 48، ووصفه البعض بنكبة الفلسطينيين الجديدة، ذلك إن لم يكن من الناحية الشكلية، وإنما من باب مآسي التشريد والتهجير والتشتيت التي سيخلفها تنفيذ هكذا قرار.

 

لقد أراد الإسرائيليون للخبر الذي قذفت به "الصحيفة" في المرمى الفلسطيني أن يبدو مسربا، متأرجحا بين الشائعة والحقيقة، مخلفا حالة من الذعر والبلبلة لدى الفلسطينيين وتصورا بأن سبعين ألفا سيرحلون مرة واحدة إلى داخل وطنهم أو إلى خارجه أمام أعين سلطة مكبلة وعاجزة عن الدفاع عن حقوق مواطنيها وحمايتهم، بل إن القرار سيطال حتى مسؤولين في السلطة ذاتها، وفي مناطق من المفترض أنها خاضعة للسيادة الفلسطينية. إنها صفعة أخرى تتلقاها السلطة الفلسطينية رغم تمسكها المستمر بخيار المفاوضات دون غيره، وعدم التنازل عنه حتى في ذروة الغطرسة والاستفزازات الإسرائيلية التي لا تنتهي.

 

لاحقا لتفاعلات الخبر، جاء التعقيب الإسرائيلي "مطمئنا" الفلسطينيين بأن "قرار الطرد ليس بجديد، وإنما يعود للعام 1969، وبأنه لن يتم طرد 70 ألف غزي ومقدسي ومتضامن أجنبي، وما يثبت صحة ذلك أنه لم يتم طرد أكثر من خمسة فلسطينيين خلال العام 2010 مقارنة بالأعوام الثلاثة التي سبقته، حيث طرد مئة فلسطيني،" فقط لا غير، وبأن للفلسطينيين المهددين بالطرد حق استخدام "الديمقراطية" التي يمنحها لهم الاحتلال واللجوء للمحاكم الإسرائيلية، علما بأن ملف الطرد وفق "الناطق باسم الجيش الإسرائيلي" قد فتح بعد شكاوي قدمت لتلك المحاكم، مما استدعى المحكمة العليا الإسرائيلية لتشكيل لجنة قضائية خاصة للبت في قضايا "التسلل" بالاستناد إلى القرار الصادر قبل 41 عاما، وهذا بعينه العذر الذي يمكن وصفه بأقبح من الذنب.

 

إنه نهج الحرب النفسية الذي اتبعه الإسرائيليون على مدار 62 عاما للاستمرار بتنفيذ الطرد والاستيطان والهدم والمصادرة وتفريغ الأرض من الفلسطينيين... نشر معلومات تبدو وكأنها مسربة قابلة للتشكيك، فحص ردود الفعل، تنفيس غضب الفلسطينيين واحتوائه ومن ثم التنفيذ التدريجي للخطط الإسرائيلية بعد أن يكون الفلسطينيون قد تجرعوا مرارة الكأس.

 

فبموازاة تراجع ردود الفعل الشعبية والرسمية والإعلامية ستباشر سلطات الاحتلال عمليات اصطياد من وصفتهم بـ"المتسللين" من الفلسطينيين على الحواجز العسكرية الإسرائيلية، أو حتى من خلال اقتحام "مناطق السلطة الفلسطينية"، وقد قامت بذلك مرارا.

 

وكمثال آخر على هذا النهج نذكر كيف "سربت" "بلدية القدس" قبل خمسة أعوام خبر هدم 88 موقعا سكنيا عربيا في حي "البستان" في بلدة سلوان في القدس، فاستنفر الفلسطينيون وسادت حالة غضب شعبي في البلدة ليعلن الإسرائيليون فيما بعد بأن القرار ليس بجديد وللفلسطينيين حق الاعتراض في المحاكم الإسرائيلية عليه، وهو بالفعل لم يكن بجديد ويأتي ضمن مخطط شامل أعد لتهويد القدس منذ سنوات. لم ينفذ بعدها الإسرائيليون عملية هدم جماعية في "البلدة"، بينما كان الهدم والطرد والتهجير جاريا في مواقع مختلفة وبوتيرة غير مسبوقة، والأمثلة لا تحصى.

 

لم تكن الحروب النفسية التي خاضها الإسرائيليون على مدار 62 عاما موجهة ضد الفلسطينيين فقط، وإنما عمد القادة الإسرائيليون إلى تعبئة الشارع الإسرائيلي بالتطرف والحقد والكراهية بالأسلوب ذاته من خلال قرع نواقيس "الأخطار" الفلسطينية والعربية والإقليمية التي تهدد "الأمن الإسرائيلي" باستمرار، وبالتالي خلق رأي عام إسرائيلي مشحون بالعداء والتحريض والعنصرية يغذي بدوره البطش والتصعيد، ويجعل من كل عدوان يشنه قادته مبررا وحائزا على تأييد الغالبية الساحقة في المجتمع الإسرائيلي.

 

لم يبخل "المتسللون" على الفلسطينيين بقرارات وقوانين الطرد والتشريد والتشتيت ولمّ الشمل وفصل الشمل... جميعها قابل للتحديث والتعديل والتفعيل وفق الضرورات الديمغرافية، وما الدعوات إلى اللجوء للمحاكم الإسرائيلية سوى هروب إلى الوراء من ذاكرة الجرم التي تطارد الإسرائيليين منذ 62 عاما، ولذر الرماد في عيون من يحاول تعرية الديمقراطية التي يستقوون ويتغنون بها أمام العالم، هذا عدا إقحام الفلسطينيين داخل حلقات قانونية مفرغة في محاولة بائسة لمحو ذاكرة النكبة من أذهانهم وتهميش القضية الفلسطينية كقضية احتلال وشعب هجر عن أرضه وتحويلها إلى مجرد إشكاليات قانونية وحقوقية عينية عنوان الحل لها محاكم الجلاد ذاته.

