خبر مَن الذي يريد الحرب في الشرق الأوسط؟ .. نهلة الشهال

الساعة 04:22 م|07 مارس 2010

بقلم: نهلة الشهال

السؤال مطروح فعلياً، وليس كجزء من تكتيكات المهاترة الاعلامية، حين يحتاط كل طرف من تحمل مسؤولية الويلات التي تعنيها الحروب بإلقاء مسبق لها في عنق الطرف الآخر. الجواب المرجح أن اسرائيل هي الجهة التي تريدها، على رغم أن هذه قد لا تنسجم منطقياً مع حساباتها المباشرة. فإسرائيل تقضم ما تبقى من فلسطين براحة نسبية، وبنجاح، وكان يفترض أن ذلك انجاز لها تحتاج وقتاً لهضمه. لكنها مبنية ومكونة بطريقة لا تسمح لها بالتوقف، ولا تسمح لها أيضاً بالتعايش مع ظواهر ومعطيات تقع في مجالها، وتقلقها، من دون سيطرة كاملة عليها، مما لا وجود له في علم السياسة.

فإسرائيل لا يمكن أن تصبر على وجود "حزب الله" على حدودها، ليس لأنه معادٍ لها ايديولوجياً، ولكن لأنه مسلح. وكان نزقها ليكون مماثلاً لو أن تنظيماً يسارياً نبت في لبنان بالشروط نفسها. يُضاف تاريخ من المواجهات معه سُجلت فيه هزائم لاسرائيل. وتلك حقيقة لا يمكن انكارها حتى وإن رغبنا في تجنب اللغة الانتصارية الى أبعد حد، وإن أقرينا بأن معادلات نشأت على اساس تلك المواجهات، وقيدت في نهاية المطاف "حزب الله" كثيراً، وفق اعتبارات ترتبط بالقانون الدولي وبتموضع قوات الامم المتحدة في الميدان، وأيضاً وفق اعتبارات تتعلق بالتوازنات الداخلية للبلد، علاوة على قياس ما يمكن للناس، وحتى للبيئة الاجتماعية الحاضنة لـ "حزب الله"، تحمله تكراراً. وأكثر من يعرف تلك الحقائق إسرائيل نفسها. ولكنها، مجدداً، بُنيت وعاشت على آلية تحقيق انتصارات مستمرة أو الزوال. لذا، وعلى رغم التحفظات التي يوردها التحليل الهادئ لسياقات ونتائج المواجهات اللبنانية معها (مما لا يمحو البطولات)، لا يمكن إسرائيل أن يطمئن قلبها قبل أن تزيل التهديد العسكري لـ "حزب الله" إزالة جذرية وليس تعطيلية أو تسووية.

و "عصبياً"، لا تقدر اسرائيل على التعايش مع إيران كما هي. ولا تقدر على ذلك لو كان على رأس النظام الايراني الحالي غير أحمدي نجاد. وهي، من دون مبالغة، تجنح الى "الحلم" بالقضاء على إيران طالما لا يحكمها نظام موالٍ بالكامل للغرب ولها. فلنتذكر أن إيران لم تطق صدام حسين، وقبله عبدالناصر. وكان يكفي لإثارة رعبها أن النظامين، كل على طريقته، كانا يطمحان الى دور إقليمي نافذ، ولم يكونا مستقرين في جيب واشنطن.

