خبر تركيا تشهد مواجهة بين القوى الديمقراطية والدولة المستترة ..د. بشير موسى نافع

الساعة 05:24 م|04 مارس 2010

تركيا تشهد مواجهة بين القوى الديمقراطية والدولة المستترة ..د. بشير موسى نافع

دعا الرئيس التركي عبد الله غول إلى لقاء غير مسبوق بين رئيس الوزراء التركي، الطيب رجب إردوغان، ورئيس أركان الجيش التركي الجنرال إلكر باشبوغ يوم 25 شباط/فبراير المنصرم.

الذي دفع غول إلى الدعوة لهذا اللقاء، الذي عقد برئاسته، كانت أجواء الأزمة الثقيلة التي خيمت على العاصمة التركية. بالرغم من حنكة غول، وحرصه الذي يفرضه عليه منصبه الرئاسي على الارتفاع فوق المعسكرات الحزبية والسياسية وتعهده دور الحكم والحارس لوحدة الدولة واستقرارها، فقد شاب اللقاء شيء من التوتر. توجه إردوغان بعد نهاية الاجتماع الثلاثي إلى مبنى البرلمان التركي، وفي تصريحات سريعة ومختصرة للصحافيين، أعرب عن سعادته للنتيجة التي تم التوصل إليها في الاجتماع، وأشار إلى أن قادة البلاد الثلاثة اتفقوا على معالجة الأزمة القائمة وآثارها ضمن الأطر الدستورية.

خلال الأيام القليلة السابقة، كانت تركيا قد أصبحت سوقاً رائجة للشائعات، التي دارت في جلها حول انقلاب عسكري وشيك؛ ولذا، فبالرغم من أن تصريحات إردوغان المقتضبة ساعدت في تخفيف حدة التشاؤم في البلاد، إلا أنها لم تكن كافية لإيضاح صورة ما شهده اللقاء الثلاثي بالفعل. وحتى أولئك الذين جزموا بأن تركيا لم تعد ميداناً للانقلابات العسكرية، توقعوا أن يكون رئيس الوزراء قد تراجع خطوة أو خطوتين أمام ردود الفعل القلقة للمؤسسة العسكرية، وأنه ربما تعهد لرئيس الأركان بإيجاد مخرج ما لتخليص الضباط الكبار المقبوض عليهم من الاتهام والمحاكمة. ولكن بيان إردوغان أمام البرلمان التركي في اليوم التالي جاء مفاجأة لكافة الدوائر. فقد أعلن رئيس الوزراء أمام نواب الشعب، بصراحة ووضوح غير مسبوقين، أن تركيا لن تسمح بعد اليوم بإفلات المتآمرين خلف الأبواب المغلقة من العقاب، وأن القانون سيطال كل من يمس المؤسسات الدستورية ويحاول تقويض إرادة الشعب. في الوقت نفسه، كانت السلطات العدلية تلقي القبض على عدد جديد من الضباط المتهمين بالتآمر والتخطيط لأعمال انقلابية، كما عرض ضباط آخرون أمام القضاء لتوجيه لوائح اتهام لهم. تعرف الأتراك منذ زمن على شجاعة رئيس وزرائهم، ولكن قلة منهم أدركت المدى الذي يمكن أن يذهب إليه في مواجهة القوى الخفية التي اعتادت منذ زهاء نصف القرن التحكم في مصير البلاد وقرارها، بلا حسيب ولا رقيب، بل وأن يمضي إرادته.

