خبر المثقف المقاوِم ..علي عقلة عرسان

الساعة 09:20 ص|16 ابريل 2010

 

 

المثقف المقاوِم ..علي عقلة عرسان

كان المفكر الفلسطيني الكبير، والمناضل الذي دفع نور عينيه في استهداف العدو الصهيوني له أثناء عمله في مركز الأبحاث الفلسطينية ببيروت، الدكتور أنيس الصايغ، قد طلب إلي أن أكتب مشاركاً في كتاب يصدر تكريماً للمناضل الفلسطيني الراحل شفيق الحوت، وقد وافته المنية قبل أن ينجز هذا الذي رأى أنه تحية وفاء لزميل في النضال والحلم. وأرى لزاماً علي أن أقدم ما كتبته إلى روح المناضل الفلسطيني الكبير شفيق الحوت، شمعة من شموع قلبه المتوهج بحب الوطن، المتألق بمبدئية المقاومة حتى تحرير فلسطين من النهر إلى البحر.. في هذا الوقت الذي يقوم فيه العدو الصهيوني بترحيل الفلسطينيين في الضفة الغربية من وطنهم التاريخي فلسطين، تحت سمع العرب وبصرهم، وهم رقود أو في حالة سبات مقيم. 

                                                                                                                

علاقة جدلية، حيوية وعميقة، تقوم بين من يكتب سفر خلاصه بدمه، ومن يكتب، من أجل الخلاص، أسفاراً بقلمه. أحدهما يدعو إلى تجسيد رؤية، ويمتطي صهوة الحلم مدخلاً لتغيير الواقع، يرتاد ويختطّ طرقاً يدعو إلى السير فيها، والآخر يجعل من اقتحام عالم الرؤية والحلم بعزم روحه وطاقة جسمه، ومن سلوك تلك الطريق وصولاً إلى الهدف، أمراً ممكناً وبمتناول المجتهد الجريء.

وحين يحنِّي الدمُ تراب الوطن، وتلامس قدسَ أقداسه سلامياتُ الحروف الممتدة في عروق الجسد والأرض والشعب والتاريخ، وتخضل اخضلال العين بالدمعّ، وتضرب جذورها عميقاً في تربة الإبداع والانتماء، وتذهب بعيداً في التأثير في أرواح وقلوب وعقول وضمائر، ويغدو حداؤها مسموعاً ومؤثراً.. عندها يوقظ القلبُ عزماً في القلب، وتجد الروحُ طريقها إلى الروح، ويهز القولُ  شجرةَ العطاء في كل نفس فيسَّاقط جناها بطولات وتضحيات هي ثمر العز طرياً وطلياً، ويُبعث فيها وهجَ التاريخ وزهوه، فتجود فداء واستشهاداً على طرق الحرية والكرامة والتحرير.. وينتج كل ذلك مناخ تفاعل العطاء الوطني والقومي والإنساني وتبادله، بين كلمة مسؤولة نذرت نفسها للحق والحرية والحياة، وإنسان حر تتلخّص معاني الحياة عنده في موقف شريف ووقفة جهاد تكرِّس عزاً على أرض وطن عزيز ونصراً لعقيدة وحرية وشعب يتوق للحرية والكرامة.. إنسان يحركه الانتماء والإيمان والوعي المعرفي بإرادة جبارة نحو سلوك طريق التنفيذ بشجاعة، وتخلق الكلمة الصادقة فيه مناخ النضال، وتثمر روحه عزماً وأملاً ونوراً، فتجود بدم زكي يغذّي مشكاة النور والأمل على طريق مجد الإيمان ومجد الإنسان ومجد الحرية والأوطان.

والعلاقة الجدلية ذاتها تقريباً تنشأ بين أولئك الذين يخلصون كلياً لتلك المهمة، وبين الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي الذي يعيشونه ويناضلون من أجل تغييره، فالمرء ابن المناخ الذي تهب عليه كلَّ يوم نسائمهُ ورياحهُ ويتقلب على صفائح حَرّه وقَرّه.

