خبر غزة 2009: عدوان بالبث المباشر أشغل غضباً عربياً وإسلامياً ورسم مآلات حسّاسة

الساعة 11:49 ص|14 يناير 2010

 

غزة 2009: عدوان بالبث المباشر أشغل غضباً عربياً وإسلامياً ورسم مآلات حسّاسة

فلسطين اليوم- بيروت

عندما تمطر السماء حمماً على غزة؛ فإنّ الأرض كفيلة بأن تتزلزل تحت الأقدام في عواصم المنطقة العربية والإسلامية. هذه هي الرسالة التي أصبحت واضحة بالنسبة للمراقبين، منذ تجربة غزة، خلال العدوان الإسرائيلي عليها في الشتاء الماضي.

 

فما إن شنّ الطيران الحربي الإسرائيلي غاراته المباغتة على القطاع المكتظّ باللاجئين؛ حتى اندلعت موجة غضب جماهيري عارمة، على امتداد العالم العربي والإسلامي من موريتانيا إلى إندونيسيا، مروراً ببلدان كانت في ما مضى هادئة نسبياً فاكتظت ميادينها بالمتظاهرين والمعتصمين، الذين اختلطت صرخاتهم بالدموع، وهم يواكبون ما يجري بحقّ القابعين تحت الجحيم في غزة.

 

فما لم يكن بوسع القيادة الإسرائيلية التحكّم فيه؛ هو لغة الصور والمشاهد الحيّة التي عايشها كلّ بيت عربي ومسلم على مدار ثلاثة أسابيع. فدويّ القصف الحربي كان يتردّد في ردهات الجلوس على مدار الساعة، أمّا مشاهد الأشلاء والأنقاض فقد حملها المنصرفون من أمام شاشات التلفزة كلّ ليلة إلى غرف نومهم، لتقلق منامهم وتقضّ مضاجعهم.

 

إنها حرب بالبثّ المباشر وعلى مدار الساعة؛ جعلت وقائع غزة الدامية حاضرة تماماً في الوعي الجمعي للجماهير العربية والمسلمة، التي ثارت ثائرتها كلّ على طريقته، فشرعت في التضامن مع غزة، تارة بالتظاهر، وأخرى بمحاصرة سفارات إسرائيلية، ومرّة بتنظيم فعاليات شعبية، وغيرها بالتبرع السخيّ.

 

لكنّ ذلك ظلّ أقلّ السيناريوهات حدّة، فالجماهير آخذة منذ تلك الحرب بالتعرّف على كوامنها الذاتية بشكل متزايد، بما يجعل أيّ عدوان إسرائيلي جديد مكللاً بمفاجآت جماهيرية غير محسوبة، وفق بعض التقديرات. فالأتراك الذين اندفعوا بالملايين إلى ميادين اسطنبول وأنقرة لن يتردّدوا في تصعيد تحرّكاتهم الجديدة إذا ما اشتمّوا في الأفق دخان قصف آخر. أمّا الجماهير العربية التي تعاركت بما يكفي في ملاعب الكرة فقد تصبّ جام غضبها بعيداً عن قمصان اللاعبين. وحتى الخليج الهادئ الذي جرّب الفعاليات الاحتجاجية في العدوان الماضي؛ قد لا يظلّ هادئاً في ظلّ أية معايشة متجدِّدة. كما لا يبدو أنّ إندونيسيا وماليزيا بعيدتان جغرافياً عن الشرق الأوسط الملتهب، بل قد تلتحمان به في ساعة الحقيقة.

 

بالنسبة للجانب الإسرائيلي؛ فإنّ خبرات العدوان على غزة التي تكرّست في وعي أجيال بأكملها في المنطقة، لم تدع من فرصة لأن ترحِّب هذه الأجيال بأيِّ سلام أو تطبيع مع هذا "العدو الذي يسحق الأطفال" وتلك القوات التي "تقترف أبشع جرائم الحرب بحق أشقائنا" في غزة. وقد كان مثيراً للسخرية ذلك الأداء الدعائي الذي دأب عليه المتحدثون الإسرائيليون خلال الحرب، بدءاً من رئيس الدولة العبرية شمعون بيريز، وانتهاء بناطقي وزارة الحرب والمعلِّقين شبه الرسميين. لقد بدت محاولة إقناع الجماهير العربية بسلامة صدر القيادة الإسرائيلية وعدم عدوانية سلوكها الحربي بحقِّ المواطنين الفلسطينيين في قطاع غزة؛ أشبه بسيْل من النكات، وهو تماماً ما فعلته بعض الفضائيات العربية عندما مزجت الأقوال بالأفعال، لتُظهِر بلغة الصورة تناقضات إسرائيلية صارخة إلى حدّ يثير التندّر.

 

وعملياً؛ فإنّ بقاء سفارات إسرائيلية في مكانها جرى بأعجوبة، وربما لم يكن متيسِّراً لو تمادى العدوان أياماً إضافية. كما أن مدى الحراك الجماهيري كان سيتطوّر على الأرجح لو تمادت آلة الحرب الإسرائيلية أسابيع زائدة في عمليات القصف المتواصل.

 

مع ذلك كلّه؛ فقد لا يكون المأزق المباشر متعلِّقاً وحسب بالجانب الإسرائيلي، الذي خسر بحملاته الحربية وجرائم الحرب المتلاحقة أيّ رصيد يمكن البناء عليه للتسوية والتطبيع مع الشعوب العربية والإسلامية؛ بل هو في الأساس مأزق جوهري لكثير من الحكومات التي تزداد الفجوة التي تفصلها عن نبض شعوبها عمقاً. فالمأزق يتعلّق بالعواصم التي ظلّت متمسكة بمبادرة السلام العربية نحو الجانب الإسرائيلي، وبقي قادتها ومتحدثوها يجيدون التعبيرات الدبلوماسية التي تنتقي الكلامات المتعلقة بالإعراب عن "الانشغال والقلق" بحذر بالغ. إنه مأزق ناجم عن نظم سياسية وقيادات رسمية لن تكون في الخندق المعنوي ذاته لشعوب غاضبة؛ تريد من مسؤوليها أن يكونوا "في مستوى التحدي" وأن يخرجوا من ما تبدو حالة انكفاء وعجز المزمنة.

 

لقد أظهرت تجربة الشتاء الماضي، لقطاعات واسعة من الشعوب العربية، أنّ المستوى الرسمي العربي أعجز من أن يحرِّك ساكناً أو يسكِّن متحرِّكاً، وربما تبيّن لبعض العرب أن لا حصانة لأي شعب في المنطقة من عدوان إسرائيلي محتمل ولو جرى بالبث المباشر، فالحرب كفيلة بأن تبلغ أقصى مدى زمني دون أن تستدعي ولو عقد قمّة عربية جامعة.

 

وبينما تتعاظم خيبات الأمل الشعبية؛ يظلّ التلويح الإسرائيلي المتكرِّر بعدوان جديد على غزة، كفيلاً بأن يطلق أجراس التحذير في عواصم عدّة على امتداد المشهد العربي والإسلامي، لأنّ خبرات الشتاء الماضي تجعل المآلات مفتوحة على مفاجآت، قد لا يحتملها الجميع.