خبر الشرق الأوسط بين خيارات ثلاثة .. د. حسن أبو طالب

الساعة 12:23 م|03 مارس 2010

بقلم: د. حسن أبو طالب

علي وقع تهديدات إسرائيلية مبطنة أحيانا وصريحة أحيانا أخري بشن حرب علي دول مجاورة‏,‏ واستعدادات داخلية ذات مغزي من قبيل توزيع أقنعة واقية من الغازات علي كل المقيمين فيها‏.

تصاحبها جهود امريكية مكثفة من أجل تأمين قبول دولي عام لتوقيع عقوبات قاسية علي إيران‏,‏ ومعها دعوات أمريكية لسوريا ـ حسب تصريحات هيلاري كلينتون ـ للابتعاد عن ايران‏,‏ جاءت لقاءات الرئيسين الايراني والسوري في دمشق ومعهما حسن نصر الله أمين عام حزب الله اللبناني‏.‏ وهي لقاءات شهدت إعلان إلغاء التأشيرات بين سوريا وإيران كدليل علي عمق العلاقات واستحالة ابتعاد أي طرف منهما عن الآخر‏,‏ مع التأكيد علي أن هذه الخطوة هي رد علي الدعوات الأمريكية لدمشق بالانفصال عن طهران‏.‏ وفي الآن نفسه التبشير بقرب نشوء شرق أوسط جديد تزول منه إسرائيل والصهيونية حسب تصريحات الرئيس نجاد‏.‏ وفي طهران نفسها كان هناك لقاء لدعم القدس‏,‏ شهد بدوره اجتماعات بين المرشد الأعلي علي خامنئي وقيادات فلسطينية أبرزها خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحماس وعبد الله شلح أمين حركة الجهاد الفلسطيني‏,‏ وفيها أكد خامنئي علي أن المستقبل للمنطقة هو للشرق الاوسط الإسلامي وللمقاومة ومبشرا بتحرير فلسطين وزوال إسرائيل‏.‏

وفي الرياض حل رئيس الوزراء الهندي مانموهان سينغ ضيفا علي الملك عبد الله‏,‏ وفي المباحثات بينهما تم التركيز علي مواجهة التطرف وجماعاته في المنطقة‏,‏ كما تم التوقيع علي عدد من الاتفاقيات الاستثمارية والعلمية في قطاعات الطاقة والصناعة وتقنية المعلومات‏.‏

هذه اللقاءات التي تمت فقط في غضون أقل من أربعة أيام‏,‏ وما يعنيه كل منها من أهمية سياسية واستراتيجية‏,‏ فإنها تستحق جميعها وقفة تأمل عميقة‏.‏ فبالرغم من اختلاف الرسائل والمضامين التفصيلية لكل لقاء علي حدة‏,‏ فإنها تشترك معا في دلالة كبري ومحددة وهي أن الإقليم يشهد بالفعل عمليات مكثفة لإعادة بناء وهيكلة التوازن العام بين أطرافه الأساسيين‏.‏ والعملية في حد ذاتها ليست جديدة لا علي المنطقة العربية ولا علي الشرق الاوسط الممتد حتي باكستان وأفغانستان وحدود الهند الغربية‏,‏ فهي عملية ممتدة ولها جذور عميقة وتتأثر في كثير من جوانبها بحالة النظام الدولي والاستراتيجية الكونية التي تقودها القوة الأكبر القابعة علي قمة هذا النظام في لحظة تاريخية بعينها‏.‏ ولعل الجديد الذي يجب أن يعنينا نحن أهل هذه المنطقة وأصحابها الأصلاء هو ما تحمله هذه المساعي من عناصر وعوامل يمكن أن تؤثر علي التوازن العام في الاقليم وتؤثر بالتالي علي مصالحنا الأساسية التي لا يمكن أن نفرط فيها تحت أي ظرف كان‏.‏ وهو وضع يدفعنا إلي السعي الجاد لتشكيل استراتيجية بديلة أو تنشيط استراتيجية قائمة بالفعل تحمي هذه المصالح وتنميها‏.‏

‏***‏

النظرة العابرة لما يجري في المنطقة يكشف عن صراع حقيقي بين ثلاث استراتيجيات كبري‏;‏ الأولي استراتيجية السلام الشامل التي تقودها مصر والسعودية وترتبط بها أيضا كل من السلطة الفلسطينية والأردن وقسم من السلطة في لبنان‏.‏ والثانية استراتيجية الحرب والفوضي التي تقودها إسرائيل والتي تربطها بمعان مختلفة من الردع الذي يوفر لها مساحة زمنية وعملية للاستمرار في تهويد الأراضي الفلسطينية والمقدسات الإسلامية دون أن تدفع أي ثمن حتي الآن علي الأقل‏.‏ وأخيرا استراتيجية المقاومة التي ترتبط بكل من إيران وسوريا ومنظمات فلسطينية ذات طابع جهادي فضلا عن حزب الله اللبناني‏,‏ والتي تمثل من حيث الجوهر ردا علي استراتيجية إسرائيل الهجومية والعدوانية ونوعا من الردع السلبي‏,‏ لاسيما ان تهديدات إسرائيل تركز أساسا علي مواجهة هؤلاء‏.‏

والتمعن في هذه التركيبة من الاستراتيجيات الثلاثة يجد أن هناك قاسما مشتركا ضمنيا بين استراتيجتي السلام الشامل والردع والمقاومة يتمثل في رفض استراتيجية الحرب والفوضي الإسرائيلية‏,‏ لكن الخلاف يبرز في طريقة هذا الرفض‏,‏ فبينما استراتيجية السلام تعمل علي ربط إسرائيل بالتزامات قانونية وعملية من خلال مفاوضات جدية ومسئولة وذات مرجعيات واضحة‏,‏ وبحيث تنهي عناصر الرغبة في الحرب والتخريب والعدوان وتقيم أساسا لسلام مقبول من كل الأطراف‏,‏ تقوم استراتيجية المقاومة والردع السلبي علي إبراز الثمن الباهظ الذي ستتحمله إسرائيل في حالة إقدامها علي أي قرار مجنون بشن حرب علي أي طرف في المنطقة‏.‏ والواضح ولو من الناحية النظرية أن قيمة الردع السلبي ستظل محدودة إذا ما بقيت مرتكزة علي مجرد مسألة الاستعداد للمواجهة المحتملة سواء حدثت قريبا أو تأجلت بعض الشيء‏,‏ ويقينا سوف تتضاعف نتائجها إذا ما استعانت في الآن نفسه باستراتيجية السلام الشامل‏,‏ وحدث قدر من التكامل بين هاتين الاستراتيجيتين في مواجهة استراتيجية الحرب والفوضي الإسرائيلية‏,‏ ومن ثم يتشكل مزيج إيجابي من الضغط السياسي والمعنوي والردع الإيجابي وليس السلبي‏,‏ وذلك في آن واحد كفيل بنقل المنطقة إلي الأمام وليس مجرد البقاء في مربع الانتظار لمواجهة محتملة‏.‏

‏***‏

وفي هذا السياق نلاحظ أن الولايات المتحدة وهي القوة الأكبر في النظام الدولي الراهن مشغولة بقضاياها المحلية بدرجة تؤثر علي توجهاتها وتحركاتها الخارجية‏,‏ وأنها متورطة في حربين كبيرتين في آن واحد وكلاهما يقع في منطقة الشرق الأوسط الممتد‏,‏ وهي ثالثا عازفة عن التدخل الجدي في القضية الفلسطينية التي تعد بوابة السلام والاستقرار أو منفذ الحرب والتوتر في المنطقة والعالم معا‏,‏ ورابعا تضع احتواء إيران وعزلها عن محيطها وتوقيع العقاب القاسي عليها في قمة أولوياتها المتعلقة بالشرق الاوسط‏,‏ وهو ما لا يجد قبولا أو شعبية في المنطقة أيا كان الموقف من إيران وبعض سياساتها‏.‏

هذه السمات مجتمعة ذات تأثير مزدوج‏,‏ فهي من ناحية تضعف أنصار استراتيجية السلام الشامل والعادل في المنطقة‏,‏ ولكنهم لا يتراجعون عن محاولات إحياء وتفعيل هذه الاستراتيجية لكونها بوابة الأمن والاستقرار التي لا محيد عنها‏.‏ ومن ناحية ثانية تضفي هذه السمات مصداقية اكبر علي أنصار استراتيجية التصعيد بالحرب أو المقاومة السلبية‏,‏ ولكنها مصداقية وقتية وعابرة وتحمل في طياتها مخاطر عدة‏.‏ وبين هذين التأثيرين المتضادين تجري عمليات إعادة البناء والهيكلة في الإقليم تحسبا لمفاجآت قد تحصل بلا حساب كاف لعواقبها ونتائجها المحتملة‏.‏ لقد كان ولايزال التنافس أحيانا والصراع أحيانا أخري بين الاستراتيجيات الثلاثة سمة رئيسية في حياة المنطقة العربية‏,‏ كما كان اللجوء إلي طرف غير عربي إقليمي أو دولي مسألة عادية من أجل ضبط حركة الأحداث ولتقليل الخسائر او زيادة الارباح المتصورة حسب الحالة‏.‏ وما يحدث الآن هو تكرار لحالات ونماذج سبق أن تشكلت وساعدت علي تعديل مسار الأحداث دون أن تعيد بناءها علي نحو جذري‏,‏ والدليل علي ذلك أن التوازن العام في الاقليم هو نفسه منذ عدة عقود‏,‏ وكل محاولات هيمنة طرف بذاته علي شئون الاقليم سريعا ما فشلت وقادت إلي رد فعل عكسي مضاد‏,‏ وبما اثبت يقينا أن هذه المنطقة لا يمكنها أن تقبل ما هو ضد منطقها الخاص الذي نشأت عليه منذ قرون طويلة وقوامه الاعتداد بالذات وخياراتها الحرة‏.‏

وبالرغم من حركية بعض الأطراف الاقليمية أو المحلية وقدرتها علي جذب قدر من التعاطف أو التأييد أو الإعجاب الشعبي‏,‏ وتركيزها علي تحقيق مصالح خاصة وضيقة أحيانا مستغلة في ذلك قضايا ذات طابع خاص بالنسبة لشعوب ومجتمعات المنطقة ككل‏,‏ كالقضية الفلسطينية مثلا أو مواجهة الغطرسة الاسرائيلية دعائيا وسياسيا‏,‏ فإن المحصلة النهائية تصب عادة في سيادة الاتجاه بعدم قدرة طرف بذاته احتكار القيادة لشئون الإقليم ككل‏,‏ ووضع أولوياته بعيدا عن التعاون مع باقي الأطراف المؤثرة‏.‏ ولذلك يتكرر دائما المشهد ذاته من الثنائيات أو الثلاثيات التي تتصارع أو تتنافس دون أن تنهي أزمة أو تحل قضية‏,‏ بل عادة ما تزيد من تفاقم الموقف وتعطي وزنا اكبر لخيار الحرب والمواجهة كمخرج مؤقت من حال الأزمة‏,‏ ثم سرعان ما يتأكد أن مخرج الحرب والعدوان ليس سوي هروب لحظي يؤدي بدوره إلي تجسيد مأزق أكبر وأعمق لاحقا‏.‏

ثمة حاجة إلي منهجية جديدة تعيد الاعتبار إلي قيمة الشراكة في بناء الإقليم يعلي من قيمة الاستقرار والمصالح المشتركة بلا استعلاء أو عنصرية‏,‏ وثمة حاجة إلي التخلي تماما عن خيارات المواجهة بكل أشكالها والاتجاه إلي خيارات التعاون والتواصل واعادة الحقوق المغتصبة إلي أصحابها‏.‏