خبر هدأة الضفة.. أعمق مما قد يظن .. عريب الرنتاوي

الساعة 04:54 م|19 مارس 2010

بقلم: عريب الرنتاوي

لم تستجب الضفة الغربية والقدس لنداءات فصائل المقاومة و"المعارضة" بزعامة حماس ، الداعية لإشعال فتيل "انتفاضة ثالثة" ، مع أن الاستفزاز الإسرائيلي بلغ حدا عظيما لجهة التوسع في الاستيطان وتدنيس المقدسات وتغيير المعالم وتهويد العاصمة الفلسطينية المحتلة ، وثمة في اوساط السلطة ، والأمن الإسرائيلي من يرقص اليوم طربا لعدم بلوغ رسائل حماس مقصدها ، وضياع صرخات قادتها في واد سحيق.

حماس بدورها ، تعترف تصريحا وتلميحا بإخفاقها في تحريك "غضب الضفة" واستثماره ، بل أنها ومنذ أن أدركت مرامي "المخطط" الرامي لعزلها وخنقها في قطاع غزة الضيق والمحاصر والمجوّع ، أخذت تبحث بقوة عن أنجع السبل لاستعادة حضورها في الضفة الغربية والقدس ومن دون جدوى ، إلى أن جاءت فرصة "معبد الخراب" لتبادر الحركة إلى "التقاط اللحظة" والدعوة لانتفاضة ثالثة ، علّها تكون في حالة الاستجابة الشعبية لنداءاتها ، البوابة الأوسع لاستعادة زمام المبادرة.

لكن الفرصة أفلتت من يد حماس هذه المرة ، ولا ندري كيف سيكون الحال في مرات قادمة ، ونقول مرات قادمة ، لأن الجولة الأخيرة من المواجهة في القدس وحولها ، لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة ، وطالما ظلت هناك عدوانات وانتهاكات إسرائيلية للأرض والحقوق والمقدسات ، فستكون هناك مواجهات ومقاومات وانتفاضات و"فرص" باشكال ومستويات ودرجات مختلفة.

حماس تستسهل إدانة السلطة و"أجهزة دايتون" ، وتسارع إلى تحميلها المسؤولية عن تدجين الضفة وتبديد غضبها واحتوائه ، وبعض السياسيين القريبين منها يدللون على ذلك بالقول: بأن المواجهات الشعبية في المناطق التي لا سلطة فلسطينية فيها ، كانت أقوى وأشد وأبعد مدى ، من تلك المواجهات التي شهدتها مناطق الانتشار الأمني الفلسطيني ، وفي ظني أن كلا الافتراضين ـ الاتهامين صحيح مائة بالمائة ، مع أن أيا منهما وحده ، بل وكليهما معا ، لا يكفيان لتفسير "هدأة الضفة" وجنوحها للسكينة والاستقرار.

ثمة تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية (وربما ثقافية) تجري في الضفة الغربية ، وتحفر عميقا في بنية أهلها ومواطنيها الأصليين (ربما الأمر مختلف بعض الشيء في أوساط لاجئيها) ، وهي تحولات تجري على قدم وساق منذ أن أعادت إسرائيل احتلال الضفة في عملية السور الواقعي ، وتكرست وتسارعت بعد الانقسام الفلسطيني وتشكيل حكومة تصريف الأعمال برئاسة سلام فياض ، ورفعها شعار: "دولة تحت الاحتلال لإنهاء الاحتلال" ، وهو الشعار الذي لقي دعما وتشجيعا دوليين ، وأدت ترجماته الأولى إلى تحريك عجلة الاقتصاد وتحفيز النمو ، ما أثار وولد حالة من الاسترخاء يعيشها سكان الضفة بعد سنوات من الضنك والممارسات الاحتلالية المشددة.

وجنبا إلى جنب مع هذه التطوات والتحولات التي تستحق الدراسة بعمق ، كان الخطاب (شبه الرسمي) الذي يجري بثه وبوسائل غير رسمية كذلك ، يروّج لـ"أطروحة التخلي المتدرج": أولا عن اللاجئين والشتات ، من خلال القبول بعودة رمزية لهم إلى ديارهم الأصلية في سياقات التفاوض السابقة مع الإسرائيليين... وثانيا: بالتخلي عن غزة وأهلها ، إلى الحد الذي دفع البعض إلى التفكير باستكمال بناء النظام السياسي الفلسطيني في الضفة بمعزل عن غزة ومن دونها ، بدءا بالانتخابات البلدية وانتهاء بالانتخابات التشريعية وربما الرئاسية كذلك ، وطي صفحة المصالحة الوطنية ، والتعامل مع هذه المسألة بروحية تكتيكية ومن موقع تسجيل النقاط وكسب معركة العلاقات العامة وتحسين الصورة في الإعلام وأمام الرأي العام ، لا أكثر ولا أقل.

قد يبدو الحديث عن "الخصوصية الضفّاوية" الناشئة ، أمرا مزعجا لكثيرين منا ، وهو كذلك بالفعل ، ولكاتب هذه السطور شخصيا كذلك ، لكن عقود من الشتات والانفصال الجغرافي ، فضلا عن حالة الانقسام الفلسطينية ، وانكماش "المشروع الوطني الفلسطيني" وإعادة تكييفه على مقاس "دولة تحت الاحتلال ولإنهاء الاحتلال" ، يدفع في الحقيقة إلى اختلاف وتباين أولويات كل قطاع من قطاعات الشعب الفلسطيني ، ولقد شهدنا كيف أن الضفة ظلت هادئة فيما كانت غزة تحترق بالرصاص المصبوب على رؤوس شيوخها ونسائها وأطفالها ، وشهدنا على "هدأتها" فيما الأقصى والقدس يئنان تحت نير جرافات الاستيطان وأنيابه الحديدية ، إلى غير ما هنالك من أحداث ووقائع.

ليست القبضة الأمنية وحدها هي المسؤولة عن حالة "الانضباط" التي تعيشها الضفة ، بل هو السياق الاقتصادي والاجتماعي والأمني ، الذي أفضى إلى تبديد الدعوات لإطلاق انتفاضة ثالثة وجعلها سرابا ، ولقد آن الأوان في ظني للتوقف مليا قبل الاستمرار في إطلاق مثل هذه الدعوات التي لا يجوز استسهالها والتعامل معها كما لو كانت "دعوة للعشاء".