خبر الجيش ثانياً.. والمقاومة أولاً ..نصري الصايغ

الساعة 12:04 م|09 يناير 2010

الجيش ثانياً.. والمقاومة أولاً ..نصري الصايغ

 

يثير كتاب «أسس سياسة الدفاع اللبنانية» الذي أعدته مؤسسة «أنيغما»، من خلال أوراق عمل سياسية وعسكرية واقتصادية واستراتيجية، من تيارات متباينة، إلى صعوبة بلوغ مرحلة رسم سياسة دفاعية للبنان. كون «الحامل اللبناني»، مرهقا بما دون ذلك، ومرتبكا بما دون الدفاع عن لبنان. وعليه، فلا بد من أسئلة كثيرة:

أولا: كيف نؤسس لسياسة دفاعية، في مجتمع اللادولة؟ فلبنان، في صدد تكوين الدولة، وهو في هذا المسعى متعثر، منذ ولادتيه: الأولى مع غورو، والثانية بعد الاستقلال.

ولبنان، في تاريخه الحديث، لم يلتئم على وحدة. فهو متعدد، تعدد التنابذ، وتعدد الاتجاهات المتعاكسة، وتعدد المخاوف المتنقلة بين جماعاته، وتعدد الحصص المجيّرة لغير الدولة، وتعدد الولاءات الطائفية والمذهبية والعائلية. جلّ ما اخترعه «عباقرة» العلم السياسي فيه، ديموقراطية توافقية على قاعدة عدائية، احترازاً من التعدد السكاني فيه لا احتراماً له. وقد تحولت قيمة التعدد الموجودة فيه، إلى تحقيق التبدد. وهذا الامتياز التعددي، في مجتمعات اللادولة، يؤسس لسياسة الحروب الأهلية: لبنان نموذجا متكررا. العراق، نموذجا مدمراً.. اليمن، نموذجا معاداً.. السودان.. إلى... الـ... ومن يظن أن بلده العربي في منأى من التبدد، فإما متعامٍ أو متعامل بنية خبيثة معه، حفاظا على ركام السلطة.

في الكتاب شهادة على ذلك للدكتور علي فياض: «النظام السياسي الطائفي الراهن»، هو صيغة مثلى لاستجلاب التدخلات الخارجية ومحفز لسياسات الاستقواء الطائفي بالتحالفات الخارجية، وبالتالي تعميق تناقضاتها، ورفع مستوى التناحر في ما بين القوى السياسية(...) «ان الاقتراح بتثقيل التوافقية في الديموقراطية اللبنانية، لا يلغي المداخلات الخارجية، كما لا يلغي الصراعات والاختلاف». لذا، فإن بلداً هذه بنيته وهذه أرضية الاقامة فيه، يصعب ان ترسم فيه سياسة دفاعية هو بأشد الحاجة إليها، لاحتضانه أشق نظام من أنظمة الصراع في المنطقة العربية وجوارها الاقليمي، على ما جاء في ورقة ميشال نوفل. فالخارج مقيم عندنا في لبنان إقامة دائمة. كثيف الحضور. شديد التأثير. يثير تموجات متناقضة، ما يجعل لبنان في حالة خطر دائم، جزء من نظام الصراع في المنطقة، بل في قلب النظام، ولا يمكن فصله عنها. وهذا الصراع، ليس محلياً، بل هو جزء من الصراع الاقليمي فالدولي، وهو على خطوط النار كثيراً، أو خلف خطوط الهدنة الهشة دائماً».

وعليه، فلبنان المائع داخليا، المتوتر عنفيا بذاته، تتأرجح فيه السياسات الدفاعية، بين الانخراط في حلف أو تيار، أو بين الامتناع والصد، أو بين استجداء الاعداء للحضور فيه.

شهادة أخرى من الدكتور محمد عباس: هذه الحالة النابذة للوطنية الواحدة، او الوطنية اللبنانية، أباحت الخلاف على الهوية، وهذا الخلاف، «حال دون بناء جيش قوي وقادر». ولا يكفي أن تؤسس جيشاً وتعقدنه بعقيدة قتالية، تضع فيها اسرائيل عدواً، ولا تترجم عقيدة الجيش. عقيدة لا ترجمة لها، طقس يخون المؤمنين بها، وعندما يصبح الجيش، كما يقول عباس، في هذه الوضعية، يصبح عالة على الموازنة، ويتحول إلى متسوّل لمساعدات عسكرية، لا تفي الحد الأدنى من الكفاف العسكري.

