خبر مسعف فلسطيني: « جلوسي يعني موت الناس في الشوارع »

الساعة 03:20 م|18 يناير 2010

"جلوسي يعني موت الناس في الشوارع"

مسعف فلسطيني يتحدث لـ"قدس برس" عن معايشاته المروٍّعة خلال العدوان

شهود الصف الأول على جرائم حرب جعلتهم يعايشون الزفرات الأخيرة للأبرياء

مسعفو غزة تحرّكوا بين القتل الحيّ والأشلاء الممزقة .. وذاكرتهم تلطخت بالدماء

فلسطين اليوم- غزة

كان ضابط الإسعاف عطية أبو عمرة مدركاً أنه قد يفارق الحياة في أي لحظة، خلال تقديمه الرعاية الطبية لمئات الضحايا الذين سقطوا خلال العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة، المكتظ بالسكان.

 

وخرج أبو عمرة (48 عاماً) مسرعاً من منزله في قرية المغراقة، الواقعة إلى الجنوب من مدينة غزة، في ظهيرة السابع والعشرين من كانون الأول (ديسمبر) 2008؛ لتصدمه ثماني جثث لضحايا استشهدوا إثر قصف موقعين أمنيين تابعين لوزارة الداخلية الفلسطينية في قريته، التي كانت مسرحاً للمجازر الإسرائيلية المفزعة وعمليات التدمير الواسع، خلال أيام العدوان الذي استمر أكثر من ثلاثة أسابيع.

 

ويقول أبو عمرة لوكالة "قدس برس"، مستذكراً تلك اللحظات العصيبة "من كانوا في الموقعين الأمنيين قُتلوا، أمّا ملابسي فتلطّخت بالدماء"، وأضاف "كان المنظر مفزعاً، فبعض المارّة أصيبوا وكانت جراحهم خطيرة للغاية، وفقد أحدهم ساقاً وفقد آخر ساقيْه".

 

وقد شارك ضابط الإسعاف أبو عمرة بملابسه المدنية، في انتشال جثث الضحايا في قريته قبل أن يرتدي بزة الإسعاف التقليدية، ليعيش أيّاماً وليالي قاسية في انتشال الضحايا وتقديم الإسعافات الطبية للجرحى، في القطاع الساحلي الذي تغيّرت الكثير من معالمه بفعل القصف الإسرائيلي المتواصل على منشآته وأراضيه.

 

وتعرّض أبو عمرة للإصابة بشظايا في رأسه وظهره وقدميه خلال اليوم الرابع للعدوان، عندما سقط صاروخ على مجمع الوزارات الحكومية غرب غزة، أثناء مشاركته في إخلاء جريح مدني يقطن قرب المجمع الذي دمرته القذائف التي ألقتها الطائرات الحربية الإسرائيلية.

 

وقد سحب المسعفون زميلهم أبو عمرة إلى جانب الجرحى المدنيين من المكان، وقدّموا لهم الإسعافات الأوّلية، لكن أبو عمرة بعد أن استعاد وعيه قفز إلى سيارة الإسعاف ليواصل عمله رغم الآلام التي كان يشعر بها.

 

ويقول أبو عمرة "إذا قعد كلّ ضابط إسعاف تعرض للإصابة (عن القيام بواجبه)؛ فإنّ الناس ستموت في الشوارع، وإسرائيل عدوّ لا يرحم، والنيران كانت تهاجمنا من كل مكان، وأنا لو عثرت على جندي إسرائيلي مصاب في أرض المعركة فسأحمله، وهذا واجبي".

 

ووفقاً لأطباء؛ فإنّ أبو عمرة كان يعاني من جروح سطحية في الرأس والظهر والقدمين، واستطاع من خلال المسكنات أن يتغلّب على الألم ويواصل عمله بنشاط وحيوية.

 

وبحسب إحصائيات المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، فإنّ سبعة سائقي إسعاف ومسعفاً وطبيباً قُتلوا خلال العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة، وأصيب أكثر من عشرين آخرين بينما كانوا ينقذون مصابين وشهداء من مناطق الاشتباكات.

 

وقال الطبيب معاوية حسنين، الذي يدير دائرة الإسعاف والطوارئ، في قطاع غزة، لوكالة "قدس برس" إنّ "ما جرى جنون، فالطواقم الطبية قُتلت في وضح النهار، والعالم كان يتفرّج دون أن يحرِّك ساكناً".

