خبر هل يتراجع الفكر الصهيوني أم يزداد انتعاشاً؟..عبد الله بن على العليان

الساعة 11:50 ص|30 مارس 2010

هل يتراجع الفكر الصهيوني أم يزداد انتعاشاً؟..عبد الله بن على العليان

يطرح البعض من الباحثين المهتمين بالفكر الصهيوني أن الصهيونية حققت أهدافها على الصعيد القومي بعد ما تمكنت من جعل الشعب اليهودي شعباً عادياً له دولة - أمة مثلها مثل سائر الدول المنتظمة في العالم الجغرافي السياسي المعاصر. كما أنه لم يعد من الممكن "رمي دولة إسرائيل في البحر" بعد ما تمكن جيشها من سحق الجيوش العربية المجاورة على نحو مذهل.

 

وعليه فإن وضع "إسرائيل" قد استتب، وترسخت مكانتها في المنطقة، وبالتالي فقد آن الأوان لاتخاذ تدابير تتجاوز المفاهيم الصهيونية التقليدية، وتؤدي إلى تحقيق السلام مع المحيط العربي.

 

لكن البعض ينكر وجود مثل هذا التيار في "إسرائيل" وتأثيره سيكون مستحيلاً في مجتمع قام على أيديولوجية صهيونية توسعية، وأن مقولات (نهاية الصهيونية) أو ما بعد الصهيونية صيحات أطلقها المتطرفون من اليهود، وآخر هؤلاء الذين تحدثوا عن انتهاء الصهيونية كان بنيامين نتنياهو رئيس وزراء "إسرائيل" الحالي الذي قال بعد فوز باراك أواخر التسعينيات إن "الصهيونية تنزل راياتها"!

 

والهدف هو تحريك المشاعر الصهيونية بعد خسارة بعض الأحزاب اليمينية في الانتخابات في العقدين الماضيين، والحديث عن مخاطر "نهاية الصهيونية" على وجود "إسرائيل" ذرائع ذات أهداف توسعية، ذلك أن المجتمع الإسرائيلي يكون أكثر تلاحماً في لحظات الحرب والتوتر، وأكثر تفككاً في لحظات الهدوء والسلام.

 

فقد تبين من خلال بعض الدراسات أن هذا الكيان المصطنع لا يستطيع التوازن والاستمرار، من دون ممارسة العدوان للتخلص من فائض التوتر الداخلي وإلقائه في الخارج.

 

ولا شك أن "إسرائيل" لا تعاني من أزمة أمنية استراتيجية، وإن أي حديث على هذا الصعيد إنما يعتبر من باب التهويل، وفيه الابتزاز المالي والعسكري.

 

والذي حصل في مفاهيم ناقدي الحركة الصهيونية - كما يقول د/ معين حداد - أن السوسيولوجيين الإسرائيليين في دراساتهم الجديدة، تحت تأثير التطورات الأبستمولوجية للعلوم الإنسانية التي عرفها العالم الغربي، حيث قام فيه باحثون بأعمال جاءت نتائجها بمثابة ثورة قلبت المقاييس السائدة المتعلقة بالمركزية الأوروبية أو الغربية والمفاهيم الخاصة بهذه المركزية، مثل "التنوير" و"العقلانية" و"الحداثة" و"ما بعد الحداثة" وغيرها مما كان يعتبر من المسلّمات البديهية - كما يعتقدون - وتعرض مفهوم "التقدم" للمراجعة والنقد، ولم يعد على ما كان عليه حين كان يعني أن العالم يتطور نحو الكمال وفق عملية أحادية الاتجاه، وأن المجتمعات تتراتب في سلم يعتليه العالم الغربي بما هو نموذج واجب احتذاؤه. وعليه فقد أدى سقوط "المركز" إلى إعادة اعتبار "الآخر"، وبالتالي التعامل مع هذا الآخر على نحو إيجابي.

 

ولما كان الوسط الأكاديمي الإسرائيلي جزءاً لا يتجزأ من الوسط الأكاديمي الأوروبي والغربي، فقد برز من بعض الإسرائيليين من راح يعمل في اتجاه تقويم ثقافة الآخر، الأمر الذي يؤدي إلى الحض على الأخذ بمبادئ التنوع والاختلاف والتجاوز وسائر مكونات ما اصطلح على تسميته "ما بعد الحداثة".

