خبر القدس تخدع غزاتها كما تخدع عاشقيها .. راكان المجالي*

الساعة 11:43 ص|22 مارس 2010

بقلم: راكان المجالي*

ها قد حظيت القدس أخيرا بـ«كنيس خراب» ..! فليهنأ المنتظرون لمشيئة «رب الجنود»: بأن «حجر الخراب» سيأتي من السماء، لا من الأرض. ولا بأس إذا ساعد المحاربون ربهم، في تحقيق نبوءته وتسريعها، بطائرة عمودية، تحمل الحجر الأساس لـ«الهيكل العتيد» ..!؟

للقدس القديمة عادات. ومن عاداتها أن تترك بصمتها في ذاكرة من مروا بها. صديقة مسيحية، أودعتني مشهداً من ذاكرتها في القدس عشيّة «حزيران» الشهير: ليلة شتاء عاصف، ومشيٌ وئيد على شوارع المدينة المبلطة بالصخور. وفجأة، يكفُ القصفُ، ويرتفع الصمت، فلا تسمع الصديقة سوى وقع أقدامها على بلاط القدس المبللة. فيستيقظ خوف مبلول، يذكرك بأنك وحدك .. وهنا!؟

منها، من القدس. اعتاد الشرق والغرب، طوال ألف عام مضت، قياس المسافات بين المدن. ومن بابها. من «باب العمود». يبدأ «صفر» الأميال لمدن الشرق: بيروت، دمشق، يافا، غزة، وحلب...

باب العمود، يفتح صباح المدينة نحو الشمال. أي نحو دمشق أو طريقها. ولهذا يسمّيه الغربيون إلى اليوم بـ«باب دمشق». »أما عرب «الديار الفلسطينية»، فيسمّونه منذ نحو ألفي عام بـ«باب العمود». الإسرائيليون يسمونه اليوم بـ«باب نابلس» لأنه يتجه نحوها.

الرومان هم من بنوا الباب الأصلي. ولا يعرف بدقة ماذا كانوا يسمّونه رسمياً. وعلى الرغم من ذلك، لم تصمد، على مر السنين، سوى تسمية «عرب الديار» لباب القدس الأشهر: باب العمود.

«هدريانوس»، الامبراطور الروماني الشهير، هو من بنى «باب العمود»، عندما أعاد بناء المدينة، مطلع القرن الثاني الميلادي، بعد أن هدمها سلفه «تيطس». وسمّاها «إيليا كابتوليا». وبهذا الاسم عرفها العرب المسلمون الأوائل: إيلياء.

على هذا الباب الجديد للمدينة، وضع هدريانوس عموداً من الغرانيت الأسود لا يتجاوز ارتفاعه أربعة عشر متراً. وعليه تمثال للامبراطور الباني. وعلى عمود الغرانيت، نُقشت المسافة بين القدس ومدن الشرق الأخرى. وبعد بناء المدينة، حظر على اليهود دخولها، أو حتى مجرد النظر إليها من بعيد.. وتلك ملاحظة تعيد الى راهننا حقائق، يشاء البعض أن يتناساها.

تم تصميم شوارع المدينة ومبانيها استناداً للطراز الروماني، الذي يرتكز على فكرة توزيع المباني العامة. حيث أقيم معبد «أفروديت» آلهة الجمال، الذي أنشئت مكانه كنيسة القيامة لاحقاً. أما عمود هدريانوس، فكشفت عنه خريطة مادبا الفسيفسائية، قبل أكثر من مئة عام، ولم يعثر عليه، تحت الباب الحالي، إلا الإسرائيليون. وهو أصغر بكثير، وأقل مهابة، من الباب العثماني الحالي، المنشأ قبل نحو أربعمئة عام.

من حق «قوة» الدولة العبرية أن تتبجح، كما تشتهي. فالقوة المجردة بطبيعتها، لا سيما إذا كانت متحركة ودينامية ومتنامية، تسعى، تلقائياً، لملء الفراغ الممتدّ، والمتاح أمامها. ولا حدود لهذا المتاح، إلاّ الحدود التي تحددها قوة أخرى، مكافئة أو موازية.

ولعل قرون استشعار «القوة العبرية» في مناورات أسلحة أركانها الأخيرة، حاولت تحديد فضائها أو توسيعه، المتاح أو الممكن تمديده، ضمن حقائق القوة والسياسة، الجديدة، في الإقليم.

للغرب الجديد، وحده، «فضل وفضيلة..!؟»، تطوير ديموقراطية «العالم القديم»، بإنتاجه نموذج «ديموقراطية المحاربين»، ممثلاً بنموذج الدولة العبرية الحديث. فالعصابات، التي توحدت لتشكل جيشاً من المقاتلين، ليحمي مجتمعاً هو زوجاتهم وبناتهم وأبناؤهم، ويدير شؤون هذا المجتمع، عبر أحزاب تمثل تشويهات المجتمعات كلها، أعضاؤها متقاعدون من «جيش المحاربين»، بديموقراطية تقيم على جبهة قتال دائمة، في إطار عام، يُسمّى، في أرقى حالات الزور السياسي، دولة.