وإذا كانت الكلمة الحرة ذات إسهام في صنع قرار المقاومة ودفعها وفعلها وإذكاء نارها المقدسة، فإنها إنما تستنبِت شرفها ومقومات وجودها وحيويتها وتأثيرها في تربة الحق والعدل والجهاد والاستشهاد، في الإصرار على المقاومة بالكلمة والموقف والسلاح من أجل تحرير كل ذرة من تراب الوطن، وتحرير المواطن، وإشراق غد انتصار الحق والعدل والإنسان. وعلى طرق مقاومة الاحتلال الصهيوني الذي يعلن في كل يوم عن عودة عنصرية نازية جديدة أكثر حقداً وخطراً على الإنسانية والقيم من نازية هتلر.. نازية تهدد "بحرق تراب لبنان" وتنتشي بتدمير غزة وارتكاب جرائم إبادة ضد شعبها وجرائم ضد الإنسانية في كل بقاع فلسطين. على طريق تلك المقاومة العربية الإسلامية ضد الصهيونية الهمجية والنازية الجديدة، تزهو الكلمة الموقف بأهلها وبأن تنتمي إلى المقاومة وتمجِّدها وتساهمَ في إذكاء شعلتها، وبأن تتسامى إلى مقام الشهادة بترانيمها لتُقْبل هناك وشاحاً، أو زينة على وشاح يطرزه الدم الطهور.

لقد قدم مفكرون وأدباء من أبناء أمتنا مساهمات في أدب المقاومة ومن أجل استمرارها، ووشاحاً لمجد الشهادة وأبطالها، وواكبوا ذلك الجهد السامي الذي يقدمه أبطال المقاومة الوطنية اللبنانية في جنوب لبنان، وعلى رأسهم حزب الله، وفي المحتل من فلسطين، ورفعوا أصواتهم من أجل استمرار المقاومة واتساع مداها؛ وقدموا ثمر الكلمة ليكونوا ناراً ونوراً: ناراً تحرق الفساد الذي يصيب الضمائر وينشر العفن في النفوس، ونوراً يهدي إلى طريق الخلاص والشهادة ويضيء صرحها الشامخ في أرضنا العربية. وهو بعض الإسهام في المواجهة الثقافية على الجبهة المفتوحة مع الاحتلال وعملائه وأعوانه وغزوه الهمجي المستمر، الذي تشنه "إسرائيل"، مدعومة بالصهيونية والولايات المتحدة الأميركية. ولم يكن ذلك من أولئك الأدباء والكتاب سوى جهد المقلِّ، فالأدب أكثر قدرة على العطاء للمقاومة مما أعطى والمثقف المبدع يستطيع أن يفعل الكثير، مؤكداً في عطائه إيمانه المطلق بقدرة شعبنا العربي على تحقيق النصر، واعتزازه بالعمليات النوعية وبالبطولات الفذة التي يقوم بها أبناء أمتنا العربية ضد العدو الصهيوني في جنوب لبنان وفلسطين، من أجل التحرير والحرية والكرامة والاستقلال، من أجل انتصار الحق والعدل والإنسان في عالم غدا فيه الحق والإنسان غريبين مشردين في طرق العولمة والتجارة بالمبادئ، وليس لهما ملجأ وسلاح سوى شعلة الدم والكلمة الموقف، في جهادهما من أجل البقاء في أرض البشر، ومن أجل قيم خيِّرة في عالم أهم ما يحتاج إليه القيم الخيرة.

