خبر شهادة مبارك في مسألة الأنفاق .. فهمي هويدي

الساعة 05:02 ص|17 فبراير 2010

بقلم: فهمي هويدي

يبدو أن كل معلومات الموقف المصري إزاء قطاع غزة تحتاج إلى مراجعة وتصويب، تشهد بذلك المقارنة بين خطابي الرئيس مبارك في مناسبة عيد الشرطة هذا العام والعام الذي سبقه.

أدري أن القصة كلها لم ترو ولم تتكشف حقائقها بعد، يسري ذلك على فصل الحسم العسكري الذي وصف بأنه «انقلاب» في غزة. كما يسري على فصل الحصار الذي أسهم فيه الأشقاء مع الأعداء. ولا يختلف الأمر مع فصل العدوان الإسرائيلي على القطاع. لكن فصلا آخر في القصة يعنيني في اللحظة الراهنة ــ لأسباب ستعرفها بعد قليل ــ يتعلق بالحدود والأنفاق التي اخترقتها، واصلة بين القطاع وسيناء، وهو الفصل الذي أثار لغطا واسعا في وسائل الإعلام المصرية طوال الأشهر الأخيرة. ولأن ذلك اللغط لا يزال مستمرا، فإن الصورة النمطية التي استقرت في الأذهان عن الأنفاق أنها مصدر لتهريب السلاح وتصدير الإرهاب إلى مصر، وأنها تمثل عدوانا على السيادة المصرية، بما يعد تهديدا للأمن القومي للبلد، وحول هذه المحاور نسجت تفاصيل كثيرة تحدثت عن متفجرات وأحزمة ناسفة، وتسلل عناصر قامت بعمليات إرهابية في سيناء. وصلات بين شبكات التهريب في غزة وبين شبكات دولية ممتدة عبر البحر الأحمر واصلة إلى اليمن والصومال.. إلى غير ذلك من الادعاءات التي استنفرت الرأي العام، وملأته بمشاعر القلق والسخط.

 هذه التعبئة علت نبرتها بشكل ملحوظ في أعقاب النبأ الذي سربته صحيفة هاآرتس عن إقامة جدار فولاذي في بطن الأرض على الحدود بين قطاع غزة وسيناء، وذكر التقرير معلومتين مهمتين، الأولى أن الهدف من إقامة ذلك الجدار الذي يفترض أن يدفن في الأرض بعمق 18 مترا (تعادل ستة طوابق) هو قطع الطريق على الأنفاق والقضاء عليها تماما. أما الثانية فهي أن ألواح الصلب التي سيشكل منها الجدار تصنع في الولايات المتحدة بواسطة إحدى الشركات المتخصصة التي أقامت جدارا مماثلا على الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك.

 المفاجأة أبرزتها صحيفة «الشروق» في 13/12 الماضي حين نشرت الخبر تحت عنوان رئيسي تحدث عن: «جدار رفح العظيم تحت الأرض»، وهو ما أحدث قدرا غير قليل من الحيرة والبلبلة. وفي مواجهة هذه الحالة أعيد إنتاج الكلام عن خطورة الأنفاق ورياح الإرهاب التي تهب على مصر من خلالها، وضرورة تأمين الحدود لحماية الأمن القومي.

في خضم التعبئة الإعلامية الضاغطة، لم ينتبه كثيرون إلى أن مسألة تهريب السلاح لم تكن شكوى مصرية يوما ما، ولكنها ظلت هاجسا إسرائيليا ملحا، وهى التي لم تكف عن إثارة الموضوع في كل مناسبة، سواء مع مصر أو مع أصدقائها وحلفائها في أوروبا والولايات المتحدة.

 حدث تطور مهم في 16 يناير عام 2009، قبل أيام قليلة من مغادرة الرئيس بوش للبيت الأبيض، إذ وقعت الولايات المتحدة وإسرائيل اتفاقية لوقف تهريب السلاح إلى غزة، كان طرفاها كلاً من كوندوليزا رايس وتسيبي ليفني وزيرتي خارجية البلدين، نص الاتفاقية موجود على شبكة الإنترنت، وقد ذكرت في ديباجتها أن محاربة إمداد غزة بالسلاح والمتفجرات ليس أولوية لدى الولايات المتحدة وإسرائيل فحسب، ولكنها مهمة يجب أن تقوم بها القوى الإقليمية والعالمية أيضا، وأوردت بعد ذلك ستة قرارات تم الاتفاق عليها، بينها أن يعمل الشريكان مع الدول المجاورة (مصر هي الدولة العربية الوحيدة المجاورة للقطاع وليس المقصود إسرائيل بطبيعة الحال)، وبشكل متوازٍ مع المجتمع الدولي لمنع إمداد السلاح للمنظمات «الإرهابية» التي تهدد أيا من الشريكين، نصت القرارات أيضا على أن تعمل الولايات المتحدة مع شركائها الإقليميين وحلف شمال الناتو لمواجهة مشكلة تهريب السلاح ونقله وشحنه لحماس. كما نصت على تعهد الولايات المتحدة بالعمل مع شركائها الإقليميين «مصر» على تأمين وظائف وأموال لأولئك الذين كانوا يعملون في تهريب السلاح لحماس!

