خبر أوباما وإدارته ومستشاروه لماذا يخطئون؟ ..منير شفيق

الساعة 07:26 ص|23 فبراير 2010

أوباما وإدارته ومستشاروه لماذا يخطئون؟ ..منير شفيق 

تصريحات الرئيس الأميركي باراك أوباما لمجلة تايم الأميركية في 21 كانون الثاني/يناير 2010 حول تجربته الشخصية وتجربة مبعوثه جورج ميتشل في التعاطي مع الموضوع الفلسطيني تدّل على مدى الخلل الذي وقعت فيه إدارته في تقدير الموقف.

 

فعندما يكتشف أن "النزاع بين الإسرائيليين والفلسطينيين" من أصعب المسائل التي يتوجّب حلها. ثم يفسّر الفشل الذي مُنِيَ به مشروع ميتشل بالقول "أحسب أننا بالغنا في تقدير إمكانياتنا على إقناع الطرفين"، يسمح بالخروج بمجموعة استنتاجات تكاد تكون مذهلة حول الإدارة الأميركية وما حولها من خبراء ومستشارين ومراكز بحوث.

 

لعل أول هذه الاستنتاجات يكمن في طرح مشروع ميتشل الذي جاء به إلى المنطقة العام الماضي، وقضى وقتاً طويلاً في محاولة تسويقه، ومع ذلك فشل فشلاً ذريعاً. وقد أدّى إلى تراجع مذّل لميتشل وإدارة أوباما ولأوباما نفسه عنه لحساب مشروع تقدّم به نتنياهو ينسفه عملياً. وقد أدّى هذا التراجع بالرئيس محمود عباس إلى التعبير عن خيبة أمله في الإدارة الأميركية والتهديد بعدم الترشح للانتخابات الرئاسية القادمة.

 

يفترض بمشروع ميتشل المذكور أن يكون قد جاء محصّلة للخبرات الأميركية في شأن الموضوع الذي تناوله. وهي خبرة ممتدّة ومتوارثة منذ ستين عاماً وأكثر، كما يفترض بأن تكون مراكز متخصصّة في البحث قد استشيرت وأبدت رأيها. ولكن التطبيق العملي سرعان ما تكشّف عن سوء تقدير خطير لموقف نتنياهو وحكومته من الوقف التام للاستيطان مقابل خطوات تطبيعية عربية لإطلاق مفاوضات تنتهي بـ"حل الدولتين".

 

فقد تبيّن أن أقصى ما يمكن أن يقدّمه نتنياهو في هذا الشأن هو وقف جزئي للنمو الاستيطاني في الضفة الغربية مع عدم وقف المشاريع التي ابتدأ فيها، وعدم المساس مطلقاً بالتوسّع الاستيطاني في القدس الكبرى التي تشمل 20% من الضفة الغربية.

 

إن الخطأ هنا لا يُغتفر لأن نتنياهو غير غريب، وغير بعيد، عن أميركا بمختلف سياسييها وخبرائها ومراكز بحوثها، وفي المقدّمة عن وزارة الخارجية أو مؤسّسة البيت الأبيض. فكيف يجوز ارتكاب خطأ بهذا الحجم في تقدير الموقف هنا.

 

ثم إذا ارتُكِبَ خطأ في تقدير موقف نتنياهو وحكومته فكيف يُرتكب خطأ في تقدير مدى استعداد أوباما وإدارته لممارسة الضغوط على نتنياهو وإجباره على الخضوع كما حصل مع إدارة بوش الأب عندما فرضت عبر الضغوط على شامير الأشدّ تطرفاً من نتنياهو (الأقوى سياسيا)ً، أن يأتي إلى مؤتمر مدريد ضمن شروطها. الأمر الذي يعني أن أوباما وإدارته ارتكبوا خطأ لا يغتفر في تقدير قدراتهم الذاتية في مدى إمكانهم الضغط على نتنياهو.

 

بل لم يقدّروا أنهم سيتراجعون عن مشروعهم لحساب مشروعه مما سيفقدهم الصدقية ويحرج الذين راهنوا عليهم وراحوا يسهّلون أمرهم، وفي مقدّمهم محمود عباس. ومن ثم فقدَ ميتشل هيبته التي اكتسبها في نجاحه في إيجاد حل للمسألة الأيرلندية.

 

صحيح أن اعتراف أوباما في مجلة تايم يتضمن نوعاً من النقد الذاتي الذي عزاه إلى المبالغة إذ قال "أحسب أننا بالغنا في تقدير إمكانياتنا على إقناع الطرفين". ولكن الخلل أبعد من المبالغة كثيراً. فهو تخبّط في عدّة أخطاء أو هو خطأ متعدّد الأوجه. مما يسمح للتحليل أن يذهب عميقاً في تقويم الوضع الأميركي في الظروف التاريخية الراهنة. بل إن المبالغة بحاجة إلى معرفة سببها؟

 

لا أحد يجادل بما كانت عليه مراكز البحوث الأميركية المهيِّئة لاتخاذ القرار خلال مرحلة الحرب الباردة، من قدرة على التحليل والقراءة لقضايا الصراع ومن ثم في تقديم تقدير موقف شبه دقيق لمتخِّذ القرار. هذا ولا أحد ينكر المؤهلات التي يتمتع بها صانعو القرار ومنفذوه في مختلف المؤسسات الأميركية في مرحلة الحرب الباردة. ولكن يبدو كما تكشفت التجربة أن الأمر اختلف منذ إدارة بيل كلينتون وتفاقم مع إدارة جورج دبليو بوش وأصبح علامة ظاهرة في عهد إدارة أوباما.