وما ينبغي أن يؤكد عليه الكتاب خاصة والمثقفون عامة هو حاجتنا إلى استمرار المقاومة النوعية في هذه الظروف التي ينمو فيها سرطان الاستيطان والتآمر الأميركي- الصهيوني على مواقع الصمود والمقاومة في الوطن، وتحقن اتفاقيات الإذعان السابقة بما ينعش مسيرة الاستسلام ويوطد لإسرائيل ومشروعها أركاناً في أوطاننا. فهذه المقاومة النوعية، التي أجبرت العدو الصهيوني على الاعتراف بالقرار 425 بعد تنكر له دام عقدين من الزمن، وأجبرته تحت وقع الخسائر التي تلحقها به على الانسحاب من مواقع حصينة مثل موقع " سُجُد"، وتركت جيش العملاء المسمى بالجنوبي " منهاراً، وجنود العدو في حالة ذعر: " لم يعودوا قادرين على حراسة المواقع العسكرية الإسرائيلية، وأنهم يخشون القيام بمثل هذه المهام، ويصفون مراكز المراقبة والحراسة بأنها مراكز الموت والانتحار." على حد قول المراسلين العسكريين الإسرائيليين،  ويضطر رئيس حكومتهم باراك إلى القول: " لا جدوى من إقناع الشباب بالقتال"، ويسارع لاتخاذ قرار بالانسحاب في أقرب وقت ممكن؛ هذه المقاومة تستحق أن تنصر وأن يستلهم جهادها، وأن ترفَع الرؤوس عالياً بها، وأن يستنبت شرف الأدب في محاريبها.  

ومن أولى واجبات المثقفين، فيما أرى:

1- الدفاع عن شرعية المقاومة ومشروعيتها، لاسيما في ظل ظروف وسياسات وحملات إعلامية صهيونية وأميركية وغربية وحتى عربية أحياناً، تريد أن تسبِغ عليها صفة الإرهاب، وتسحب عنها المشروعية وتحملها مسؤولية تدمير "السلام" وفرصه!؟ فالمقاومة ضد الاحتلال حق مشروع لمن تقع أرضه تحت الاحتلال، وهذا الحق المشروع، الذي تقره الشرائع والقوانين الدولية وأعراف الشعوب، ينبغي الدفاع عنه في معارك الشعوب ضد الاستعمار والعنصرية، وهو من أوّل الواجبات وأقدس المهمات.

2- استلهام تضحيات المقاومين وبطولاتهم ومعاناة أسرهم، في الإبداع الأدبي والفني، وتقديم المقاومة بأجلى صورها وأرفع قيمها وأنصع تلك القيم إلى المواطنين والرأي العام، ورفع نماذجها قدوة، وإعلاء قيمة الفداء التي تقدمها تلك النماذج مثلاً يحتذى، لاسيما في المدارس والجامعات وأوساط الشعب.

                والمثقف مسؤول، بحكم الموقف والاختيار والوعي، عن إظهار قيمة المقاومة وضرورتها وفضائل القائمين بها؛ فمن يقضي من أجل الوطن، ويضحي بمستقبله ومستقبل أطفاله ليس كمن يتاجر بالوطن وينام مرتاحاً آمناً،على حساب راحة الآخرين وأمنهم؟! ومن يدفع دمه ليعيش الآخرون بكرامة ليس كمن يمتص دم الآخرين ليعيش، برخاء، على هامش القيم والكرامة. ومن واجب المثقف أن يبرز ذلك ويدافع عن الفضائل والقيم.

3- على المثقف وسادن الثقافة المسؤول تاريخياً عن دورها ومكانتها ودورها، ألا يُهزَم من الداخل، فيلحق الهزيمة بالآخرين، وألا يعمل على غرس روح الهزيمة في الأجيال، وألا يضع ثقل الوعي الثقافي في خدمة العدو أو في مجرى فعل سلبي من شأنه تفتيت الثقة وإضعاف الإرادة الوطنية أو تدميرها وإغلاق منافذ الأمل أمام الناس، ليقودهم من بعد إلى الاستسلام، وهو يتغنى بواقعية انهزامية يكون من نتائجها القضاء على المعطيات الإيجابية، التي تمكِّن الفرد والأمة من المبادرة إلى فعل منقذ في كل اتجاه؛ والتنبه إلى أوضاعها واستدراك أحوالها بكل السبل.