شهادة من العميد الركن الياس حنا حول نظرية الدوائر الثلاث، لفهم الجيوبوليتيك اللبناني. يشير العميد هنا إلى أن الضغط الذي تمارسه الدائرة الدولية على الدائرة الاقليمية، يؤدي إلى تفجير بنية الدائرة الصغيرة. فالدفع الدولي باتجاه «السلام»، وفق الصيغ المتداولة والمبهمة والمنحازة لإسرائيل، والمترددة ازاء الضغط على اسرائيل، يخلق في الكيانات العربية توترات. إذ يصبح من الضروري، مقاومة هذا «السلام»، كمقاومة الاحتلال والاستيطان.

يقول العميد حنا: ان دينامية اللعبة بين الدوائر الثلاث، كما صراع المصالح، كما ضرورة توفر ساحة تنفيس الاحتقانين الدولي والاقليمي، جعلت لبنان «مسلخ المنطقة». والغريب، ان هذا النمط من التسليخ، يتكرر، عندما تتبدل أدوات اللعبة أو غاياتها، فالحروب الأهلية اللبنانية، هي نتائج وقوع الدائرة الثالثة الرخوة (لبنان) تحت اثقال التدخلات الاقليمية والدولية، ومحاولة استفادة الأطراف اللبنانية الطائفية المتنابذة، من تغيير اتجاه الرياح الاقليمية، بالفوز بنفوذ سياسي داخل بنية النظام.

لقد انتجت الحروب انتفاضات ومقاومات، فيما أنتج «السلام المتهاوي» الكثير من الخسائر.

نوجز بعض مآثر السلام الدامية.

أ ـ ازدياد قبضة السلطة الأمنية. بعد التوقيع على اتفاقيات سلام منفردة، وقمع الرأي المخالف للقوى الرافضة لهذا النمط من السلام. كما أن من يرفض التوقيع، أو الدخول في العملية السلمية، يزيد من قبضته الأمنية، بحجة أن قوى في المجتمع، مدعومة من الغرب، تدفع باتجاه التنازل من أجل التوقيع.. كارثة في الحالتين.

ب ـ اضطرار الأنظمة إلى تشريع الاستعانة بالخارج لدعم النظام، وحفظ آليات التوريث فيه.

ج ـ انقسام النظام العربي المتداعي، بين معتدل يراهن على التطرف الاسرائيلي، وممانع شديد الحماسة للمقاومة.

د ـ وصول عملية السلام إلى انهيار كامل في فلسطين. فالفلسطينيون في أسوأ أحوالهم، منذ النكبة.

هـ ـ تنامي الحركات الأصولية العنفية، مقابل قحط سياسي، يعوّض عنه استنفار إعلامي/ إعلاني/ أمني/ مخابراتي، يساعد على تنامي الطفيليات المسلحة التي تسمم الأرض والعقل والروح.

فهل الجيش هو عماد هذه الاستراتيجية؟

يستحيل ذلك. فمن خلال الأوراق المقدمة، إقرار بأن الجيش اللبناني، لا يملك القدرة ولا الآلية ولا الاعتدة لذلك، اضافة إلى ان ما قدّم من اقتراحات لتقوية الجيش، يثير الشفقة كثيرا عليه، لأن التعامل معه في بعض الأوراق جاء كأن الجيش يتسوّل، وهو بحاجة إلى النزر اليسير من الموازنة لمشترياته العسكرية، فيما عليه أن يتوقع بعض الاقتطاعات من برامج الدعم (باريس 2 و3) والتبرعات من قبل المواطنين، كأنه مؤسسة من مؤسسات الصليب الأحمر.