 

لعل السبب في ذلك يكمن في عدم إدراك ما حدث من تغيّر في موازين القوى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والإيغال في مرحلة ما بعد الحرب الباردة. فبدلاً من أن يلحظ أن أميركا أصبحت أضعف مع انتهاء مرحلة المعسكرين تشكلت قناعة شبه إجماعية على أن أميركا أصبحت القوّة الكبرى الوحيدة في العالم وغدت قادرة على فعل ما تريد من بناء نظام عالمي أحاديّ القطبية إلى معالجة أية قضية من القضايا الموروثة من المرحلة السابقة، وبانفرادية صارخة.

 

هذا التقدير الخاطئ لموازين القوى الفعلية وليس الظاهرية جعل خبراء المرحلة السابقة وورثتهم يخطئون في تقدير الموقف على كل المستويات ابتداء من الأسس التي وضعوها لنظام العولمة الاقتصادي، ومروراً بالموقف من الدول الكبرى الأخرى وانتهاء بمواجهة القضايا الإقليمية. فالخلل هنا أبعد من مجرّد مبالغة.

 

أميركا أصبحت أضعف لأنها كانت قادرة من خلال الوفاق والنزاع مع المعسكر السوفياتي على ضبط نظام عالمي ثنائيّ القطبية، ولنقل نسبياً مع بعض الاختراقات. ولكن عندما راحت تتصدّى وحدها، وحتى بعيداً عن حلف الناتو، لوضع نظام عالمي اقتصادي على هواها ومثله عسكري وسياسي على أساس الانفراد به. وكذلك لما راحت تنفرد في معالجة القضايا المختلفة كان الأمر فوق قدرتها وطاقتها.

 

 وراحت واشنطن تنوء بحملها الذي قضّ ظهرها، وإذا بالفوضى تعمّ العالم، وإذا بالقوى الكبرى، كل على طريقتها، وبتفاوت، أخذت تتقدّم وتستعيد أدوارها ولا سيما روسيا والصين، وإذا بقوى نامية كبرى جعلت تقفز باقتصادها خطوات إلى الأمام مثل الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا وتركيا، وإذا بالمقاومات والممانعات يشتدّ ساعدها لتنزل الضربات بالاحتلال الصهيوني في لبنان وفلسطين والاحتلال الأميركي في أفغانستان والعراق.

 

كل هذه المتغيّرات التي هبطت بأميركا في ميزان القوى في أكثر من مجال وعلى أكثر من مستوى لم ترفع مستوى الوعي والإدراك لدى الساسة الأميركيين أو لدى الخبراء ومراكز البحوث ليعيدوا النظر في تقديرهم للموقف العام على كل المستويات. ومن ثم الاعتراف بأن أميركا لم تعد أميركا الحرب الباردة وأن أميركا لم تصبح كما تصورّوا بعد انتهاء الحرب بالباردة. وكذلك الدول والشعوب الأخرى.

 

ثم جاء انفجار الأزمة المالية الاقتصادية ليضيف عاملاً جديداً على اختلال ميزان القوى العالمي على غير ما كان عليه في الحرب الباردة أو ظُنّ أن يكون عليه بعدها.

من هنا لا يكون الخلل قد نجم عن المبالغة وحدها، فهذا ناتج وليس سبباً وهي وجه من أوجه الوضع، ولا يكون بسبب خطأ جزئي هنا وهناك وإنما هو خلل في المعادلة نفسها في بنيتها وميزان قواها ومن ثم الإقرار بذلك والاعتراف به والتصرّف على أساسه.

 

والسؤال متى ستدرك أميركا حقيقة أن ما حدث من تغيّرات في موازين القوى العسكرية والسياسية والاقتصادية وحتى العلمية في غير مصلحتها؟

 

إن إدارة أوباما من جهة واستمرار المناخ السابق حول قدرات أميركا والوضع العالمي ككل من جهة أخرى هما وراء التخبّط الحالي وارتكاب الأخطاء في تقدير الموقف. وليس هنالك من أصوات تهز الشجرة هزاً لتسقط أوراقها الجافة.

 

وبكلمة أخرى ليس هنالك من أصوات تدرك أن القويّ أصبح أضعف وأنه يجب أن يعترف بما أصابه من ضعف ويتصرف على أساسه، كما أن خصومه ومنافسوه صاروا أقوى وعليه أن يعاملهم على هذا الأساس.