خبر هل إليها من سبيل..علي عقلة عرسان

الساعة 08:08 م|19 مارس 2010

هل إليها من سبيل..علي عقلة عرسان

 

قضية القدس والمسجد الأقصى والمقدسات الإسلامية الأخرى في فلسطين المحتلة كلها، ليست قضية الفلسطينيين وحدهم، على الرغم من أنهم رأس الحربة ويتحملون الجزء الأكبر من مسؤولياتها وهمومها والمعاناة والتضحيات بسببها، بل إن قضية فلسطين برمتها ليست قضيتهم وحدهم، وإن كانوا هم الذين يكتوون بنارها، ويشكل معظمهم طليعة العمل من أجلها.. فقضية القدس والمقدسات الإسلامية والمسيحية هي قضية أمة تتملص من مسؤولياتها بوضوح وتروغ عن مواقف الصواب، وهي مشكلة أنظمة عربية بالدرجة الأولى تتملص من واجباتها حيال كل ما يتصل بقضاياها الرئيسة ومصالحها القومية ومصيرها، وهويتها، والمستقبل المشترك لأبنائها، ولكل أنواع الأمن والاستقرار والتنمية في الوطن العربي.. الذي لم يعد يملك حتى اسمه، وأصبح يسمى "الشرق الأوسط وشمال إفريقية، في سعي لترسيخ تفتيته من جهة، وجعل الكيان الصهيوني جزءاً عضوياً تكوينه حيث الحديث عن منطقة فيها دول وقوميات وثقافات وأمم.. إلخ.. ومما يؤسف له أن الأمة العربية ما عادت أقطارها وأنظمتها تستحي من أن تعطي ظهرها عملياً لكل ما يتصل بالجوهري والمصيري من قضاياها المصيرية، ورؤيتها ومصالحها القومية، في هذا المجال أو ذاك من المجالات الحيوية، وتبقي فقط على كلام قومي منسوخ قطرياً ينطق به للسان للبيان، ويرفضه الواقع ويزري به التصرف والسلوك، وتفضحه علاقات ووقائع.. وعلى بعض الشعارات المتآكلة، والشكليات والمؤسسات الهشة. وهناك اليوم أنظمة ووسائل إعلام وشخصيات عربية تتفنن في إظهار تملصها من لقضايا القومية المصيرية، وتقدمه على أنه انخراط في تحمل المسؤولية بشكل لم يسبقها إليه أحد.. وتظهر العداء لمن يطالبها، أو يطالب الكل وهي منهم، بموقوف عربي عام جاد ومسؤول من الصراع العربي عامة ومن قضية القدس والأقصى والمقدسات الإسلامية والمسيحية في فلسطين، وقضية فلسطين بصورة عامة.