 

إن كانت القوة العسكرية هي التي مكنت عصابات الحركة الصهيونية قبل 62 عاما من السيطرة على الأراضي الفلسطينية وإقامة "دولة" إسرائيل على أنقاض القرى والمدن العربية التي هدمتها وشردت أصحابها، واحتلال الجزء المتبقي من الأرض الفلسطينية عام 1967، إلا أنها ليست هي تلك القوة التي مكنت هذه الدولة من البقاء متماسكة على مدار العقود الستة الماضية.

 

إن وصفة القوة التي قامت عليها المؤسسة الإسرائيلية وتعتمد عليها في صمودها تستند إلى مجموعة من العوامل التي لنا أن نتخيل ماذا كان ليجري في غياب ولو بعضا من الذي نملك القدرة على تغييبه...

 

- استخدام الإسرائيليين المستمر للتعاطف الأوروبي الناتج عن الشعور بالمسؤولية تجاه محرقة اليهود على يد النازيين.

 

- عمل المؤسسة الإسرائيلية الدؤوب على تصدير الرواية الإسرائيلية بشأن "رفض العرب والفلسطينيين القبول بقرار التقسيم وتقاسم الأرض المسلوبة مع اليهود بعد مرور فترة وجيزة على النكبة دون تصدي إعلامي عربي حقيقي لهذه الرواية.

 

- ترويج كافة أشكال المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال في الغرب على أنها أنشطة "إرهابية"، "تخريبية".

 

- اختلاق كذبة "يسار" إسرائيلي لم يحركه سوى الحفاظ على ماء وجه "الديمقراطية" الإسرائيلية أمام العالم، باستثناء عدد لا يذكر من الأفراد الناشطين الذين يعملون بدوافع مبدئية.

 

- قرع القادة الإسرائيليين نواقيس "الأخطار الفلسطينية والعربية والإقليمية" التي "تتهدد" أمن الإسرائيليين باستمرار، وذلك لتعبئة الرأي العام الإسرائيلي المحلي وجعله في حالة استنفار دائم وإثارة شفقة المجتمع الدولي والحفاظ على تعاطفه.

 

- معايرة الفلسطينيين بالمعاملة التي يتلقونها في الدول العربية من اعتقال وطرد وإبعاد وغياب حقوق المواطنة، وترديد المقارنة بين "الديمقراطية" الإسرائيلية المتاحة أمام الفلسطينيين وديكتاتورية الأنظمة العربية.

 

- إحداث شق عميق في الصف العربي بعد توقيع معاهدة السلام مع مصر عام 1978.

 

- استغلال 11 أيلول لإلصاق تهمة الإرهاب بالعرب والمسلمين وبأي حزب سياسي ذي طابع إسلامي ديني.

 

- شق الصف الفلسطيني وتغذية انشقاقاته باستمرار.

 

- عدم مواكبة الخطاب الفصائلي السياسي الفلسطيني في الشتات للمستجدات المتسارعة التي حلت على أرض الواقع في فلسطين وتوقفه عند زمن وجيل محددين. (ذلك، دون انتقاص من أهمية الدور النضالي الذي لعبته القيادات والأحزاب الفلسطينية في الخارج في الماضي).

 

- وجود لوبي صهيوني فعال سياسيا ودبلوماسيا وإعلاميا في الخارج، وانخراط الإسرائيليين في أهم المؤسسات الاقتصادية والإعلامية عالميا، مقابل جاليات وحركات فلسطينية وعربية متناثرة وأحيانا متناحرة.

 

- الانقسام السياسي العربي/ العربي.

 

- استقواء الإسرائيليين أمام العالم بتمسك السلطة بخيار المفاوضات دون غيره.

 

- العمل المستمر على التأثير على الفلسطينيين في مناطق 48 باتجاه الأسرلة، من خلال التعامل معهم كأقليات وطوائف ومحاولة تجنيدهم في صفوف "الجيش الإسرائيلي" وفرض الخدمة المدنية عليهم وسن القوانين الهادفة إلى محو ذاكرتهم التاريخية.

 

- تشجيع الفلسطينيين والعرب على التطبيع من خلال استدراجهم للمصافحات في المحافل الدولية أو من خلال القيام بأنشطة ثقافية مشتركة وإقامة علاقات تعاون أكاديمي واقتصادي وتجاري، وعقد لقاءات حوارية "إنسانية" تجمع بين الشباب والأمهات والآباء وأقرباء "الضحايا من الطرفين". وكل ذلك، بالطبع، يلقى التشجيع والتمويل اللامحدود من الغرب.

 

- الدعم الأمريكي اللامحدود لإسرائيل والانصياع للمطالب الإسرائيلية باستمرار والذي لم يثن العرب عن سلوك نهج الترقب مع كل انتخابات أمريكية جديدة دون أخذ زمام المبادرة وفرض ضغط حقيقي عليها.

 

إن العوامل السابقة- بمعزل عن قوة إسرائيل العسكرية- كانت كفيلة بالحفاظ على قوة وتماسك المؤسسة الإسرائيلية على مدار اثنين وستين عاما، وستبقى كذلك طالما بقي هذا المناخ متوفرا.

إنها مجرد محاولة متواضعة لاستخلاص بعضا من عبر الماضي ونحن نمر في أيام هذه الذكرى الأليمة.