                فالثقافة التي تصنع الهزيمة أو تكرسها أو توحي بها ثقافة تقوم بدور الطابور الخامس في الداخل، وتعمل على كسر ظهر المقاومة بدلاً من القيام بإسنادها معنوياً، وهي من ثم تكسر ظهر الشعب بالغفلة أو بالتغفيل والتضليل، وتسلم الوطن والأمة إلى الهزيمة والضياع.

4- على المثقف أن يقدم، على أرضية العلم والإيمان والعمل بهما، خطاباً بنّاءً يصب في مجرى الحق والتحرير والحرية والعدل، ويسعى إلى إقناع أبناء الأمة بأن قضية الفئة المقاومة هي قضية الجميع، ومسؤولية دعم ذلك مسؤولية الجميع، لتغدو المقاومة قضية شعبية وفعلاً شعبياً أيضاً وهذا يستدعي منه:

أ-      التدقيق في نوع الخطاب المطلوب في الظروف والأوضاع الراهنة. وتقديم هذا الخطاب مهما كانت نتائج تقديمه مكلفة له ولاسيما في ظل وجود ضخ إعلامي مضاد للأمة وللمقاومة، ووجود أنظمة عربية مستسلمة أو تدعو إلى الاستسلام وبيدها قرار السلم والحرب ومعظم مقومات ذينك الفعلين، ووجود " مثقفين" يقدمون خدمات للعدو يعجز هو عن تقديمها لنفسه/ مهما كانت متطلبات تحويل ذلك الخطاب إلى فعل قوة يؤدي إلى حالة إيجابية ونتائج عملية على الأرض، ومهما كانت متطلبات ذلك قاسية. فَنَفَسُ الأمم لا يقاس بنفس الضعفاء من أفرادها، أو بنفس أفراد بل أجيال أحياناً من أجيالها.

ب- تقديم الأنموذج العلمي والعملي في سلوكه وممارساته ليعطي لخطابه مصداقية واقعية محسوسة وملموسة، فمن دون تلك المصداقية يتحول الخطاب إلى شعار فارغ؛ وما أكثر ما عانينا من الشعارات الطنانة الفارغة من كل مضمون عملي، وقد لا يكون العيب في الشعار، وإنما في الأداء الذي يحكمه أو يتحكم بنتائجه ومصداقيته ومفعوله.

5- على المثقف أن يشكل ثقلاً في الحضور الجماهيري والاقتناع الشعبي والحشد الشعبي أيضاً وراء المقاومة وفعل التحرير، وأن يساهم في صنع إرادة التحرير ومناخه وتعزيزهما، وأن يشكل حضوراً في ساحة القرار السياسي ليدفع باتجاه ما يدعم المقاومة وتصعيدها على أسس من الكفاءة والقوة والاقتدار. فاستخدام مصداقية "الثقافي" وتأثيره وأدواته وبعده المعرفي والتاريخي كل ذلك مندوب إليه في ظرف تحتاج الأمة فيه إليه. وحين ينجح المثقف في إعطاء المقاومة صبغة شعبية شاملة يضع الأمة، بإرادة حية، على طريق النهضة والتحرير والتقدم.

                فالمواجهة أتون يصهر معدن الشعب ويطهره ويخلصه من الشوائب ويبرز خصائصه، والمواجهة امتحان يؤدي دخوله بثقة واقتدار إلى ولادة جديدة يقبل فيها المرء على الحياة ويتصدى لتحدياتها وصعابها؛ والمثقف شعلة هذه المواجهة ونورها، فليكن له فضل ما خُلِق له أو ما نذر نفسه له.

6- أن يخلق مناخ المقاومة /نفسياً واجتماعياً/ وأن ينميه ويدافع عنه، ويعمل على توفير الرَّفد له، من خلال استنهاض الروح المؤمنة وتجليات عطائها، والتركيز على القيم الوطنية والانتماء الوطني والقومي، والمسؤولية الفردية والجماعية تاريخياً عن الوطن والمواطن والأمة، عن الحق والذي يدافع عنه، عن الحرية والذي يمهرها بدمه وبكل مقومات راحته ومستقبله.