ففي كل يوم نقف على تفنن في التملص من المسؤولية عن القضايا المصيرية، وعلى رأسها قضية فلسطين، ونستمع من هذا المسؤول العربي أو ذاك، من هذا المنبر الإعلامي أو ذاك.. إلى كلام يحفل بالتناقض، ويحرص من يقدم على أن يجير لنفسه ما يظن أنه الصواب، وينسب لغيره ما يظن أنه الخطأ.. في حين أن ذلك لا يصمد للمنطق والمحاكمة الموضوعية السليمة. ومن أمثال ذلك ما استمعت إليه مصادفة، من منبر إعلامي عربي، من آراء وحجج متهافتة، لا تنطوي على تفنن في التملص من المسؤولية فقط فيما يتعلق بالقدس والأقصى وغير ذلك من الشؤون والشجون، بل تتهم عرباً آخرين بالمزايدة والتقصير والجعجعة الفارغة.. حيث كان هناك كلام عن نظام عربي يفاخر بأنه استدعى سفير الكيان الصهيوني لديه، وأبلغه انزعاجه مما يجري في القدس ويتهدد المسجد الأقصى، لا سيما بعد افتتاح كنيس الخراب اليهودي في الأسبوع الماضي، ويتهم دولاً عربية أخرى بأنها تكتفي بالكلام والجعجعة وتعنى بمزاد مكشوف، وبأنها لم تفعل ما فعله ذلك النظام الذي استدعى سفير " إسرائيل" وأبلغه انزعاجه واحتجاجه على ما يجري؟.. وأن غيره من الأنظمة والدول العربية والإسلامية لم تفعل ما فعل، وتكتفي بالتبجح بالكلام ولا يفعل شيئاً سوى الكلام.. أما ذلك النظام ففعل ما لم يسبقه إليه أحد. وتوقفت عند كلام كثير تركز حول هذه النقطة وكرر التركيز عليها.. وقلت في نفسي ألا يفكر هؤلاء بالدلالة الأقوى والأوضح لكل ما يقولون؟ وبما ينطوي عليه لفعل لذي يرونه أنموذجاً للموقف والفعل لذي ينبغي أن يتخذ ويتبع؟! فماذا يعني الكلام عن استدعاء سفير إسرائيلي في دولة عربية بينها وبين العدو اعتراف وعلاقات دبلوماسية، وإبلاغه موقف احتجاج، واتخاذ ذلك حجة على دول عربية لم تقم بما قامت به تلك الدولة واكتفت بالصراخ والاحتجاج والإعلان عن موقفها" أي بالجعجعة من دون طحن"؟!.. إن تلك الدول لم تعترف بالكيان الصهيوني ليكون بينها وبينه تمثيل دبلوماسي، وليس لديها سفراء له لكي تستدعيهم وتبلغهم اعتراضها واحتجاجها وانزعاجها؟! إنها ما زالت ترفض الاعتراف بـ "إسرائيل"، وتدعوا إلى مقاومتها ودعم من يقاومها، وليس لها من سبيل لإعلان مواقفها وغضبها واحتجاجاتها التي هي في حدود أقل من الحد الأدنى المقبول والمطلوب على أية حال.. سوى التصريحات ورفع الصوت، وإبلاغ المؤسسات والجهات الدولية المعنية بمواقفها، والسماح لمواطنيها، في بعض الحالات، بالنزول إلى الشارع للتعبير عن آرائهم، والعمل على تحريك الرأي العام العربي والإسلامي والدولي لمواجهة الاحتلال الصهيوني والتهويد والاستيطان واستهتار ذلك العدو العنصري بالمقدس والحق والحرية، واستمراره بالاستهتار بالحياة البشرية وتمسكه بادعاءات فارغة وبعنصرية كريهة.. كيف تلام تلك الدول على أنها لم تجترح ما اجترحته تلك الدولة من معجزات الفعل، إذ استدعت سفير عدو الأمة المقيم في عاصمتها وأبلغته احتجاجها أو انزعاجها مما يجري في القدس.. فكان ذلك هو الفتح العظيم!؟ ، وكيف تصنف تلك الدولة غيرها من الدول في باب من لم يقم بأي شيء حيال ما يجري، بل إنها اكتفت بالجعجعة؟ وكأنها تطلب من الكل أن يحذو حذوها فيفتح للعدو سفارة، بعد الاعتراف به والتسليم له بكل ما يغتصب، لكي تبلغه احتجاجها عند وقوع مثل هذه الأحداث، فتكون بذلك قد قامت بما لم يسبقها إليه أحد، وحققت طحناً بلا جعجعة.؟!

الواقع أن الدول العربية كلها مقصرة مثلها مثل غيرها، ولا تقدم ما ينبغي أن يقدَّم من مواقف ومبادرات وأفعال ومساهمات والتزامات حيال ما يجري للمقدسات ولسكان في القدس، ولفلسطين وقضية الشعب الفلسطيني كله.

استوقفني ذلك الكلام، واستوقفتني الحماسة التي قيل فيها، واقتناع القائلين بمصداقية وأهمية ما يقولون، ورؤيتهم لأنفسهم بأنهم يقدمون أنموذج الفعل العربي الذي ينبغي أن يحتذي به الآخرون.. وتساءلت هل هو الولاء الأعمى، أم غياب المحاكمة، أم هو قصور الرؤية عما يمكن أن تكون عليه ردة فعل أولئك الذين يستهدفهم هذا الكلام؟ وهل تراه يسفر إلا عن استفزاز وتبادل الاتهامات والتراشق بالكلمات، وتوجيه الجهد والعداوة إلى الأخ والصديق، وترك العدو المحتل يسرح ويمرح ويحصل على ما يشاء، ويستهدف من يريد منا كما يريد وفي الوقت الذي يشاء، وأن يمضي في غيه وخططه، فيحقق من التهويد والاستيطان والاستيلاء على البيوت والأراضي والمقدسات ما يخطط له، ويصل لاحقاً إلى هدم المسجد الأقصى بعد أن هوَّد الحرم الإبراهيمي ومسجد بلال بن رباح في الخليل..