 الاتفاقية أغضبت مصر التي اعتبرتها تدخلا في سيادتها على سيناء، وعبرت عن ذلك مختلف وسائل الإعلام. من ذلك أن الأهرام نشر على صفحته الأولى يوم 19/1/2009 تقريرا إخباريا كان من عناوينه أن: الاتفاق الأمني الأمريكي الإسرائيلي يخالف أحكام معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية ــ وأن مصر ترفض محاولات التشكيك في سيطرتها الكاملة على سيناء. وفى التقرير أن الاتفاق «أثار غضب مصر لأسباب عدة على رأسها أنه يبعث برسالة خبيثة تحاول بعض الأطراف الإقليمية في مقدمتها إسرائيل ترويجها، وهي أن مصر ليست لها سيادة كاملة على أرض سيناء، ومياهها الإقليمية ومجالها الجوي، مما يسهل تهريب السلاح إلى حماس».

طغى العدوان على غزة «27/12 إلى 17/1» على أصداء الاتفاق الإسرائيلي الأمريكي. وبمضي الوقت هدأ الغضب المصري إزاءه، حتى لم يعد يذكر الاتفاق بعد ذلك، في حين أن خطى تنفيذه كانت مستمرة على الأرض دون إبطاء، وحين أقيم الاحتفال بعيد الشرطة في يوم 4 فبراير 2009 ألقى الرئيس حسني مبارك كلمة تبدو الآن مثيرة وبالغة الأهمية لأنها تعرضت لموضوع الأنفاق على نحو يتناقض تماما مع الانطباع السائد عنها الآن، كما انتقدت الاتفاق الأمريكي الإسرائيلي. نص الكلمة نشرتها كل الصحف القومية في اليوم التالي (5/2)، كما أنه موجود حتى هذه اللحظة على موقع مصلحة الاستعلامات الإلكتروني. في تلك الكلمة قال الرئيس مبارك ما نصه:

 «لقد روجت إسرائيل خلال العامين الماضيين لموضوع التهريب والأنفاق. وعاودت التركيز على هذا الموضوع بعد عدوانها على غزة وخلال اتصالاتنا لوقف إطلاق النار. وأقول إن تهريب البضائع هو نتيجة للحصار، وأن الاتفاق الإسرائيلي الأمريكي لمراقبة تهريب السلاح لا يلزمنا في شيء. وأقول: إننا كدولة مستقلة قادرون على تأمين حدودنا. ولن نقبل بأي وجود لمراقبين أجانب على الجانب المصري من الحدود. ونتمسك بأن تبتعد أي ترتيبات إسرائيلية دولية عن أرض مصر وسمائها ومياهها الإقليمية».

 حين يدقق المرء في هذا النص المتميز سيلاحظ على الفور ما يلي:

* أن الشكوى من التهريب عبر الأنفاق إسرائيلية بالدرجة الأولى.

* أن مصر على علم بوجود الأنفاق وتعتبر أن وجودها مبرر في ظل استمرار الحصار المفروض على قطاع غزة.

* أن مصر مدركة أن ما يتم تهريبه عبر الأنفاق هو البضائع، التي تلبي الاحتياجات المعيشية للمحاصرين. ولم يخطر على البال احتمال أن تكون بابا لتهريب السلاح إلى مصر.

* أن الاتفاق الإسرائيلي الأمريكي على مراقبة تهريب السلاح لا يلزم مصر في شيء.

* أن مصر ترفض وجود أي مراقبين أجانب على أراضيها، وتتمسك بأن تبتعد أي ترتيبات إسرائيلية مستجدة عن حدودها.

* أن مصر التي اعتبرت الأنفاق من الضرورات التي ترتبت على الحصار لم تر في وجودها اعتداء على السيادة ولا انتهاكا للحدود، ولا تهديدا للأمن القومي.

 في عيد الشرطة هذا العام (25/1/2010) ألقى الرئيس خطابا تطرق فيه إلى بعض جوانب الموضوع، بلغة ولهجة مغايرتين، حيث قال ما نصه:

 « إن مصر لا تقبل الضغوط أو الابتزاز، ولا تسمح بالفوضى على حدودها أو بالإرهاب والتخريب على أرضها.. إننا قد نصبرعلى حملات التشهير والتطاول ولكن ما لا نقبله ــ ولن نقبله ــ هو الاستهانة بحدودنا.. أو استباحة أرضنا.. أو استهداف جنودنا ومنشآتنا.. إن الإنشاءات والتحصينات على حدودنا الشرقية عمل من أعمال السيادة المصرية، لا نقبل أن ندخل فيه في جدل مع أحد أيا كان. أو أن ينازعنا فيه أحد كائنا من كان. إنه حق مصر الدولة، بل وواجبها ومسؤوليتها، وهو الحق المكفول لكل الدول في السيطرة على حدودها وتأمينها وممارسة حقوق سيادتها تجاه العدو والصديق والشقيق على حد سواء».