يقول الدكتور عباس: ما يتحدثون عنه من استعداد لتسليح الجيش من الدول «الصديقة» وتزويده بكل ما يحتاج إليه، هو في منتهى السخرية والسذاجة، واستهانة بعقول اللبنانيين. اعتماد الجيش على فرنسا وأميركا لن يوصل إلى أي مكان. السلاح ضد اسرائيل ممنوع. وعليه، فهو يقدم أطروحة تحاول تقريب عمل الجيش، من أنماط العمل العسكري لدى المقاومة، في حالات عديدة.

ان جيشاً يُتعامل معه على هذه الطريقة، ليس جيشاً للبنان الذي يعيش في قلب الصراع، والصراع يعيش في جوانيات قلبه. جيش بهذه العباءة، يصلح للمراسيم و«المارشات» العسكرية ومساعدة قوى الأمن الداخلي. ناهيك بأن جيشاً في مجتمع ينقسم، مهدد باستمرار بأن ينعكس انقساما بين صفوفه، من فوق إلى تحت. والتجربة أكبر برهان. وأفضل حل للجيش في حالة نزاع داخلية، هو اقالته او استقالته بقرار من قيادته من مهماته الداخلية، خوفاً عليه وخوفا منه.

أشارت أوراق كثيرة إلى ما قامت به المقاومة: أوجز بعضها في ما يلي: (يمكن مراجعة نصي حنا وعباس).

ـ حررت الأرض بكاملها تقريبا في العام 2000.

ـ منعت انتصار اسرائيل في تموز 2006.

ـ تملك قدرات تفوق قدرات دول عربية.

ـ تجد دعماً قوياً من قبل إيران الاسلامية الحديثة ودمشق، واسطة العقد الاستراتيجي.

ـ محتضنة من بيئة، بيئتها تشبه «مجتمع حرب صغيرا».

لذا فالمقاومة أولا، وما تبقى ثانيا.

وعليه، فإن عملية الدمج بين الجيش والمقاومة، مستحيلة. إضافة لواء إلى الجيش، بما هو عليه، نكتة تثير الهزء لا الضحك. ان طرق خوض الصراع مع العدو التي ابتدعتها المقاومة، أثبتت نجاعتها وتفوقها وفرادتها.

ان اخضاع الجيوش، في حروب جوية، أمر سهل. « تمّ اخضاع جيش يوغوسلافيا بأربعة آلاف غارة جوية، وإخضاع الجيش العراقي (مليون جندي) بعدد مماثل من الغارات والقنابل الذكية. ولم تستطع اسرائيل بـ15 ألف غارة جوية و6 آلاف من القنابل الذكية و175 الف قذيفة مدفعية من اخضاع المقاومة في خلال عدوان تموز 2006، وهُزم جيشها الذي لا يقهر أمام بضعة آلاف من رجال المقاومة. فالمقاومة، وهي بنت اللادولة، قادرة على الدفاع.

لماذا؟

غياب الدولة عن مهماتها، وفشلها في ادارة أمور الناس، يشجعان قوى اجتماعية على تبني بعض أدوار الدولة. الدولة الفاشلة ترخي العنان لنجاح وتجارب خاصة ، في الاستشفاء والتعليم والبيئة و...الدفاع عن الأرض والانسان. الدول العربية فاشلة، ولبنان أشدها فشلاً، فكيف نمنع قيام مقاومات ناجحة؟

البديل الطبيعي، لهذا الغياب، قيام مؤسسات بديلة. البلاد العربية في مسألة التحرير، انتظمت جيوشاً، وظيفتها حماية الأنظمة أو الانقلاب عليها. فعندما تخلت الأنظمة عن مسؤولياتها، توزعت الأسلحة على منظمات الحروب الأهلية والطائفية.

الدولة الفاشلة، أفضل منها المقاومة الناجحة. ولبنان، في قلب الصراع، غير قادر على ادارته، موحداً، فلا بأس ان تصدّت فئة منه، للعب هذا الدور بنجاح.

هل تُعتمد المقاومة كرديف أو بديل؟

يبدو لي، أن المقاومة هي الأساس... والجيش، بحالته هذه، وبتحسينات على عديده وعدته وآليات عمله وتكتيكاته، يكون رديفاً: كي لا يُذبح في أول معركة عسكرية.