خبر حوار الجدار والأسلاك بين غزة والجبل الأخضر ...صالح السنوسي

الساعة 04:11 م|16 يناير 2010

حوار الجدار والأسلاك بين غزة والجبل الأخضر ...صالح السنوسي 

قرر المارشال بادوليو الحاكم العسكري الإيطالي لليبيا، المستعمرة الإيطالية آنذاك، إقامة جدار من الأسلاك الشائكة بطول ثلاثمائة كيلو متر يبدأ من الشاطئ الشمالي الشرقي وينتهي بمنطقة الجغبوب في الجنوب الليبي.

 

كان هذا الجدار من الأسلاك الشائكة -حسب المصادر التاريخية- وليد أفكار الجنرال أدولفو غراسيانى، قائد القوات الاستعمارية الإيطالية في شرق ليبيا.

 

كان الجنرال غراسيانى عسكريا موتورا وأصابه الإحباط من عجزه عن كسر شوكة المقاومة الليبية في الجبل الأخضر بقيادة عمر المختار، فقد مضى على الاحتلال الايطالي حتى تلك اللحظة ما يقارب ثلاثة عقود دون أن تستطيع إيطاليا أن تعلن رسميا أنها تسيطر على كل بقعة في ليبيا، وكان ذلك يسبب حرجا وإذلالا للهيبة الإيطالية بين أقرانها من القوى الاستعمارية الأوروبية التي كانت في ذلك الحين تستمتع باستعمار هادئ وثابت الأوتاد في المنطقة العربية.

 

كان جدار الأسلاك الشائكة يهدف إلى تحقيق غرضين: الأول هو عزل الجبل الأخضر حصن المقاومة الليبية عن مصر باعتبارها العمق الإستراتيجي العربي الذي تتزود منه المقاومة بمعظم حاجياتها المادية والمعنوية والذي تنشط فيه تجمعات شعبية وأهلية تحتضن حركة الجهاد وتقدم لها كل أشكال العون.

 

فقد كانت مصر بمثابة الرئة التي تتنفس منها المقاومة التي تواجه قوة عسكرية متفوقة عدديا وتكنولوجيا تحاول تضييق الخناق عليها وسد كل المنافذ من حول هذه المقاومة، وذلك بعد أن تم إفراغ الجبل الأخضر من سكانه وترحيلهم قسرا عام 1930 إلى أول معسكر اعتقال جماعي – سبق معسكر أوشفتز بثلاثة عشر عاما- وكان معتقل العقيلة يبعد عن مركز المقاومة في الجبل الأخضر بحوالي ستمائة كيلو متر والذي سيق إليه حوالي ثمانين ألف نسمة لم يخرج منهم على قيد الحياة سوى بضعة آلاف بعد اعتقال دام ثلاث سنوات بين الأسلاك الشائكة ورمال الصحراء.

 

أما الغرض الثاني الذي كان يهدف إليه الجنرال غراسيانى من وراء إقامة جدار الأسلاك الشائكة، فهو استسلام المقاومة والقضاء عليها دون خسائر عسكرية كبيرة، فالجوع والمرض ونفاذ العتاد كفيلة بالقضاء على المقاومة مهما عظمت عزائم الرجال، وهو المبدأ عينه الذي تطبقه إسرائيل في هذا القرن على غزة لمنع الغذاء والكساء والدواء، فبدت غزة في القرن الواحد والعشرين انزياحا لصورة معتقل العقيلة في الربع الأول من القرن الماضي، بينما بدا الجدار الفولاذي الذي يرمى إلى عزل القطاع عن مصر، هو المعادل الموضوعي لجدار الأسلاك الشائكة الذي قضي الإيطاليون قرابة عام في بنائه من أجل عزل الجبل الأخضر عن مصر.

