خبر هل غدت « تجارة » الأبحاث الأكاديمية ظاهرةً أم أنها مجرد حالة؟!

الساعة 09:10 ص|04 يناير 2010

فلسطين اليوم / رام الله

"أجرة عمل بحث لمساق أكاديمي في مرحلة البكالوريوس من 50 - 350 شيكلاً، بينما ثمن إعداد بحث للتخرج لنفس المرحلة 700 شيكلاً، في حين سعر رسالة الماجستير 1500 دولار"، هذا ليس إعلان منشور في جريدة يومية، أو على موقع الكتروني، بل هو ما يتم فعله بشكل مستتر بين من امتهنوا الاسترزاق من العلم، وأولئك الذين فضلوا دفع أموالهم مقابل تجنبهم لاشتراطات البحث العلمي، وما يستوجبه من جهد ووقت مطلوبين ليعود للفائدة عليهم.

هذا السلوك يحدث في عدد من المؤسسات الأكاديمية والمجتمعية بفلسطين، ولكن ما يجب معرفته هو: ما طبيعة وحجم هذا السلوك؟ وهل يشكل ظاهرة واسعة، أم مجرد حالات بسيطة، يتم تهويلها؟.. وأيضاً ما هي الأسباب وراء حدوث هذه الحالة أو الظاهرة؟ وما هي أشكالها وتجلياتها وأبعادها؟، ومن هي الجهات المسببة لذلك؟، وأخيراً،هل هنالك آليات أو أدوات مناسبة لمعالجة هذا الأمر.

ظاهرة أم حالة!

بداية، نجد من يعتقد أن هذا السلوك خرج عن إطار الحالة، ليدخل في مسار الظاهرة الخطيرة والمقلقة- كما يرى الباحث محمد خلاف -، في حين يذهب رأي آخر للقول بوجود حالات قليلة وهامشية، وذلك وفق أستاذ العلوم السياسية في جامعة القدس د. عبد المجيد سويلم.

فخلاف يبين أن تجارة الأبحاث غدت منتشرة على نطاق واسع في بعض الجامعات الفلسطينية، حيث يتنافس بعض الذين أتموا مرحلة الدراسة الجامعية الأولى أو الثانية بإعداد أبحاث لطلبة ملتحقين بمرحلتي البكالوريوس والماجستير نظير مبالغ من المال، تتفاوت حسب طبيعة المادة التي سيتم إعدادها، ومدى علاقة الطرفين ببعضهما البعض.

وفي معظم الحالات -حسب ما يقول الطالب حازم علي أبو خليل- يلجأ الطلبة المقتدرين إلى باحثين يرون فيهم القدرة والمهارة على القيام بإعداد المادة العلمية المطلوبة بأسرع وقت، وأكمل وجه، علماً أن غالبية الذين يمتهنون هذه المهنة، هم أشخاص فقراء، وراتبهم لا يكفي لتلبية احتياجات حياتهم المضطردة، أو أولئك الذين تخرجوا ولم يجدوا فرصة عمل.

أسباب

وعن الأسباب الكامنة وراء حدوث مثل هذا "السلوك التعليمي الكارثي على جودة ومستقبل التعليم العالي في فلسطين"، كما تصفه وتراه الباحثة غزالة عرار، فإن د. إياد البرغوثي، أستاذ علم الاجتماع، يعزوه إلى جملة أسباب رئيسة، أهمها: التردي العام لحالة جودة التعليم العالي في فلسطين، بحيث أصبحت الجامعات نتيجة لأوضاعها المالية الصعبة لا تدقق أو "تفلتر" المنتسبين إليها، الأمر الذي أدى لأن يُصبح النظر إلى المستوى الكمي والنوعي سيان، إضافة إلى عدم الضبط الأكاديمي، وغياب القانون أو الضمير، والفقر، والبطالة، وحالة الفساد، و"الفلتان القيمي".

وفي صلة بالأسباب، يرى التربوي محمد شلالدة أن السبب الرئيس لهذه الظاهرة - وفق توصيفه- هو المستوى الأكاديمي للطلبة والأساتذة على حد سواء، والذي أخذ يتراجع بوتيرة سريعة، نتيجة للضائقة المالية التي تمر بها الجامعات، ما أدى بعدد ليس بالقليل من أساتذة الجامعات الفلسطينية إلى عدم مواكبتهم لما يحدث من تطور للعلوم وتوسع في الأبحاث، فضلاً عن وضعهم المالي الصعب، وما نجم عن كلا الأمرين من عدم اهتمامهم المطلوب بنوعية ما يقدمه الطالب من دراسات علمية، يقصروا بالتالي عن التدقيق بها، أو معرفة كنه مصدرها، والتي في كثيرٍ منها يستمد من المواقع الالكترونية دون زيادة أو نقصان.

