خبر « سائق جرافة » أخلى مائتي شهيد من تحت الأنقاض .. وبعضهم قضى بانتظاره

الساعة 07:23 ص|15 يناير 2010

جرافات غزة تنقِّب عن أشلاء الذين سحقهم القصف

أخلى مائتي شهيد من تحت الأنقاض .. وبعضهم قضى بانتظاره

ذاكرة الجثامين والأشلاء لا تفارق وعي سائق الجرافة الفلسطيني فتحي الديب

فلسطين اليوم - غزة

ما زال سائق جرافة التنقيب فتحي الديب، يذكر كيف تسبب صاروخ إسرائيلي بدفن جرافته لمدة ستّ ساعات وسط الركام، في حي تل الهوا الراقي جنوب غرب مدينة غزة، بمعية عدد من أشلاء الضحايا الذين كان ينقب عنهم.

 

ويقول الديب وهو يستذكر تلك اللحظات العصيبة التي مرّ بها قبل سنة "جميعهم كانوا قتلى. وأنا أيضاً شعرت بأنني سألقى المصير نفسه".

 

وعندما بدأ العدوان الإسرائيلي علي قطاع غزة، كان الديب يعمل في "المحرّرات"، وهي المستوطنات السابقة التي اضطرت سلطات الاحتلال الإسرائيلي إلى الانسحاب منها في صيف العام 2005، فقد طُلب منه أن يقوم بانتشار جثث الضحايا الذين سقطوا في نلك المنطقة.

 

ويواصل الديب حديثه بالقول "كان المنظر مفزعاً، فقد كانوا ستة شهداء في موقع أمني قرب خان يونس، وكنت آمل أن أجد بينهم أحياء، لكنهم جميعاً كانوا مفارقين للحياة".

 

وأصبح فتحي الديب يُعرف بـ"المنقب عن الشهداء" بين زملائه في وزارة الأشغال العامة، وهو يستذكر اليوم بصوتٍ ثائر "سحبت جثامين الشهداء من بين الركام، ثم توجّهت إلى مدينة الزهراء رغم قصف الطيران الإسرائيلي للطرقات".

 

وأمضى الرجل الخمسيني أيام العدوان الإسرائيلي وما تلاه من تجارب قاسية على الفلسطينيين في غزة، داخل جرافته التي تنقل بها بين مناطق الدمار، بحثاً عن الأحياء والأموات الذين استُشهدوا في تلك الحرب التي تُوصَف بأنها الأكثر عدوانية في تاريخ الصراع.

 

وشنّت المقاتلات الحربية الإسرائيلية حوالي ستين غارة دفعة واحدة على مواقع أمنية ومدنية في قطاع غزة، في ظهيرة السبت السابع والعشرين من كانون الأول (ديسمبر) 2008.

 

وأكثر ما كان يبعث الهلع في قلب الديب (55 عاماً) صواريخ الموت الإسرائيلية التي كانت تستهدف المواطنين الفلسطينيين، عندما كان يحاول انتشال الأشلاك البشرية من تحت الركام في مواقع شتى من قطاع غزة.

 

وقال الديب، خلال مقابلة أجرتها "قدس برس" من داخل جرافته في بلدة بيت حانون الزراعية، المتاخمة للحدود مع الأراضي الفلسطينية المحتلة سنة 1948 "انتشلت حوالي مائتي جثة خلال الحرب، كان بينهم شاب واحد فقد على قيد الحياة".

 

وعاد الديب بذاكرته إلى تلك اللحظات قائلاً "عندما انسحب جيش الاحتلال توجّهت إلى منطقة العطاطرة شمال القطاع، وبدأت عملي، وإذ بشاب يرفع يده من بين الركام".

 

وأكمل قائلاً "قفزت من الجرافة نحو الشاب وانتشلته من بين الركام، ووضعته داخل الجرافة، لكنّه فارق الحياة قبل أن نصل إلى مشفى كمان عدوان، شمال القطاع، بدقائق".

 

وذاكرة الديب محشوة بعشرات المشاهد المؤلمة، وهو ينعت ذكرياته مع العدوان بأنها "الأكثر بربرية في حياته"، فهو انتشل "شباباً ونساء وشيوخاً وأسراً بأكملها؛ كانت مدفونة تحت الركام".

 

وانتشل الديب الذي كان نجله الأكبر رائد يعمل متطوِّعاً إلى جانبه؛ سبعة عشر فرداً من عائلة الداية، التي استهدفها الطيران الحربي الإسرائيلي داخل منزلها، خلال اليوم الخامس عشر للحرب، في حي الزيتون جنوب شرق مدينة غزة.

 

ويقول "المنقب عن الشهداء"، عن ذلك إنّ "المجزرة التي ألمّت بتلك العائلة لن تفارق ذاكرتي. لقد شعرت بالموت في كثير من الأحيان؛ لكني دائماً استذكر كيف كنت أنتشل جثامين أفراد تلك العائلة".

 

ومن المفارقات التي مرّت بالديب أنه دفن جثماني شهيدين في مقبرة الشيخ رضوان بمدينة غزة عصراً، وبعد ساعتين لملم بقايا رفاتهما أشلاءً بعدما قصفها جيش الاحتلال داخل القبور، فتطايرت أجزاء الشهداء في كلّ اتجاه.

 

وكان المسعفون والصحافيون والمنقبون عن ناجين وعن أشلاء الضحايا؛ من بين المستهدفين خلال العدوان الإسرائيلي، الذي استشهد خلاله 1440 فلسطيني وفق إحصاءات رسمية وحقوقية فلسطينية.

 

ويقول الديب الذي يتلقى راتبه من حكومة الوحدة الوطنية المقالة، بعد قطعه من الحكومة الفلسطينية في رام الله جراء التزامه بالدوام الحكومي "إنّ تجربة الحرب كانت صعبة"، فهو ما يزال يحمل في داخله العديد من "ذكريات الحرب السوداء".

 

ويتابع فتحي الديب "لقد صُعقت من هول المشاهد التي رأيتها بالإضافة إلى عدد القتلى الذي لم يسبق وأن حدث في هكذا فترة قصيرة".

 

وأكثر ما يؤثر في الديب ليس فقط المشاهد التي كانت تفجعه خلال عمليات التنقيب أثناء العدوان وما بعده؛ وإنما أولئك الذين من استشهدوا وهم ينتظرونه، دون أن يتمكّن من الوصول إليهم بسبب كثافة النيران وإطلاق النار من قبل الجيش الإسرائيلي.

 

وبعد مرور سنة على العدوان؛ لا يزال الديب الذي يعيل أسرة مكوّنة من سبعة أفراد؛ يعمل على جرافته في إزالة الركام الذي أحدثته آلة الحرب الإسرائيلية. وهو يدرك في أعماقه أنّ جيش الاحتلال ما زال يتربّص بأهل غزة الدوائر، وقد لا يستغرق الأمر طويلاً حتى يعود الجيش إلى هوايته المفضّلة في الاقتناص من الجمهرة؛ الذين ستحوِّلهم صواريخه وقذائفه إلى أشلاء، بانتظار جرّافة تحملهم إلى مدافن جماعية.