 

صارت الدراسات الاجتماعية والسياسية تركز على التعدد الثقافي في الواقع الإسرائيلي، وفق منهج تفكيكي يهدف إلى الكشف عن الدور الذي اضطلعت به المؤسسات الرسمية في عملية بناء الأمة والدولة على حساب الحرية بعد ما عمدت هذه الدولة - إسرائيل - إلى تغييب كل ما من شأنه أن يؤدي إلى ما يشبه النقد الذاتي.

 

وهذه الآراء تجد السخرية والتهجم من بعض الأكاديميين والمؤثرين في صنع القرار في الكيان الإسرائيلي، ويعتبرون مقولة "ما بعد الصهيونية" مجرد ترف فكري، لا تيار واسع في المجتمع الإسرائيلي.

 

فقد تمكن اليمين الإسرائيلي من السيطرة فكرياً على قطاع كبير وعريض في "إسرائيل"، وفي سياق توظيفاته السياسية مضى الخطاب الإسرائيلي اليميني في إنكار تأثر الصهيونية بصدمة التحولات الفكرية والسياسية حتى، إن الكاتب الإسرائيلي "آري شفيط" ذهب إلى خلع أوصاف عجائبية على الحركة الصهيونية وفكرها معتبرًا " أنه من بين كل الأحلام الكبيرة لنهاية القرن الماضي، كان حلم هرتزل الحلم الوحيد الذي تحقق ووقف على قدميه، ومن بين كل الأفكار الطوباوية الغامضة التي أورثها القرن التاسع عشر إلى القرن العشرين، ظلت الفكرة الصهيونية الفكرة الوحيدة التي لم تفشل بعد"!

 

وعلى الإجمال فإن الفكر الصهيوني في خطابه السياسي والعملي بحسب محمود حيدر، يؤول إلى التأكيد على الوصل العضوي بين مهمة الحركة الصهيونية، وبين دولة "إسرائيل" مهما حصل من تحولات راديكالية في أنظمة القيم في العالم. لذلك فإن الحدود الفاصلة بينهما ضرورية لإعطاء الفعالية لوظيفة واختصاص كل من الدولة والحركة في أداء مهماتهما التاريخية على الصعد المختلفة، حيث إن المهمة الملقاة على عاتق الصهيونية هي - كما يقول يعقوب حسدائي - "السعي من أجل الوصول إلى الشعب، لا سيما الشباب عن طريق القيادة الروحية من أجل تعميق التضامن اليهودي وإضفاء تعبير عملي إنجازي على هذا التضامن بوساطة هجرة غايتها المساهمة في استكمال إنجاز المشروع الصهيوني بأكبر قدر ممكن من العمل المنظم".

 

ولئن كانت فلسفة القوة هي علة الصهيونية و"إسرائيل" معاً، فهي في مقولة الأرض ومفهوم الجغرافيا والملجأ المفتوح أمام يهود العالم الوعاء الذي تصب فيه.

 

فمنطق القوة هو الجذر الفلسفي العملي لآليات تحقق الفكرة الصهيونية منذ استيلائها على فلسطين، بينما "إسرائيل" هي التجلي الفعلي لمنطق هذه الفكرة.

 

فالصهيونية باقية ما بقيت "إسرائيل" في الوجود. أما ما يقال عن تباين أو تناقض تفترضه التحولات التاريخية بين الأصل الصهيوني والفرع الإسرائيلي، فإن هذه المقولات هدفها دغدغة العواطف بعد خسارة اليمين في الانتخابات ، وهذا ما برز في تصريحها بنيامين نتنياهو من أن "الصهيونية تنزل راياتها" وهي لا تخلو من مقاصد فكرية وأيديولوجية ربما غاياتها حفظ الكينونة اليهودية من الذوبان أو الحؤول دون العودة إلى فضاء الشتات.

 

صحيح أن الصهيونية حققت نجاحاً دعائياً لتثبيت وجودها كما يشير د/ برهان غليون، وفي التغطية على اغتصابها فلسطين، وفي إضفاء الشرعية على سياستها العنصرية، حيث استخدمت نظرية معاداة السامية استخداماً أيديولوجياً في الداخل لتعبئة الرأي العام وحشده حول مشروعها الاستعماري، وفي الخارج لتبرير مشروعها هذا أيضاً بذريعة الدفاع عن النفس ضد تهديد وجودها.

