خبر في قلب غزة شأنها وشجونها...علي عقلة عرسان

الساعة 04:27 م|08 يناير 2010

في قلب غزة شأنها وشجونها          

علي عقلة عرسان

حاولت أن أبتعد في حديثي هذا اليوم عن غزة وشؤونها وشجونها وحصارها وجدران من الفولاذ والكراهية تقام حولها، لتصبح سجناً كبيراً ومقبرة للمقاومة ومن يطلب الحياة والحرية والغوث والعدالة الإنسانية ويرفع راية الحق والوطن والكرامة.. حاولت ذلك لكي أتناول الركض العربي الغريب المريب، وكثير من الركض العربي أصبح في هذا الزمن مريباً، وراء "مبادرة" أميركية، عُمِّدت باسم دولة عربية، تقول باستئناف المفاوضات الإسرائيلية ـ الفلسطينية حول ما تبقى من أرض وأحلام، أو قل قضية وأوهام، من أجل التوصل، خلال سنتين، إلى حلول "مقبولة؟" وتصفيات يقولون إنها "معقولة!؟" لقضية فلسطين ـ وما في قضيتها من معقول سوى استعادتها بكل السب بتصميم الأمة ـ لكي أقول إن ذلك مما سبق أن شربناه من يد الأميركيين كلما أرادوا أن ينفذوا مرحلة من مراحل خططهم واستراتيجياتهم ومشاريعهم ومصالحهم ضد وطننا وأمتنا، وإنه تمويه مدروس، وتحرك أميركي ـ صهيوني معهود، يرمي إلى شد النظر العربي والإسلامي والدولي بعيداً عن " تعميد أنظمة وحكاماً"، وتوظيف مزيد من الدول العربية والإسلامية في حروب بالوكالة، تخوضها نيابة عن الولايات المتحدة الأميركية والمشاريع الصهيونية، لقاء مال وحماية، حروب تؤدي إلى احتلال الإرادات وتوظيف حكومات بلدان وقياداتها وطاقاتها وقواتها ضد نفسها وضد أمتها، في عملية إهلاك تبدو لهم خياراً ذاتياً ودروب نجاة، وما هي إلا أحد فصول إنهاك الأمة وانتهاكها، مما هو مكشوف ومعروف في أساليب الغرب الاستعماري، وبغيض إلى نفس كل وطني حر نظيف.. ولكن، ويا للأسف الشديد، يقبل عليه قوم منا إقبال الفراش على لهب السراج ليحترق هناك وينسى.

إن الولايات المتحدة الأميركية، بقيادة الرئيس أوباما، صبغت جلدها ولم تغيره، فمؤسساتها الحاكمة أقوى من الرئيس حتى لو أراد غير ما تريد، وأنها غيرت نهجها و" تكتيكها" ولم تغير استراتيجياتها وأهدافها البعيدة التي ترتبط عضوياً بالمشروع الصهيوني وأهدافه في فلسطين والبلدان العربية الأخرى، وضد العروبة والإسلام معاً.. إن تلك الإمبراطورية التي يتضخم فيها لطمع والشر، لم تعد تحتمل خسائر بشرية ومالية أكثر مما احتملت في عدوانها على بلدان عربية وإسلامية، ورأت أن سياساتها واحتلالها المباشر وقتالها ضد عرب ومسلمين مكلف، وأن خيراً منه، في حساب الربح والخسارة، أن تطبع مزيداً من الدولارات الورقية وتشعل بها سُرُجاً يتهاوى عليها عرب ومسلمون تهاوي الفَراش على لهب السُّرُج، فيحترقون وتحترق بلدانهم وأمتهم وهويتهم ومصالحهم وعقيدتهم..إلخ وتبقى السيطرة والهيمنة والنفوذ لمن يملك أن يرفع فتيل السراج ليزيد توهج النار، أو يخفضه، حسب الحاجة، أو يطفئه بعد تحقيق النتائج والأهداف، أي لها أن السيطرة والتحكم التام لها هي. إنها تريد أن تنتصر في حروبها وأن تنجح في تحدياتها ورهاناتها، وأن تؤمن مصالحها، وتفرض هيمنتها على العرب والمسلمين في بلدانهم.. فذاك هدف استراتيجي لا رجعة عنه ولا تغيير فيه، وإنما التغيير في الوسائل والأساليب والأدوات التي تؤدي إلى الوصول إليه.. ولذا لجأت إلى المال الذي حيَّدت بواسطته من قبل دولاً وأبعدتها عن أمتها وقضاياها المصيرية، لجأت إلى مال مشروط الدفع، تقدمه للحوكومات في باكستان وأفغانستان واليمن..إلخ ولكل من يدور في فلكها، ويشعل حرباً بالوكالة عنها، أو يقوم بالانضواء تحت لوائها محارباً بوسائل أخرى، ويفتح لها أبواب بلده ويسلمها مفاتيح تلك الأبواب. ومن ثم فهي حرب تزيد الضعيف الذي يشتري المال بالدم والمعاناة.. ضعفاً، وتبقيه مزعزعاً وتحت السيطرة ورهن الأوامر.. بل تدمره من الداخل، مادياً وروحياً، اجتماعياً وثقافياً ونفسياً، لكي تبقى هي سنده والقابض على عنقه والمحدد لتوجهاته وخياراته، يعتمد عليها فتبقيه وتعطيه على أن يريق دم أخيه، ويضعف أمته، ويقتل بنيه..!! إنها قصة البؤس والقحط الروحي لدى أنظمة وأشخاص، والقصور عن رؤية الأمور بعيني "زرقاء يمامة".. رؤية تشف وتكشف وتبصِر وتتبصَّر. ولكن يبدو أن القصة المعروفة تتجدد، وسدنتها من الكبار والصغار يمسكون الأعنة ويضربون بطون الخيل ويهرعون في سباق يحدد مضماره وجائزته وتوقيته.. عدو الأمة العربية الذي يستهدف هويتها ودينها ومصالحها.. وهي قصة البؤس التي تطحننا، ولا نكاد نعيها ونخرج منها حتى نندفع من جديد إلى التردي في مهاويها بشكل أو بآخر، تحت هذه الذريعة أو تلك.