 

ورغم التطابق في الأغراض المستهدفة من وراء الأسلاك الشائكة فوق الأرض ودق الجدار الفولاذي في باطنها، إلا أن الاختلاف في الظروف والمعطيات بين الحدثين ليست مجرد تفاصيل عابرة بل وقائع راسخة تضرب بجذورها في الواقع الجيو سياسي العربي الذي جرت فبركته حسب مقتضيات الإستراتيجية الغربية منذ بداية العصر الاستعماري في المنطقة العربية.

 

فعندما بدا الجنرال (غراسيانى) تنفيذ خطته في مد الأسلاك الشائكة لعزل المقاومة في مستعمرته الليبية عن عمقها العربي في مصر، كانت هذه الأخيرة محمية بريطانية لا تملك -رسميا- من أمرها شيئا، فالشؤون الخارجية والدفاع تضطلع بهما الدولة البريطانية الحامية والتي علاقتها بالحليف الإيطالي منذ نهاية الحرب العالمية الأولى كانت ما تزال جيدة وتخضع لأحد مبادئ مؤتمر برلين الشهير في القرن التاسع عشر والذي يلزم قوى الاستعمار الأوربي باقتسام الأرض والبشر والأشياء خارج أوروبا بالتوافق والتراضي بدلا من الصراع والحرب.

 

ولهذا فإن قطع شرايين التواصل بين المستعمرة الإيطالية والمحمية الإنجليزية أمر يقرره المستعمرون والحماة فقط بالتراضي والتفاهم بينهما وفق ما تقتضيه مصالح الطرفين.

 

انتصب على إثر الاتفاق ذلك الجدار الذى تحرسه الفرق الراجلة والمدرعات تحت رقابة جوية على مدار ساعات النهار، ولم يعد بإمكان أي شيء قادم من مصر أن يصل إلى الجبل الأخضر، ولم يكن بإمكان المقاومة آنذاك لا من الناحية التقنية ولا الجغرافية أن تستعيض عن انقطاع التواصل فوق سطح الأرض بالتواصل عبر الأنفاق، ولذا فإن محاولات الاختراق كانت تجري مواجهة في معارك اختار العسكريون الإيطاليون ميدانها الصحراوي ليستخدموا مدرعاتهم وطائراتهم بأقصى فاعلية، ولذا فقد كانت محاولات تحدي هذا الجدار نزيفا لا تستطيع أن تتحمله مقاومة محاصرة منهكة تفتقد إلى كل مقومات البقاء.

 

رغم أن المظهر الخارجي للواقع العربي في زمن حصار غزة والجدار الفولاذي قد تغير عما كان عليه في زمن جدار الأسلاك الشائكة الإيطالية، حيث لم تعد أقطاره -شكليا وقانونيا- مستعمرات ولا محميات، إلا أن التصميم الجيو سياسي الذي ابتدعه الغرب للخارطة العربية ظل على ما هو عليه، وبالتالي فليس هناك ما يدعو للدهشة حينما نرى هذا الواقع يعيد إنتاج ما كان يفعله حماته ومستعمروه.

 

لقد أنتجت هذه الخارطة الجيو سياسية حدودا يدعى كل حاكم عربي أنها تجسد السيادة والاستقلال، في الوقت الذي لا يعني هذا الاستقلال شيئا في مواجهة الغرب، بل مكرس لخدمة الإستراتيجية الغربية التي قد تنيط بهذا الإقليم أو ذاك أداء مهمة في مواجهة إقليم آخر فيضطلع الحاكم بتنفيذها تحت شعار الدفاع عن حدود الوطن والذود عن حياضه في مواجهة أخطار تمثلها أطراف خارجية ليس من بينها إسرائيل ولا الولايات المتحدة الأميركية.

 

ولهذا فإن هذا الحاكم يعطى لنفسه الحق في استخدام كل الوسائل بدعوى الدفاع عن هذه الحدود التي في الحقيقة تمثل بالنسبة إليه حدود حكمه وليست حدود الوطن، فكلما سخر هذه الحدود لخدمة مهام تتطلبها إستراتيجية الغرب زادت حظوظه وحظوظ سلالته من بعده في البقاء في السلطة، فالوطن بالنسبة للحاكم العربي هو بمثابة إقطاعية يمارس عليها حقا عينيا، أي ملكية يمارس عليها جميع أنواع التصرف، فإن خرجت هذه الإقطاعية عن ملكيته فهي لا تعني له بعد ذلك شيئا.