 

"وأوحت للرأي العام لفترة طويلة، حتى بعد 1967م وضم الأراضي العربية الجديدة أن سبب النزاع لا يكمن في الاحتلال اليهودي للأرض، ولكن في رفض العرب الحوار مع اليهود والتعامل معهم، وعدم اعترافهم بشرعية وجود "إسرائيل"، بل وتصميمهم على رمي اليهود في البحر وقد استمر ذلك حتى مؤتمر مدريد للسلام 1991م".

 

وبالتأكيد لا يرتبط فعل الاستعمار بوجود التغطية السياسية والأخلاقية، وليس نجاح الصهيونية في إيجاد مبررات الاستعمار هو العامل الرئيسي في إنجازها العملي، بل إن هذا الإنجاز يرجع بشكل رئيسي إلى نجاح الصهيونية في أن تبقى لصيقة بالاستراتيجيات الاستعمارية واستراتيجيات الهيمنة الدولية، وأن تسير في ركابها. ثم إن للغزو ديناميته الخاصة التي تعتمد على توزيع الغنائم والمكاسب المجانية أو شبه المجانية، وإن ما جذب اليهود أو العدد الأكبر منهم إلى فلسطين ليس الإيمان الديني بالضرورة، ولا حلم التحرر السياسي وبناء دولة، والانعتاق من وضعية الهامشية أو العيش في المعازل اليهودية التقليدية. إن الامتيازات العينية وغير المباشرة من خلال انتزاع ملكية الشعوب المقهورة. ومن يراقب سياسة "إسرائيل" منذ نشوئها يدرك إلى أي حد كانت ولا تزال حتى اليوم قائمة على الهرب من الاعتراف بالواقع الذي تعيش فيه، وهو إنكار حق الشعب الفلسطيني في حقوقه المشروعة في العودة وإقامة الدولة المستقلة على أرضه، وهذا هو منطق الصهيونية في الإقصاء والإلغاء لحقوق الآخر الثابتة بدعاوى الحقوق التاريخية المزعومة، ومحاولة قطع الطريق على قيام دولة فلسطينية مقبلة!

 

وعلى الرغم من العيوب الكبيرة التي عصفت بالتجربة الصهيونية على امتداد ما يزيد على قرن كامل، وبالتجربة الإسرائيلية على ما يزيد على نصف قرن أيضاً. سيظل مبدأ القوة والتحفز واستنفار العصب الصهيوني الأصلي هو العلاقة التي تنظم حاضر ومستقبل هذا الكيان.

 

وفي هذا المعنى يرى المحللون أن الخلل السياسي الذي يصيب الصهيونية في أفكارها وفي مشاريعها، يصيب "إسرائيل" في مجتمعها السياسي وأمنها ووجودها في المنطقة.. فالتكامل بين الحركة والدولة هو تكامل وجودي، ولسوف يؤول إلى نتائج واحدة. وتبدو "إسرائيل" وهي تخوض أطوارها الجديدة من الصراع مع العرب. ومع البيئة الحضارية الواسعة في المنطقة مجالاً حيوياً لاختبار انتهاء الصهيونية أو تجددها.

 

لقد وضعت الصهيونية مقاصدها العليا في الدولة الإسرائيلية، وبهذا صارت الأيديولوجيا الصهيونية عينها، ولا فصل بين الفكرة الصهيونية والدولة الإسرائيلية، ما دامت الأخيرة تتغذى منها وتتحصن بها.

 

لكن هل نقول إن الصهيونية قد كفت عن كونها مجرد أيديولوجيا، وإنما هي ظاهرة واقعية وتاريخية خاضعة لتبدلات الأحوال السياسية وموازين القوى وتحولات أنظمة القيم.

 

لا نعتقد بذلك.. بدليل الالتفاف الإسرائيلي من كل القوى السياسية لإجهاض الانتفاضة. فهل تعيش "إسرائيل" مرحلة "انتعاش الصهيونية" في ظل الأزمة الحالية؟ أم هذه المقولات مجرد تخدير آخر هدفها الحفاظ على ديمومة الكيان الإسرائيلي من أي خطر على وجوده؟.

 

نعتقد أن هذه الأخيرة أقرب للتأكيد أكثر من النفي..

 

كاتب وباحث عماني

صحيفة الوطن العمانية