أفلا نسهم نحن، بأقوالنا وأفعالنا ومواقفنا هذه في إضعاف جبهتنا الداخلية وتنافر مكوناتها، وتحويل قواها إلى التصادم فيما بينها.. الأمر الذي يفسح في المجال أمام العدو الصهيوني ليفعل كل ما يريد فعله ويجعلنا أشد عجزاً علن منعه وردعه؟.. ألا يجعل هذا كل من يراقب الأمور من بعيد أو قريب، سواء أكان حليفاً لعدونا أو قريباً منا، أو محايداً متوازن الموقف، أو له مصلحة معنا ويمكن أن يكون إلى جانبنا إذا أحسنا التصرف.. إلا يجعله ذلك يتخذ موقفاً إلى جانب القوي ويترك الضعيف " فالناس مع الواقف"، وينحاز إلى جبهة العدو وحلفائه المتراصة ويترك المختلفين العرب يأكل بعضهم بعضاً، ومن ثم يأكلهم عدوهم في النهاية.؟ لماذا تقف دول وكتل وشخصيات عالمية إلى جانب من لا يقف مع نفسه وأخيه وحقه ومصلحته..؟ ولماذا يكون ذلك لمحايد أو المتابع، في هذا النوع من المواقف والصراعات، ملكياً أكثر من الملك ذاته، لا سيما وأنه ليس منا، وغير منتم إلى منطقتنا، وليس مسؤولاً عن استهداف من يستهدفنا، حين لا ندافع نحن عن أنفسنا بما يحقق صداً للعدوان وردعاً للعدو وثباتاً على الحق والمبدأ..؟! وفي مثل هذا المناخ العربي.. كيف سيكون مناخ القمة العربية القادمة، قمة سرت، التي ما زال بعض العرب يتعلقون بحبال الأمل في أن تتخذ قمة عربية موقفاً إيجابياً فاعلاً حيال العدو الصهيوني وممارساته، فترفع درجة الأمل عند أبناء الأمة وترتفع بالأمة قليلاً بنظر العالم دولاً وشعوباً.؟

أما آن لنا أن نتصرف بمسؤولية، وننظر إلى الأمور بموضوعية وبعد نظر، فنرى من زاوية منفرجة بدلاً من زاوية حادة شديدة الضيق.؟ إننا محبطون بما فيه الكفاية.. عيوننا بصيرة وأيادينا قصيرة، فهل يريد ذلك النوع من السياسات والمؤسسات والأشخاص والخطط والبرامج والتفكير والتدبير.. أن يخرجنا من الإحباط إلى اليأس، ويدفعنا إلى القنوط الأمة، ومن أي تغير عربي إيجابي في العلاقات والرؤى والمواقف.؟ ألا ينبغي أن يشعر كل فرد منا بأنه شريك في صنع الأمل، ومناخ الوفاق، والقوة والتغيير والإصلاح في الوطن العربي.. بين أنظمته وقواه الحية، باتجاه ما يصلحنا ويجمعنا ويقوي مواقفنا وينقذنا من التردي الأكبر، ويجعل قوانا تتجه إلى وقف العدوان، ووضع حد للاحتلال والاستهانة بمقدساتنا ومصالحنا وحيواتنا.. بدلاً من أن يتجه الأخ إلى مقارعة الأخ الصديق، ومن ثم إلى أن تضيع محصلة قوانا في التضاد، أو تضعف فتصل إلى الصفر.؟     

يبدو لي أن هناك أنظمة وأشخاصاً ووسائل أعلام عربية.. لا يعنيها ما يجمع الأمة على هدف قومي صحيح وأصيل ونبيل، هذا إذا لم تكن قد فقدت القدرة على التمييز من ما يبني وما يدمر، ما هو سليم وما هو مغشوش، ما هو موضوعي وما هو ذاتي متورم.. ألا كأنهم فقدوا الرؤية والرغبة في الوقوف على الحقيقة ونصرتها، وتنمية ما يجمع ولا يفرق.. والإمساك بمفاصل الوقائع بدقة ليكون تبصر وبناء.. والكف عن إشباع الرغبة المتضخمة في الكلام الملقى على عواهنه. 

نحن بحاجة ماسة إلى وقفة حاسمة وحازمة مع الذات.. فهل إلى وقفة مسؤولة مع الذات من سبيل، وقفة تضعنا أمام صحوة الضمائر، وحكمة العقول، ودفء القلوب، وضرورات الالتزام بالحقائق ومصالح الأمة وهويتها ومقدساتها وهويتها.. قبل فوات الأوان.؟

دمشق في 19/3/2010