   كنت أنوي أن أبتعد عن غزة، شأنها وشجونها وعن الدمع والدم في عيونها، في حديثي هذا اليوم، كما أسلفت، لكي أكتب في الموضوع الذي أشرت إليه آنفاً.. لكنني وجدت نفسي أقترب من غزة كلما حاولت الابتعاد عنها، وأنني في قلبها.. في شوارعها ومخيماتها ومشافيها ومزالق دروبها ومع صياديها على شاطئها الحزين.. لأن الدم الذي سال في مواجهات بين قافلة شريان الحياة و شرطة مكافحة الشغب المصرية في ميناء العريش من جهة، وبين غزاويين والشرطة المصرية على الحدود، عند بوابة صلاح الدين من جهة أخرى، حاصرني أيما حصار، وألزمني بأن ألتفت إلى الرصاص والعصي والحجارة، وإلى الوجوه التي جاءت لتُغيث المحاصرين في غزة وتقف ضد المحتلين الصهاينة الذين يفرضون على أهلها العقوبات الجماعية، وبرامج الإبادة البطيئة، والموت صبراً.. فوجدَت نفسها عند بوابات ميناء العريش.. مدمَّاة، ومحاصرة بالكراهية والاتهام، تطلب الغوث والنُّصْرة على من كانت تظن أنهم غوثها ونُصرتها، وسند  أهل غزة المظلومين المحاصرين في مأساتهم الكبرى.

وجدت نفسي في قلب الحصار لا أريم، ولا أستطيع فكاكاً مما فُرض على الناس هناك وأدي إلى جراح عميقة في المشهد والجسد والثقة والقلب والروح، بين من يفترَض فيهم أن يكونوا صفاً واحداً ضد العدوان والاحتلال والقهر والحصار الصهيوني البيّن المرامي والأهداف والمظالم.!! ووجدت نفسي أستمع لاتهامات متبادلة جلها يقود إلى تعميق الجرح، والبعد عن الصواب، وطمس الحقائق، وتعقيد المشكلات وربما إلى إشعال نار الفتنة بين المتضررين من القهر والعدوان ومنطق القوة والظلم والعنصرية البغيضة، وكل ما يمثله الكيان الصهيوني وتاريخه في هذا المجال وهذا الوقت وهذا الحدث وسواه من سوءات وجرائم يندى لها جبين الإنسانية خجلاً، ويناصرها أو يسكت عليها من يشاركونه ممارساته أو يسكتون عنه وعنها خوفاً وطمعاً.

لقد هالني وآلمني وأوصلني حدود الضنك الشديد، أن أرى وجوهاً من وجوه الذين حملوا المساعدات الإنسانية إلى أهلنا في غزة، معفَّرة بالدم، وأن أسمع وصفاً يطلق على كل من جاء في القافلة الشريفة، قافلة شريان الحياة، مفاده أنهم "صُيَّع" جاؤوا ليفتعلوا المشكلات والأزمات..؟! كما هالني أن أستمع إلى أخبار عن قتيل وجرحى وجراح، على طرفي الحاجز بين رفح.. ورفح.. بين مصر وفلسطين.. وعلى جانبي بوابة عبر منها صلاح الدين إلى القدس محرراً منصورا.!!  يا الله إلى أي حد ضاع منا العقل، وفسد الرأي، وتهرَّأ الوجدان، وضمُر الانتماء، وضاقت النظرة، وساء التصرف، وانعدم التمييز.. فأصبحنا ننفذ سياسات لا تخدم سوى عدونا التاريخي، الطامع بأمتنا، الغاصب لحقنا، والمحتل لأرضنا ومقدساتنا.. ننفذ سياسات لا تفتك إلا بنا.. نحن أبناء الأمتين العربية والإسلامية، وبكل من يناصرنا أو يفكر بالوقوف معنا في محننا الكبيرة وامتحاناتنا الكثيرة.؟! وأصبحنا نخوض المعراك الشرسة ضد بعضنا بعضاً ونترك العدو يستفيد من ذلك، ويعد نفسه لهلكنا ويستعد، ويتلهى بنا كيف شاء!!.. فإلى متى نبقى في هذا النوع من القهر والأسر، ومتى نخرج إلى ضوء العقل، ونور الهداية، وسلامة الرأي والرؤية.. أفما آن لنا؟!.

دمشق في 8/1/2010

                                                                                   علي عقلة عرسان