 إذا جمعت الإشارات في السياق إلى «الفوضى على الحدود» و«الاستهانة بها» و«استباحتها»، وإلى «عمليات الإرهاب والتخريب على أرض مصر»، وأضفت إلى ذلك مفردات الدفاع عن الجدار الفولاذي الذي وصف بأنه «إنشاءات وتحصينات من أعمال السيادة»، فإن حاصل الجميع سيوفر لك خلاصة مختلفة تماما عن تلك التي خرجت بها إثر قراءة النص السابق الذي ورد في خطبة عام 2009.

هذا التفاوت في موقف ولغة الخطابين يثير الانتباه ويستدعى سؤالا كبيرا حول الأسباب التي أدت إلى الانتقال من حالة التفهم إلى حالة الاستفزاز والغضب التي عبر عنها الرئيس مبارك، وعكستها وسائل الإعلام المصرية على نحو روج للصورة النمطية السلبية التي سبقت الإشارة إليها.

في تفسير هذا التحول في الموقف هناك أربعة احتمالات. الأول أن يكون توتر العلاقات المتصاعد بين القاهرة وبين حماس قد ألقى بظلاله على المشهد. وهو التوتر الذي بدأ منذ حسمت حماس الموقف لصالحها في قطاع غزة، واعتبرت مصر ذلك انقلابا على سياساتها، باعتبار أن أبو مازن يعد حليفا طبيعيا لها، ولا يستبعد أن تكون القاهرة قد استشعرت غضبا خاصا حين رفضت قيادة حماس التوقيع على ورقة المصالحة المصرية، إضافة إلى أنها لابد أن تكون غير سعيدة لاصطفاف حماس إلى جانب معسكر الممانعة في المنطقة المراد تصفيته نهائيا في الظروف المواتية حاليا، إقليميا ودوليا.

 الاحتمال الثاني: أن تكون خطبة السيد حسن نصرالله في مناسبة عاشوراء، التي ألقاها في 28/12/2008 (أثناء العدوان الإسرائيلي على غزة) قد أحدثت نقطة تحول في الموقف المصري إزاء حزب الله أوصل الأمور إلى ما وصلت إليه. ذلك أن الأمين العام لحزب الله كان قد دعا الجيش والشعب في مصر إلى مطالبة الرئيس مبارك بفتح معبر رفح أمام الفلسطينيين في القطاع. وكانت إشارته إلى الجيش بمثابة تجاوز خط أحمر استفز القيادة المصرية. وهو ما أحدث رد فعل عنيفاً للغاية في الدوائر السياسية والإعلامية المصرية. إذ إلى جانب حملة التجريح التي استهدفت «السيد» والحزب، فإن الأجهزة الأمنية استثمرت المناخ في اتجاه آخر. فحولت قضية عضو حزب الله والمجموعة التي ألقي القبض عليها معه في 18/11/2008 (قبل نحو أربعين يوما من بدء العدوان الإسرائيلي)، من اتهام بمحاولة إرسال أسلحة إلى غزة كما دلت التحريات والاعترافات الأولية، إلى مؤامرة للتخريب وإثارة الفوضى داخل مصر (القضية منظورة الآن أمام المحكمة المختصة). وفي ظل سيناريو المؤامرة تغيرت لغة الخطاب. وأصبح الحديث عن استباحة الحدود وعن الإرهاب والتخريب في مصر من التداعيات المفهومة.

 الاحتمال الثالث أن مصر قد تعرضت لضغوط خارجية كانت فوق احتمالها لحسم مسألة الأنفاق وإحكام الحصار حول غزة. فاضطرت للقبول بإقامة الجدار الفولاذي مع القطاع، بإشراف وتمويل أمريكي. وتكتمت الأمر في البداية، إلى أن تسرب الخبر من إسرائيل. فكان لابد لتبرير وتغطية الحدث أن تطلق الحملات الإعلامية التي روجت للمخاطر والتهديدات التي تمثلها الأنفاق للسيادة والأمن القومي المصري. (الاتفاق الأمريكي الإسرائيلي ألمح إلى اتهام مصر بالتسامح في تهريب السلاح لغزة وحفر الأنفاق، وشكك في عدم قدرة مصر على ممارسة سيادتها على سيناء، وهدد بفرض عقوبات في حالة عدم التعاون في وقف التهريب).

 الاحتمال الرابع والأخير، ألا يكون هناك أساس للتفسيرات السابقة، وألا تكون هناك أي خلفية سياسية للتغير الذي حدث في لغة الخطابين اللذين ألقاهما الرئيس مبارك، لأن الخطب كثيرا ما تتبنى أفكارا وانطباعات تناسب المقام. وأن خطبة عيد الشرطة في عام 2009، التي ألقيت بعد وقف العدوان على غزة جاءت مناسبة للأجواء السائدة آنذاك. وعندما تعكرت الأجواء في 2010 تمت صياغة خطبة مناسبة لذلك المقام - والله أعلم.