وتشعر إسرائيل بتوجس كبير من سورية، على رغم تاريخ طويل من المعايشة كان يفترض معه أن تطمئن تل أبيب الى "حذر" النظام السوري، الذي تمكن منذ 1973 من تجنب أي مواجهة على حدوده، وتغاضى عن ضربات عسكرية وأمنية وجهتها اليه، وكانت بالإجمال محرجة، وبرهن عن قدرة فائقة على الليونة. ثم، كان يفترض أن تطمئن تل أبيب الى معطيات الواقع السوري، حيث يهيمن مزيج من انفتاح دمشق الاقتصادي على قوانين السوق الليبرالية، وبنية داخلية منخورة بأمراض شتى. ولكن عناد سورية على بعض المبادئ والتطلبات، كرفض المفاوضات المباشرة، والمطالبة بالجولان، والاستمرار بالتسلح، والعلاقات الوثيقة مع طهران، التي لعلها بدأت مصلحية لكنها توطدت بحكم الامر الواقع، يطيّر صواب إسرائيل. فكيف إذا كانت دمشق اختارت الرد على أوامر هيلاري كلينتون بالابتعاد عن طهران، بأن تستقبل فوراً أحمدي نجاد، وتنظم اجتماعاً يضم أيضاً السيد حسن نصر الله وخالد مشعل؟ هذا، لتل أبيب، بمثابة إعلان حرب. وهي لا تتوقف كثيراً أمام كلام بشار الاسد ولا نصر الله حينما يعلنان عن "توازن المعادلة" الذي يحققه مثل هذا اللقاء، ويمكن أي عاقل أن يعتبره كلاماً دفاعياً، يفضي استراتيجياً الى ما كانته الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، أي الى تعايش مديد، وإن قلِقاً وصراعياً. ولعل الاختلاف يكمن تحديداً في عدم استقرار اسرائيل، بخلاف حالة القطبين، وهي تسير بصورة دائمة على خيط من نار، ولم تقنع ليس فحسب بحدودها الجغرافية، وإنما أيضاً بطبيعة مشروعها، كما هو معلن في قرار تأسيسها على الأقل.

ولتجسيد هذه المـــسألة، لعل من المفيد الاشارة الى استنفار إسرائيل بشدة ضد حملة المقاطعة والمساءلة التي تسير بها منـــظمات مدنية مــتنوعة في العالم كله. ومن المضحك حقاً ملاحظة الرعب الذي انتاب تل أبيب من مجرد انعقاد بضع ندوات في جامعات في الولايات المتحدة وكندا وأوروبا، وانطلاق حملات عرائض وبعض التـــظاهرات ضد استهلاك البضائع الاســـرائيليــة، بما فيها الاكاديمية والثقافية، فراحت تصرخ بأنها بصدد "خطر وجودي" يتهددها!، واستنفرت علناً سفاراتها، وكل اللوبيات الصهيونية داخل الحكومات وخارجها، لمجابهة تلك الحملة واحباطها.

وقد يصطدم الذعر الاسرائيلي من وجود "أعداء"، كائنين ما كانوا، بمصالح الولايات المتحدة التي تمتلك مقاييس مختلفة، موضوعياً، لتعريف الخطر، فتكبح واشنطن جماح تل أبيب العصابي. ولكنه قد يوفر فرصاً للولايات المتحدة كي تُقدم على أعمال حربية. فهل تتلاقى اليوم مصالحهما الى حد شن حرب في المنطقة، ستكون بالضرورة متعددة الجبهات، ويمكن أن تستجر قلب الطاولة تماماً، وانفتاح الموقف حقاً على المجهول؟. ولا بد لحرب مثل هذه أن تدخل في حساباتها أن عدم نجاح الموجة الاولى من الضربات يحمل مثل تلك الاحتمالات. وليس من شيء يسمح بافتراض نجاحها. ولنا أن نستعيد ما جرى صيف 2006 في لبنان، على فظاعة القصف وكثافة الخسائر اللبنانية، حين بقيت كوندوليزا رايس تؤجل لحظة اعلان وقف اطلاق النار، آملة بأن يؤدي مزيد من القصف الى تغيير المعادلة التي نشأت عن فشل الضربة الاسرائيلية الاولى في قصم ظهر المقاومة.

ثم هناك في لوحة حرب مقبلة كهذه اعتبارات أخرى متعددة، بينها حساب مصالح قوى كبرى في العالم، تعيد وضع بيادقها على الخريطة الدولية، كحال الصين وروسيا نفسها. وهناك أيضاً حساب انفلات الاوضاع في بلدان كأفغانستان والعراق، بل حتى باكستان، التي أمضت واشنـــطن ســـنوات عديدة تبذل مالها وأرواح جنودها في السعي الى تثبيتها بما يلائمها. وكل تلك حسابات لا يمكن لواشنطن أن تتغاضى عنها.

ولعل كل ذلك يؤدي الى تعطيل الجنون الاسرائيلي، والى القبول الاميركي، ولو على مضض، ولو موقتاً، بالتوازن الكلي الجديد الناشئ، مما يبعد شبح الحرب، الآن، عن منطقتنا. إلا إذا تبنت واشنطن تعريف تل أبيب لما هو مقبول منها ومطمئن لها، وهو طلب الاستسلام التام، فتقع المشكلة!.