بالرغم من تصاعدها الملموس في الأسابيع القليلة الماضية، فإن القضية التي فاقمت أزمة العلاقة بين الجيش التركي ومؤسسات الحكم والعدل المدنية ليست جديدة. وربما تعود جذور هذه القضية إلى اكتشاف وكيل نيابة بمدينة اسطنبول، قبل أكثر من عامين، أثناء التحقيق في قضية قتل غامضة، لمخزن سلاح وذخائر في منزل يعود لضابط تركي في إحدى ضواحي المدينة. تصميم وكيل النيابة على كشف غوامض حادثة القتل ومخزن السلاح الغريب، أوصل الأمور إلى ما بات يعرف في تركيا بملف الأرغنكون، المنظمة السرية المشكلة من عناصر عسكرية عاملة وسابقة، وكتاب وصحافيين ورجال قضاء وأعمال، والتي تعود في أصولها إلى سنوات الحرب الباردة. المنظمة التي يفترض أنها كانت إحدى الكيانات السرية، التي شكلت لمواجهة خطر احتلال تركيا من قبل الاتحاد السوفياتي في حال نشوب حرب بين الكتلة الشيوعية وحلف الأطلسي، لم تحل بعد نهاية الحرب الباردة، بل تحولت إلى منظمة إجرامية، تتقاطع داخلها مجموعات قومية وعلمانية وانقلابية متطرفة، تستهدف الحفاظ على الوضع القائم في البلاد منذ انقلاب 1960، الذي وفر للمؤسسة العسكرية وحلفائها دوراً فاعلاً ومستتراً في بنية الدولة التركية. طبقاً للتحقيقات التي لا يتوقع لها أن تنتهي قريباً، فإن عناصر تنتمي إلى منظمة الإرغنكون تعهدت خلال العقدين الماضيين عدداً لم يحدد بعد من جرائم اغتيال شخصيات رأت المنظمة بأنها تهدد وحدة تركيا ونظامها القومي، كما لعبت دوراً إجرامياً في ملاحقة وقتل العشرات، وربما المئات، من النشطين الأتراك، أو المشتبه بدعمهم لحزب العمال الكردستاني.

قبل شهور قليلة، أوصلت التحقيقات في نشاطات الأرغنكون وكلاء النيابة العاملين في القضية إلى ضباط عاملين في الجيش وإلى قلب المؤسسة العسكرية. واستدعى استمرار التحقيقات أن يطلب رئيس الوزراء من رئيس الأركان، في اللقاء الأسبوعي لهما، السماح لوكلاء النيابة بدخول ما يعرف بالغرفة الكونية في قيادة أركان الجيش، الغرفة التي يحفظ فيها أكثر أسرار المؤسسة العسكرية حساسية، ولم يحدث أن دخلها مسؤول مدني قط من قبل. وقد حدث أن البحث الذي أجراه وكلاء النيابة في غرفة أسرار الجيش أوصلهم إلى خطة انقلاب عسكري، أعدها فريق من الضباط بعد فوز حزب العدالة والتنمية في انتخابات نهاية 2002. تضمنت الخطة بعضاً من الخطوات البشعة التي كان الضباط الانقلابيون سيتخذونها للتمهيد للانقلاب، بما في ذلك التسبب في اشتباكات عسكرية محدودة مع القوات اليونانية في منطقة بحر مرمرة، وتفجير عبوات في المصلين عقب صلاة الجمعة في بعض من أكبر مساجد اسطنبول وأكثرها اكتظاظاً. اكتشاف هذه الخطة الإجرامية للتآمر على حكومة منتخبة ولإجهاض الإرادة الشعبية، في مقر مركزي لقيادة الأركان، أدى إلى موجة جديدة من الاعتقالات، التي طالت بعضاً من أبرز الضباط السابقين، بما في ذلك قادة أسلحة الجو والبحرية والجيش التركي الأول، وبعضاً من الضباط العاملين. منذ انقلاب 1960، شهدت تركيا عدداً من الانقلابات العسكرية الصريحة أو غير الصريحة؛ ولم يحدث مطلقاً أن قدم أي من الضباط الانقلابيين للمحاكمة. أما أن يستدعى ضباط للقضاء بتهمة التخطيط للانقلاب، فلم يخطر ذلك على أكثر الخيالات جموحاً. وهذا بالتأكيد ما أثار ردود الفعل الحادة في أوساط أنصار الوضع الراهن، ومن استشعروا عزم حكومة العدالة والتنمية على إصلاح شأن الدولة التركية، مرة وإلى الأبد.