                وأن يتواصل المثقف مع المقاومة تواصلاً حياً، بالوسائل المتاحة، فالمقاتل يشعر بتدفق الثقة في روحه والقوة في أعصابه كلما شعر بجدوى الفعل الذي يقوم به وردود ذلك الفعل؛ ويتم ذلك بفاعلية إذ استشعر وجود الآخرين معه وتقديرهم لأدائه وتضحياته ومعاناته، وحبهم له واحترامهم لدوره واعترافهم بفضله.

                والمثقف أهل لأن يقدم للمقاوم ذلك، مع كل ما يثبت وجوده ويدعم ذلك الوجود، ويخلّد ذلك النوع من الأداء.

7-     على المثقفين تأكيد التضامن والتكامل الاجتماعي مع المقاتلين وأسرهم، مع المقاومة وشهدائها وأهل أولئك الشهداء؛ وهذا عامل من أهم العوامل التي تدفع أداء المقاومة إلى الأمام، ويخلق حالة اجتماعية فيها الاطمئنان النسبي على الأقل والمسوِّغ المؤثر، لمد المقاوم بالزاد المادي والمعنوي، فضلاً عن مدها بتكاليف التجهيزات والمعدات والعدد.

                وتلك المسؤولية بوجهيها المادي والمعنوي من أهم ما يمكن أن يوظف المثقف جهده لخلقها وإنعاشها وتوفير قيمها ومقوماتها في النفوس.

                ولا يكون ذلك بالخطاب "البرجعاجي" ولا برفع الشعار، ولا بالكلام الإنشائي المنمق المرسل من بعيد عبر أجهزة الاتصال ومجالات النشر، على أهمية ذلك وضرورته، وإنما يكون بالتواصل الحي مع المقاومة في مواقعها من جهة، ومع الأوساط الاجتماعية التي يخرج منها المقاومون من جهة أخرى، ومع ما يتركه الشهداء من أثر وتاريخ ومسؤوليات اجتماعية. ويعزِّز ذلك تبني الثقافة للمشكلات والقضايا الخاصة والنوعية التي لتلك الفئات والعمل على حلها وإيصال صوت أصحابها إلى حيث ينبغي أن يصل.

8- على المثقف أن يعزز موقف المقاوم واختياره وموقعه بكل ما في الكلمة من طاقة على الأداء بإقناع وإمتاع وإبداع، والعمل على خلق ذلك الفضاء الذي يمتد عبر تاريخ الأمة بين نماذج مجاهديها وأبطالها وقادتها ووطنييها الحقيقيين وبناة مجدها وبين هؤلاء الذين يقاومون اليوم ويصنعون التاريخ المعاصر للأمة؛ والوسائل إلى ذلك كثيرة وما يبدعه الإيمان والتصميم من تلك الوسائل أكثر بكثير.

فاستقراء التاريخ واستذكار مواقعه ومواقف صَنَعَتِهِ سبيل، وإظهار الحق التاريخي في الأرض سبيل، وحماية المقدس والعقيدة سبيل، والدفاع عن قيم الأمة ووجودها سبيل، وحماية الأهل والأطفال والمستقبل سبيل، والوطنية بجلاء معانيها وقيمها المشرقة مجسَّدة في فعل منقذ سبيل. ومن يؤمن بقضية يبدع في إيجاد سبل خدمتها ونصرتها وتخليدها.