 

ولم يغادر حسنين حجرة الإسعاف والطوارئ على مدار ثلاثة أسابيع هي أمد الحرب الإسرائيلية، إلاّ في مرات نادرة كان خلالها ينزل إلى الميدان لإسعاف مصابين وانتشال ضحايا من بين الركام. 

 

وخلال العدوان لم يكن أي إنسان مهما كانت جنسيته في مأمن من نيران الجيش الإسرائيلي، الذي استخدم أسلحة يؤكد المراقبون أنها محرّمة دولياً أو موضوعة في بؤرة الجدل بشأن إمكانية حظرها؛ مثل قنابل الدايم والفسفور الأبيض.

 

وانزلقت دمعة من مقلة أبو عمرة عندما استذكر مشهد خمسة جثث ممزّقة قرب أبراج الكرامة شمال مدينة غزة، سارع بدوره إلى سحبها من الميدان، لكنّ أجساد الضحايا كانت تتمزّق بين يديه.

 

وشرح المسعف الفلسطيني عن ذلك قائلاً "وصلنا إلى هذا المكان في اليوم السابع عشر من الحرب، وإذ بخمس جثت ممدّة قرب أبراج الكرامة، فقفزت مع زملائي لرفعها من المكان، إلاّ أنّ أجسادهم كانت تتمزّق كلما رفعنا جزءاً منها".

 

وحبس الضابط  أبو عمرة أنفاسه قائلاً "خلال عملية رفع أجساد الشهداء كانت طفلة في عمر الزهور تنادي: بابا .. بابا، أحضِر الطعام!".

 

وليس فقط مشهد الطفلة التي كانت تنادي على والدها الذي كان جسده ممزقاً أمام أبراج الكرامة؛ هو أكثر ما يؤثر في أبو عمرة؛ بل من ماتوا وهم ينتظرونه، ولم يستطع الوصول إليهم بسبب كثافة النيران وإطلاق النار من قبل الجيش الإسرائيلي.

 

ويواصل أبو عمرة حديثه وهو يرتدي سترته الفسفورية "لم أستطع الوصول إلى كلّ من طلب المساعدة، والعديد منهم تُوفي قبل أن أصله بسبب خطورة الأوضاع، حيث كان يتمّ استهداف سيارات الإسعاف بشكل متعمّد من قبل جنود الجيش الإسرائيلي".

 

ويتابع أبو عمرة قوله "توجّهت برفقة زميلي عبد المجيد البيطار بعد تنسيق من قبل الصليب الأحمر في أيام الحرب الأخيرة، لإسعاف أمٍّ وطفلتها في جحر الديك جنوب شرق مدينة غزة، لكنّ جندياًَ إسرائيلياً كان في دبابة من نوع "ميركافاه" (شديدة التحصين) منعنا من النزول من الإسعاف لمدة ثلاث ساعات".

 

ويضيف المسعف "بعد أن أضحت والسيدة وطفلتها في عداد الموتى داخل سيارة الإسعاف؛ طلب الجيش الإسرائيلي إخلاء المكان، فعُدنا أدراجنا دون أن نسعف أحداً، وكان الأمر مؤلماً بالنسبة لي ولزميلي عبد المعطي".

 

وقال "في ساعات المساء عُدنا إلى المكان نفسه بتنسيق آخر، وصرخ الجنود علينا لإخلاء المرأة وطفلتها وكانتا بلا نفَس، لقد أخرجتا أنفاسهما الأخيرة أمام أعيننا"، وفق ما يستحضره من ذاكرة الفظائع.

 

وبعد مرور سنة على العدوان؛ لا يزال أبو عمرة يأمل في أن تتحسّن أحوال الحياة في قطاع غزة، ويتخلّص سكانه من الحصار الخانق المفروض عليهم، ويعيدوا بناء ما دمّرته آلة الحرب الإسرائيلية.

 

ويشير أبو عمرة الذي يعمل ضابط إسعاف منذ أربعة وعشرين عاماً، قبل أن يتحرّك إلى شمال القطاع تلبية لنداء استغاثة "ما عشتُه في الحرب يصعب أن يتخيّله عقل بشر، فالموت كان في كلّ مكان".