الجنرال باشبوغ، الذي تبوأ قبل إختياره رئاسة أركان الجيش موقع قائد القوات البرية، يتمتع بسجل عسكري لامع وشعبية كبيرة في أوساط الجيش؛ وعرف بأنه واحد من أكثر جنرالات الجيش تسييساً وقدرة على تقدير الموقف. ليس ثمة من دليل، مباشر أو غير مباشر، حتى الآن على الأقل، على أن للجنرال صلة ما بالدوائر الانقلابية أو التآمرية الخفية في أوساط الجيش. ويواجه الجنرال وضعاً بالغ التعقيد والحساسية، لم يسبق لقائد أركان تركي أن واجهه منذ قيام الجمهورية. فمن ناحية، وفر الاتساع المطرد في التحقيقات المتعلقة بملف الإرغنكون فرصة سانحة لبعض الدوائر الليبرالية والإسلامية المعادية لنفوذ الجيش السياسي وسجله الطويل في التحكم المستتر في شؤون الدولة والحكم، للهجوم على المؤسسة العسكرية، ومحاولة إعادتها إلى حدودها الدستورية في شكل قاطع ونهائي. ومن ناحية أخرى، يتطلب موقع رئاسة الأركان من الجنرال باشبوغ الدفاع عن كرامة الجيش والحفاظ على معنوياته، سيما وأن بعض المشتبه بهم هم من زملائه الذين عرفهم وخدم إلى جوارهم لسنين طويلة.

يدرك الجنرال، بالطبع، أن التحقيقات الجارية لا تمثل افتراءاً على الجيش، وأن الأدلة المتوفرة لدى المحققين تؤسس لشكوك واتهامات بالغة الخطورة. والأرجح أن رئيس الأركان، وأغلب قيادات الجيش الحالية، قد توصل إلى قناعة راسخة بأن تركيا قد تجاوزت عهد الانقلابات العسكرية، وأن محاولة للانقلاب على حكومة منتخبة، تستند إلى سجل هائل من الإنجازات الاقتصادية والسياسية والسياسية الخارجية، ستواجه معارضة واسعة النطاق من كافة دوائر الشعب التركي، وربما تنتهي بكارثة محققة على تركيا والدولة الجمهورية. في مثل هذا الوضع الحرج من القوى والتيارات المتدافعة، لم يعد أمام رئيس الأركان سوى القبول بعزم وتصميم رئيس الوزراء على إعادة بناء الدولة والحكم من جديد، والركون إلى مصداقية نواياه، سيما وأن ليس ثمة من دليل على تدخل حكومة إردوغان في الدوائر العدلية أو في مجرى التحقيقات، سوى ما تستدعيه حساسية القضية من ضرورة التدخل بين وقت وآخر لتأمين حماية وتسهيل عمل وكلاء النيابة المختصين.

من جهة أخرى، يشير المقربون من رئيس الوزراء إلى أن هذه القضية تسببت في هموم ثقيلة له طوال العامين الماضيين. يؤمن إردوغان أن الجيش التركي هو في النهاية جيش الشعب، وليس جيش حفنة من الجنرالات المتآمرين، الذين نصبوا أنفسهم أوصياء على الدولة والشعب، والمسكونين بأوهام السيطرة والمخاوف المضخمة على مصير الدولة والبلاد. ويؤمن بأن الدول القوية، الدول التي تطمح إلى تعهد دور كبير في إقليمها وعلى المسرح العالمي، تحتاج جيشاً قوياً. ولكنه يؤمن كذلك بأن قيام الجيش بالتدخل في الشأن السياسي طوال نصف القرن الماضي، جر على الجيش وعلى تركيا كوارث لا حد لها؛ وأن الوقت قد جاء لتعزيز الديمقراطية التركية، ووضع نهاية للتحكم المستتر وغير الشرعي في شؤون الحكم. ولم يعد خافياً أنه كلما اقتربت التحقيقات من مواقع ودوائر ومستويات أكثر حسياسية وإثارة للجدل، كلما ازداد عزم رئيس الوزراء على المضي بمشروعه الإصلاحي إلى نتائجه المنطقية.

الشائع في أوساط المراقبين للشأن التركي أن الجيش لم يكن يحتاج دائماً اللجوء إلى وسيلة الانقلاب العسكري لإسقاط حكومة ما وتنصيب أخرى. في بعض المناسبات، لم يكن على الجيش سوى أن يكلف أحد كولونيلات قيادة الأركان الاتصال هاتفياً بأحد الكتاب أو الصحافيين، ليطلب منه نشر مقال ما بلغة ما. مجرد ظهور مثل هذا المقال في صحف صباح اليوم التالي كان يؤدي إلى تقديم رئيس الوزراء استقالته قبل حلول المساء. مثل هذا العهد، على الأرجح، هو في طريقه الآن إلى الانتهاء.

 

' كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث