خبر ما هو أبعد من قضية اغتيال المبحوح ..بلال الحسن

الساعة 02:35 م|28 فبراير 2010

ما هو أبعد من قضية اغتيال المبحوح ..بلال الحسن

شغلت قضية محمود المبحوح في دبي الرأي العام الفلسطيني والعربي والدولي، وكانت ولا تزال خبراً بارزاً في الإعلام العالمي.

 

وقد كان العنوان الأساسي لذلك كله حادث الاغتيال نفسه، ولكن الحادث ما لبث أن تجاوز ذلك إلى ما هو أبعد، وأصبح في عملية التجاوز هذه أمراً يخص أطرافاً عربية ودولية، كما أصبح أمراً ذا علاقة بالقانون الدولي.

 

نبدأ بالاغتيال كحادث اغتيال فرد. وهنا نقول إنه منذ أن وجد العمل الفدائي الفلسطيني، كانت هناك عمليات اغتيال إسرائيلية لأفراد فلسطينيين، وكانت هناك عمليات اغتيال فلسطينية لأفراد إسرائيليين، وكثيراً ما اعتبر جميع المعنيين بذلك عمليات الاغتيال كجزء من الحرب المشتعلة على طريقتها الخاصة بين الطرفين.

 

ولكن ما لوحظ أخيراً، أن "إسرائيل" تجاوزت عملية الاغتيال الفردي بكثير، حتى إن "إسرائيل" اعتمدت الاغتيال كجزء من عملية الصراع العربي - الإسرائيلي. وحين خيم جو الحرب على المنطقة كلها، بدت الأطراف المعنية، وفي المقدمة منها "إسرائيل"، حذرة تجاه عملية بدء حرب ما. شعرت "إسرائيل" أنها تستطيع أن تحارب وتستطيع أن تدمر. ولكنها لا تستطيع أن تنتصر، فأحجمت عن أن تكون الطرف المبادر للحرب، لا عربياً ولا إقليمياً. وهنا كشفت بعض التحليلات الإسرائيلية أن "إسرائيل" التي كانت تفكر في ضرب إيران قد غيرت قرارها بشن حرب مخابرات ضد إيران. وقال المحللون الإسرائيليون إن قائد الموساد، الذي كان ينظر إليه كعبقرية مخابراتية، وبدأ الهمس الإسرائيلي يرشحه رئيساً قادماً للوزراء، قد تراجعت سمعته المخابراتية من انكشاف عملية المبحوح في دبي، وبدأ ينظر إليه كمسؤول فاشل. ولكن الاستخلاص المهم في هذا كله، هو أن تقدم دولة ما، وهي هنا "إسرائيل"، على اعتماد المخابرات وأعمالها ذات الطبيعة الإجرامية كجزء أساسي من الاستراتيجية السياسية. وهو أمر قد لا ترحب به كثير من الدول، ومن ضمنها دول حليفة ل"إسرائيل".

 

البند الثاني المهم هنا، أن "إسرائيل" وهي تلجأ إلى أعمال المخابرات كجزء أساسي من سياسة الدولة ومن سياسة الحرب، تمادت، واستباحت أراضي دولة أخرى (الإمارات) من دون علم تلك الدولة، ومن دون موافقتها. ويشكل هذا في العرف السياسي الدولي عملاً مستنكراً، وهو يخلق دائما أزمات بين الحلفاء، إذ لا يستسيغ أي سياسي أن تستعمل أراضيه وتسهيلاته لخدمة دولة أخرى أو لخدمة مخططاتها العدوانية الخاصة بها، وكثيراً ما يؤدي هذا الاستغلال إلى أزمات بين الدول، وحتى إلى أزمات بين الأجهزة المتعاونة. والإساءة هنا ليست إساءة معنوية، رغم أهمية ذلك، بل هي أيضاً إساءة إلى مصالح تلك الدول. فانكشاف عمليات ضخمة، من نوع العملية الإسرائيلية الضخمة التي كشف عنها جهاز أمن دبي، يوجد حالة قلق وانعدام أمان، ويؤثر على إمارة دبي وعلى دولة الإمارات، اللتين تتميزان بأنهما إمارة ودولة استثمارات أجنبية كبيرة، فإذا تراجعت هذه الاستثمارات، أو شعر أصحابها بالقلق أو بعدم الأمان، فإن النتائج ستكون سلبية للغاية.