 

في زمن الحماية والاستعمار، كان جنرالات الغرب يشرفون علنا على مد الأسلاك الشائكة بين حدود هذه المستعمرة وتلك، أما في زمن الاستقلال فقد أنيطت هذه المهمة بحكام هذه الأقطار فيبدون في الظاهر وكأنهم هم الفاعلون الحقيقيون وأصحاب القرار، بينما هم في واقع الأمر ليسوا إلا خلفاء لأولئك الجنرالات.

 

لقد نتج عن استقلال المستعمرات والمحميات في إطارها الجيو سياسي الذي ثبته الغرب، مقولة السيادة الوطنية وهى مفهوم لا يحيل في الواقع العربي إلى سيادة شعب على أرضه وحريته في الاختيار والقرار، بل ينصرف إلى معنى واحد فقط، وهو عدم قبول الحاكم بأن ينازعه طرف أخر على "حوزته" أو سلطته المطلقة داخل الإقليم.

 

في ظل الأوضاع العربية القائمة على ملكية الحاكم للإقليم وعلى ضرورات الإستراتيجية الغربية وأولوية مصالحها على ما عداها من مصالح شعوب المنطقة، في ظل هذه المعطيات جميعها، تبدو المقاومة مجرمة في نظر الغرب ومحرمة في شريعة الحكام العرب، لأن مفهومها يحيل إلى معاني الرفض والحركة وخلخلة ما هو قائم على غير حق في نظر المقاوم، وهذه كلها معان تتناقض وتنفي الواقع العربي الراكد المكرس لخدمة مصالح الغرب والحكام.

 

ولهذا فإن هؤلاء الأخيرين يسبقون الغرب في أحيان كثيرة إلى معاداة أية حركة مقاومة تظهر في المنطقة فيعمدون إلى التآمر عليها ومشاركة الغزاة في ضربها سواء كانت في العراق أو فلسطين أو لبنان، غير أن الحالة الفلسطينية تختلف عن العراق ولبنان لأن ترتيبات الغرب الجيو سياسية في المنطقة حكمت على شعب بكامله أن يكون لاجئا ومشردا دون كيان خاص به، مما أدى إلى التهديد الدائم بزعزعة هذه الترتيبات لأن أية مقاومة تظهر في وسط هذا الشعب لابد أن تلجأ إلى عمقها العربي وهذا ما لا يسمح به الغرب ولا حلفاؤه من الحكام العرب، وبالتالي فإن الحدود والسيادة بمفهوم الحاكم العربي يتصديان ولو بالتعاون مع إسرائيل والغرب لهذه المقاومة باعتبارها خطرا قادما من وراء الحدود.

 

لقد حاصر الغرب والحكام العرب غزة وتركوا الآلة العسكرية الإسرائيلية تمارس جنونها ووحشيتها ضد البشر والنبات والجماد في القطاع لعدة أسابيع على أمل أن تستسلم المقاومة أو يتمرد عليها المحاصرون، ولكن شيئا من هذا لم يحدث فأدى ذلك إلى استعداء الغرب والحكام العرب أكثر ضد هذه المقاومة فكانت ردة فعلهم شديدة القسوة وضربت بجذورها الفولاذية في عمق الأرض.

 

فبدا هذا المشهد على الأرض العربية في القرن الواحد والعشرين وكأنه حوار بين الأسلاك الشائكة الإيطالية التي حاصرت الجبل الأخضر في القرن العشرين وبين الجدران الفولاذية التي يدقها الحكام العرب في القرن الواحد والعشرين في مواجهة أنفاق غزة الباحثة عن شرايين التواصل مع عمقها العربي