ولا أريد أن أغفل حقيقةً وواجباً على الثقافة حيال الوطن والإنسان من جهة وحيال المقاومة في وضع يعاني منه الوطن والإنسان معاً من جهة أخرى؛ وسبيلاً من سبل تحويل المقاومة إلى إرادة تحرير شعبية شاملة، وقرار سياسي وجماهيري يتحمل عبء ذلك التحرير وينهض به؛ وأعني بذلك العمل في جبهة الوطن الداخلية لتحرير المواطن من الجهل والخوف، وتخفيف معاناته، ومقاومة من يلغي حريته وينتهك حقوقه وحرياته، ويمنعه من ممارسة دوره في المشاركة في صنع القرار والمستقبل بممارسته الحرة، ومسؤوليته الواعية لمحيطها وظرفها وأدواتها وغاياتها، وأدائه في مناخ ديمقراطية نظيفة وسليمة أو أقرب ما تكون إلى النظافة والسلامة. فالثقافة التي تصنع مواطناً حراً تهيئ عملياً لوطن حر، وتقيم من كل مواطن حصناً للحرية ومقاوماً في سبيلها، سواء تعرضت الحرية للانتقاص بفعل عدوان خارجي على الوطن، أم بفعل يقع على المواطن جراء ممارسة سلبية داخلية تجرده من معاني الانتماء للوطن.

فالوطن الحر يقيمه الأحرار ويدافعون عنه، والحرية لا تتجزأ، وهي تتكامل مع واجبات وحقوق اجتماعية وتكتمل بها وبالوعي التام بالحق والعدل وصلاح الغاية والوسيلة معاً. وللحرية في شرطها البشري والاقتصادي والسياسي والحقوقي، وكل ميدان من تلك الميادين هو مجال عمل مثقف يبدع في خدمة المقاومين على الجبهات جميعاً، جبهات البناء الداخلي وجبهات الدفاع والتحرير.

إن محاربة الفساد نوع من تعزيز المواطنة الصالحة ومن ثم المقاومة الناجحة، وبالتالي التحرير والحرية والبناء السليم: تربوياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً يساهم في بناء وضع وطني وقومي سليم هو الآخر يمكِّن من استشعار الواجب والمسؤولية في الدفاع عن الوطن والتضحية من أجله، ويدفع باتجاه المقاومة:

-      مقاومة الانهزام وعوامله في الأعماق الفردية والآفاق الاجتماعية والوطنية والقومية.

-      ومقاومة فعل القوة الغازية: عسكرياً واقتصادياً وثقافياً.

-      ومقاومة الاحتلال والاستيطان والمشروع الصهيوني العنصري، الذي هو النقيض لمشروع الأمة النهضوي العربي الإسلامي.

إن المقاومة روح /معنوية ووطنية وعقيدية وخلقية وإنسانية/ تحكم الجسد وتسوقه في طريقها، وبمقدار ما ينتشر الوعي المعرفي ويتجذّر، تنمو هي وتتعمق وتتجذر في الذات وفي المجتمع بنمو الوعي المعرفي وتعمقه وتجذره واستشرافه. والمثقف هو حامل الوعي أو هكذا يفترض به أن يكون، ولذا تقع عليه مسؤولية خلق مناخ المقاومة وحمايتها والدفاع عنها؛ فالعلاقة بينهما علاقة عضوية بالمعنى الدقيق والشامل والواسع للكلمة.

فهل يبقى، وحالنا ما نرى ونعرف جميعاً، مبرر لتساؤل يقول: ما الذي يصنعه المثقف للمقاومة؛ وهو لا يملك أمر نفسه ولا حريته ولا أمر الوطن وقراره؟!

هنا نتوقف عند حالة لا بد من التوقف عندها، ومسؤولية، لا بد من مواجهتها:

الحالة هي: وطن منتهك مستهدف محتلة إرادته  وبعض أرضه، ويفتك به المرض والفساد والجهل، وتفترِع أقطاره عصي سُلَطٍ لا تقيم للآخرين وزناً.

والمسؤولية هي: من يخرجنا من هذا الوضع أو يدفع باتجاه الخروج منه، وينير شمعة على تلك الطريق ؟!

وهنا تبرز مسؤولية المثقف بحكم الوعي والموقع والاختيار.

فهل يقع عبء الريادة والكشف والقيادة في عصر العلم والمعلوماتية والمعرفة المتنامية على العامل والفلاح والحرفي؟! أم تراه يقع على عاتق الشرائح الأكثر وعياً واقتداراً على الصدور بفعلها ومواقفها عن مسؤولية ووعي، واستخداماً للطاقات والإمكانات والأدوات بوحي من ذينك المسؤولية والوعي؟!