استطلاع شفوي

هذا السلوك الذي يمكن لنا وصفه بالظاهرة نظراً لنتائج استطلاع شفوي ومحدد، قمنا بإجرائه على عينة تعدادها 35 فرداً، يمثلون أساتذة وطلبة وخريجين وعاملين في عدد من الجامعات"القدس، بيرزيت، القدس المفتوحة رام الله وجامعة النجاح"، وأكد 26 منهم أن هذا العمل وصل إلى حد "الظاهرة السرية، أخذ أشكالاً وتجليات سواء فيما يتعلق من خلال الجامعة، أو عبر عدد من المؤسسات.

حالات وأنواع

فبالنسبة إلى المستوى الجامعي نورد الحالة التالية :"بينما كنت جالساً يوماً في إحدى مكتبات مدينة رام الله مع صديق لي، فإذا به يبادر صديق له كان يبحث في رفوف المكتبة بالسؤال: ماذا تعمل هنا؟ فأجاب: أقوم بإعداد ثلاثة أبحاث!. فضولي الصحافي أجبرني على سؤال صديقي، مستغرباً: ثلاثة أبحاث مرة واحدة! لماذا ولمن؟. صديقي في البداية أصبح يتهرب من الجواب، ولكنه تحت ضغطي وإصراري على معرفة الأمر، قال لي: هذا الصديق تخرج منذ سنتين، ولم يجد عملاً، ما اضطره -وبمعية ثلاثة خريجين يحملون شهادة البكالوريوس، وعاطلين عن العمل، إلى جانب طالب (ماجستير)- لإعداد أبحاث لطلبة بكالوريوس مقابل مبالغ مالية تتراوح ما بين (200-800) شيكل، وهناك حالات عديدة مماثلة قد أُخبرنا عن تفاصيلها، ولكن ضيق المجال هنا لا يتيح لنا سردها.

أما الحالة الثانية، فحصلت من خلال مؤسسة خاصة، ومنطلقها كان تضليل للباحث وخداع للمشرف الأكاديمي. مختصر هذه الحالة يرويها (ح.خ) قائلا:" بينما كنت أعد دراسة مطولة بطلب من مديري العام ليقدمها إلى جهة مانحة -وفق ادعائه- تبين لي لاحقاً أن الغرض من ذلك تقديمها للجامعة لينال درجة الماجستير عليها". ومضيفاً:" لقد شككت في عملية التضليل هذه عندما قدم لي مديري 500 دولار كتشجيع وتحفيز باعتباري موظفاً متميزاً ونشيطاًـ حسب قوله ـ، بينما تيقنت احتياله بعد أن أخبرني صديق بذلك".

وحالة ثالثة، تتجسد من خلال بعض المؤسسات المتخصصة بالخدمات الجامعية، فاستناداً إلى معلومات من أكثر من مصدر تبين وجود (مركزين) يعملان في إطار الخدمات الطلابية، الأول في مدينة بشمال الضفة، والأخر في وسطها، وتكمن بعض مهام القائمين عليهما في الاتجار بالأبحاث، وإعداد واجبات جامعية لطلبة أغنياء أو متوسطي الحال مقابل مبالغ مالية متفاوتة في المقدار.

سبع نتائج

وبخصوص أبعاد وآثار هذه الظاهرة، فإن د.عيسى أبو زهيرة يراها متمثلة في تراجع جودة التعليم العالي وتقلص الثقة بين الأستاذ الجامعي وطلبته وتخريج طلبة غير مؤهلين للانخراط في مجالات العمل المختلفة وخلق حالة من الكسل واللامبالاة لدى الطلبة وتوسيع حيز اقتداء الطلبة بمن يمتهنون هذا السلوك وتراجع قيمة العلم والانتماء له وتقليل عدد الملتحقين بالدراسات العليا وغيرها من النتائج التي تجعل بعض الجامعات مؤهلة (لتفريخ شهادات) لا لتوعية وتمكين خريجين، يخدمون مجتمعهم، ويبدعون في عملهم.

الحل

وبقي الحديث عن إمكانية الحل لهذه المعضلة الأكاديمية والمجتمعية، فيرى د. سويلم أن وضع معايير أكاديمية ضابطة للبحث العلمي، وتفعيل اللوائح القانونية الداخلية للجامعات، وإعادة النظر في فلسفة التعليم العالي بشموليته، وسن قوانين عامة تحرم وتجرم الاستلال (السرقة) والاتجار بالعلم، كلها أمور تقلل من حجم وأبعاد هذا السلوك.

وستظل هذه الظاهرة متسعة في حجمها، وخطيرة في أبعادها على العلم والمتعلم معاً، ما لم تعالج بشكل جاد وسريع من قبل أهل الشأن، لاسيما وزارة التعليم العالي، وإدارات الجامعات. وقبل كل ذلك من أولئك الذين يسترزقون من هذه المهنة الضارة لجودة ونوعية التعليم والخريجين.