 

البند الثالث المهم هنا، ما كشف عنه تحديد أسماء ستة أشخاص جدد، من الإطار المخابراتي الإسرائيلي نفسه، وكيف أن بعضهم غادر دبي بحراً باتجاه إيران. وهذا يعني أن المخابرات الإسرائيلية تستعمل أرض دبي سراً ضد دولة مجاورة لها. وهو أمر من شأنه أن يخلق حالة توتر بين البلدين لا يد لدبي فيه، ولا يد لإيران فيه، بل يتحمل هذه المسؤولية كاملة جهاز الموساد الإسرائيلي.

 

البند الرابع المهم هنا، يتعلق بالدول التي استعملت "إسرائيل" جوازاتها، وكلها دول أوروبية صديقة ل"إسرائيل"، في تنفيذ عمل إجرامي أولاً، وعلى أراضي دولة أخرى، لها مع تلك الدول الأوروبية علاقة صداقة معروفة.

 

لقد شعرت تلك الدول الأوروبية كلها بالإهانة، وهي تشهد استعمال الغير لوثائقها الرسمية في سياسة عدوانية لا تقرها. صحيح أن ذلك أوجد أزمة دبلوماسية عالمية ل"إسرائيل". ولكن من الصحيح أيضاً أن ذلك أوجد أزمة ثقة في تلك الدول الأوروبية، وأزمة ثقة في وثائقها على المستوى العالمي كله. ولا يستبعد من الآن فصاعداً أن يتعرض أي مسافر من هذا البلد الأوروبي أو ذلك، إلى مساءلة أمنية، في هذا المطار أو ذاك لتدقيق ما إذا كان جواز سفره بريطانياً مثلاً أم إسرائيلياً. ولهذا كله نقول إن هناك ما هو أبعد من اغتيال المبحوح في دبي. وهي أمور قد تكون الآن قيد الدرس في أكثر من عاصمة أوروبية أو عربية، أو حتى إيرانية أو تركية.

 

إن هذا الوضع يلقي على عاتق دبي مسؤولية خاصة في الدفاع عن سمعتها ومكانتها، وفي تأمين الظروف لسلامة سير اقتصادها من أن يتعرض للهزات بسبب أمور خارجة عن إرادتها.

 

لا بد أن نلحظ هنا، أن هذا الوضع سيؤثر على مكانة "إسرائيل" في علاقاتها الرسمية مع دول أوروبا. وإن كنا نلحظ أن رد الفعل الأوروبي على تعدي "إسرائيل" عليها، كان رداً باهتاً، وكثيراً ما تمت صياغته بكلمات هادئة ومهذبة. واقتصر الأمر على استنكار الاستخدام للوثائق، من دون أي استنكار للجريمة نفسها، وهو تقصير أخلاقي وسياسي لا بد من تسجيله.

 

نقول ذلك، ونحن نلحظ منذ سنوات تنامي الاستنكار الشعبي الأوروبي للسياسات الإسرائيلية، سواء في نطاق الاستيطان، أو في تدمير غزة، أو ضد بضائع المستوطنات، أو على صعيد التعاون الأكاديمي. ولا شك أن جريمة اغتيال المبحوح سترفع من وتيرة الاستنفار الشعبي الأوروبي، على غرار ما حدث مع السفير الإسرائيلي في أكسفورد.

 

لقد تغيرت "إسرائيل" من الداخل، وانحازت أكثر وأكثر نحو اليمينية ونحو العنصرية. وتمادت أكثر وأكثر في الخروج على أعراف عمل الدول. وكل هذا لا بد أن تكون له نتائجه وتداعياته في المستقبل.

 

ويبقى الأمر الأهم، وهو أن يكون هناك موقف عربي حازم ضد سياسات "إسرائيل"، ومن أجل التكاتف مع دبي وحمايتها. وهي التي أظهرت كفاءة في عمل جهازها الأمني.. كفاءة تسجل لها.

 

صحيفة الشرق الأوسط