السُّلَط العربية قد تكون غارقة في تفاصيل الأداء على أرضية الهزيمة أو الإحباط أو بؤس الرؤية المستقبلية، فمن يقدم لها روح الشعب عبر رؤية تستمد مقوماتها من واقع الشعب وتطلعه واستقراء تاريخه واستنهاض روحه وإنعاش إيمانه؟!

إنها الثقافة، وإنه التعلق بحب للأمة والوطن والعدل والحرية والناس معاً، يجعل أداء المثقف أداء شبه نبوي في الاستشراف، وفدائي في تحمل المسؤولية، وعقلاني بمواجهة الأوضاع القائمة، وعملاقاً في التضحية على أرضية التمسك بالحق وإضاءة طريق الناس إلى غدها بتقديم أنموذج الشمعة التي تحترق ليمشي الشعب إلى غد فيه الكرامة والسعادة والحرية.

إنها ضريبة المعرفة وضريبة الانتماء معاً، وهي نوع من صَعْقِ البرق لأرض تستنبت فيها روح الخصب وتلقن كلمات الحق بصرخات الرعد، على مطر الوعي أن يسقي عطش الروح ويستنبت في النفس زرعها وثمرها الطيب؛ وأهل الكلمة، من بين أهل الثقافة، مسؤولون عن الريادة وتحمل مسؤولية الأداء في العتمة بمواجهة سطوة الجهل والسوط، وعليهم أن يدخلوها صفاً، حزمة عيدان لا يسهل الاستفراد بها عوداً عوداً، ولهم من بعد على الناس ألا يقولوا لهم ما قالت اليهود لموسى :"اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون".

وإذا نجحت المقاومة في تقديم نماذج من القيادة والريادة والأداء، ترى نفسها في حالة أبوة مسؤولة عن كل مقاوم، واستثمرت الثقافة هذه الحالة، فإن مناخاً إيجابياً يمكن أن ينتشر ليشكل حالة استقطاب شاملة وراء هذا النوع من الأداء الذي نحتاج إليه في وضعنا الراهن.

وتشير سلسلة أداء المقاومة التي ننادي بتآخي الثقافة معها، بل بتداخلهما وتواصلهما عضوياً، إلى تقدم مؤثر في الأداء النوعي الذي يكلف العدو كثيراً، كما تشير المعطيات والاستنتاجات إلى أن التحامنا بالعدو على هذه الصورة القريبة المؤثرة في مرحلية نضالية "تكتيك" على أرضية الهدف الاستراتيجي البعيد، هو من الأمور المطلوبة لأنها:

-      تحدّ من استخدام أسلحته الفتاكة في ساحة المواجهة التلاحمية.

-      وتبقيه في حالة استنزاف وعدم استقرار لا تمكنه من الراحة والبناء على أرضية أمن وأمان يمكنانه من استقدام ملايين المجلوبين لأغراض الاستعمار- الاستيطاني- العنصري وطرد شعبنا وتصفيته بأساليب مغطاة بزركشة قانونية وإعلامية.

-      وتبقي قضيتنا حية في الضمائر والذواكر وأمام الأمم، تلح في استنجاز حسمها لمصلحة الأمة؛ وتدفعنا في طرق عمل مبدع على طريق التضامن أو الاتحاد أو التوحد، في إطار من الرغبة في النهضة الشاملة يستدعيها فعل التحرير والتطلع نحو وجود حي حضاري في عالم لا يحترم إلا الأقوياء بالعلم والمعرفة، بالقوة المادية والمعنوية.

إن الثقافة وأهلها مندوبون لفعل مسؤول يكون للتحرير مدخلاً، وللمقاومة عماداً وسنداً، ويحيطها بمد شعبي شامل، إلى أن تصبح المقاومة مسؤولية شعبية وأداء عربياً شاملاً حتى التحرير والنصر.

وليس ذلك على أمتنا ومثقفينا ومقاومتنا الباسلة بعزيز.