من الطبيعي أن يكون «الزور السياسي» مخصصاً للآخر وللخارج. ومن الطبيعي أكثر أن تبقى حقائق القوة، وحركتها، هي المحدد والناظم لحركة هذا «التكوين المحارب». وهو بالذات ما أفرزته «انتخابات المحاربين» الأخيرة، بعد أن استشعرت «القوة» مخاطر حقيقية، في فضاء حركتها التقليدي.

أوهام كثيرة، خلال العقود الستة الماضية، راودت أذهان «أنبياء» الدولة العبرية، وآبائها المؤسسين، بإمكانية تحويل «مجتمع» المحاربين إلى «مجتمع مدني»، وذلك عبر تبني القيم المدنية والثقافية للمجتمعات الأوروبية. فأُنشئت، مبكراً، منظمات مجتمع مدني، وحقوق إنسان، والدفاع عن الضحايا. ولم يكن عجيباً أن معظم، إن لم يكن الناشطون كلهم، في هذه المنظمات المدنية، هم من الخارجين من «جيش المحاربين»، المنتهكين للحقوق المدافع عنها، لينتجوا أغرب المفارقات الدائمة، في تاريخ البشرية.

بالوهم يبدو أن هناك مستوى سياسياً يحكم الأمور في الدولة العبرية. وحين تفرض حقائق السياسة ذاتها على الأرض، تأتي حقائق واقع «الدولة العبرية»، لتكذب الجميع، بمن فيهم حلفاؤها الأساسيون ورعاة ديمومة بقائها الغربيون. وهو ما حدث في أول انقلاب عسكري، في تاريخها، عشية حرب حزيران، قبل نحو أربعة عقود. وهو ما حدث ويستمر في الحدوث، بعد فوز حكومة «نتنياهو»، وما يروّج من مشاريع سياسية وعسكرية، بعد أن وصلت جهود «التسوية»، المتواصلة في المنطقة منذ نحو عقدين، إلى آخر استحقاقاتها على الأرض. بسرعة خاطفة، توارت في «دولة المحاربين» كل الوجوه، التي كانت تلوك «السياسة» على طريقة جمل يجترُّ أمعاءه، في «مفازة» لا نهاية لها. وما إن وصل الجملُ إلى آخر «سرابه»، وتقطعت أمعاؤه، حتى تكاثر «ذبّاحوه»، من محاربين كانوا يتوارون خلف جسده المديد. وهو ما نراه من «ترقيع» متوال لشكل العلاقة الدبلوماسية بين الإدارة الأميركية الحالية، وجهودها المتلكئة في سياق التسوية، وبين الحكومة الإسرائيلية الحالية.

إذا كان هناك من مستوى سياسي، يتحكم في شؤون «دولة المحاربين» الاستراتيجية، فهو هناك، في الغرب، وليس بين «جيش المقاتلين» وعائلاتهم، حتى وإن تكاثرت «أحزاب سياستهم». فثقافة الغرب السياسية ذاتها هي التي أنتجت مقولة «ان الحرب شأن أخطر من أن يترك أمرها إلى العسكريين وحدهم».

وفي دولة «العبرانيين الجدد»، ليس هناك سوى «محاربين»، ينتحلون صفات العسكريين..!؟

قد يغيّر كنيس الخراب العتيد بعضا من مشهد القدس العمراني. لكنه سيبقى كالحجر الذي نقشوا عليه نجمة داود، ووضعوه في سورها الخارجي، فظل طارئا نشازا، يعرف «زوره» كل ساكني القدس وزوارها، بمن فيهم اليهود.

أما نحن، فلا «بؤس» من مواصلة الانتظار، لنتائج رسائل «أكمل الدين إحسان أوغلو» الى القادة الغربيين، الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي. ليحذرهم من مخاطر ما تقوم به «إسرائيل» في القدس وأحيائها وحرمها. ولا اذا تصاعد غضبنا، ليصل الى المدى الذي وصله راشد حسين، قبل نحو ستين عاما، حين سنّت دولة العدو قانون حارس أملاك الغائبين، فنهتف من جديد:

«الله أصبح غائبا يا سيدي،

صادر اذاً حتى بساط المسجد

وبع الكنيسة فهي من أملاكه...»

الى آخر ما يمكن ان نصل اليه من تفجع عربي، حتى ولو أوصلنا ذلك الى زمان «أبي سعد الهروي»..!

للقدس عاداتها، كما يشهد وقع أقدام صديقتي، على حجارة شوارع القدس القديمة، قبل أكثر من أربعين عاماً. ومن عاداتها أيضاً: أنها تخدع غزاتها كما تخدع عاشقيها. تماماً، كما فعل «باب العمود» بذاكرة العابرين لأكثر من ألف عام...!!

(*) نقيب صحافة سابق في الأردن