خبر دلالات الحالة الجهادية في أميركا .. خليل العناني

الساعة 10:09 ص|30 ديسمبر 2009

بقلم: خليل العناني

قبل أسبوعين تم إلقاء القبض على خلية جهادية أميركية في منطقة لاهور شمال غربي باكستان، وقبل أيام قليلة حاول شاب نيجيري تفجير طائرة أميركية في طريقها من أمستردام إلى ولاية ميتشغن الأميركية وعلى متنها ما يقرب من 280 شخصاً. وإذا ما أضيف إلى هاتين الحادثتين بعض المحاولات الإرهابية الأخرى التي ظهرت في الولايات المتحدة على مدار العام الجاري نكون أمام حالة (أو طبعة) جهادية جديدة تتمدد بسرعة واضحة في معظم أنحاء الولايات المتحدة.

وفي وجه عام يمكن تسجيل ثلاث ملاحظات أولية على هذه الحالة الجهادية الجديدة. أولاً، هناك ارتباط واضح بين هذه الحوادث الإرهابية، ومراكز التجنيد والتعبئة الجديدة في اليمن والصومال وشرق إفريقيا. فالتحقيقات الأولية التي أُجريت حول خلفيات النيجيري عمر الفاروق عبدالمطلب تشير إلى أنه ذهب إلى اليمن قبل شهور قليلة، وأنه حصل هناك على تدريبات عسكرية ضمن معسكرات للقاعدة، فضلاً عن تدربه على كيفية صنع المتفجرات والقيام بعمليات إرهابية. وثمة هواجس قوية بأنه التقى أنور العولقي، أحد المنظّرين الجدد في تنظيم «القاعدة»، والذي يحمل الجنسية الأميركية وكان خطيباً في مسجد «دار الهجرة» في ولاية فرجينيا حتى وقوع هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001.

وإذا ما صحت التقارير التي تتحدث عن وجود علاقة بين العولقي وما قام به الميجور الأميركي نضال مالك حسن أوائل تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي حين قتل 13 شخصاً في قاعدة «فورت هود» العسكرية في ولاية تكساس الأميركية، نكون إزاء تطور نوعى في أداء تنظيم «القاعدة» في قاعدته الجديدة في اليمن التي لم تعد مجرد مركز للتجنيد والتعبئة وإنما أيضاً للتخطيط والتنفيذ.

أما بالنسبة الى الصومال، فيكفي أن نشير إلى أن هناك ما يقرب من أربعة آلاف صومالي قد دخلوا الولايات المتحدة خلال الأعوام الثلاثة الماضية، وهم يضافون إلى نحو مئتي ألف يتمتعون بحق اللجوء السياسي منذ أوائل التسعينات من القرن الماضي. وقد سُجلّت خلال العام الجاري حالات اختفاء للبعض منهم، ثبُت لاحقاً أنهم توجهوا إلى الصومال من أجل القتال في صفوف حركة «شباب المجاهدين» الراديكالية.

وفي حين تشير الإحصاءات الأميركية إلى أن حوالى 51 في المئة من الشباب الصومالي في الولايات المتحدة يعانون الفقر والبطالة، يصل متوسط دخل الأسرة الصومالية إلى 21 ألف دولار سنوياً، مقارنة بمتوسط الدخل الوطني البالغ 61 دولاراً، وهو ما يمثل تربة مثالية لنمو الأفكار والخلايا الجهادية داخل التجمعات الصومالية.

ثانياً، من الواضح أن كل الحالات الجهادية التي تم تسجيلها طوال العام الجاري هي لمواطنين أميركيين، قد يكونون من أصول عربية أو إسلامية، ولكنهم نشأوا وترعرعوا في الولايات المتحدة وتعلموا في جامعاتها، وذلك كما هي الحال مع خلية «شمال فرجينيا» التي تم توقيفها أوائل تشرين الثاني الماضي في مدينة لاهور الباكستانية، وثبُت أنه قد تم تجنيد أعضائها الخمسة من طريق عميل خاص مرتبط بتنظيم «القاعدة» في باكستان. وجميع هؤلاء تتراوح أعمارهم بين 20 و25 عاماً، أي أنهم من جيلي المسلمين الأميركيين الثاني والثالث، الذين تلقوا تعليماً مدنياً حديثاً وشبّوا في كنف الرأسمالية الأميركية بكل منتجاتها. وهو ما يثير تساؤلات سوسيولوجية وسيكولوجية كثيرة حول طبيعة التحول الجذري في شخصية هؤلاء ونمط حياتهم وطريقة تفكيرهم. ولماذا جذبتهم الأفكار الجهادية بعيداً من الأفكار الليبرالية ونمط الحياة الحديثة؟ وهل انتهى الحلم الأميركي بالنسبة اليهم؟

ثالثاً، إن تنامي ظهور الخلايا الجهادية داخل الولايات المتحدة يشير إلى أن تنظيم «القاعدة»، وعلى رغم كل ما يتعرض له من ملاحقات وتصفيات، قد حقق هدفه الأصيل بنقل معركته إلى الأرض الأميركية، وهو ما كان يحلم به زعيما التنظيم أسامة بن لادن وأيمن الظواهري منذ أن دشنوا تنظيمهم في شباط (فبراير) 1998 في ما قد يُطلق عليه «تثوير» الشباب الأميركي المسلم ضد بلاده.

وتبدو مهمة الأجهزة الاستخباراتية الأميركية في تتبع مثل هذه الخلايا وملاحقتها وتوجيه ضربات استباقية لها أمراً معقداً وغير يسير، وذلك إما بسبب عدم وجود سجلات أمنية واستخباراتية لأعضائها، نظراً لكونهم مواطنين أميركيين قد لا يثيرون الكثير من الشبهات حول نشاطاتهم، أو بسبب التطور الهائل في تكتيكات او تقنيات هذه الخلايا والتي تستفيد، في مفارقة صارخة، من أحدث منتجات العقل الأميركي، حيث التحق أعضاؤها بأفضل الجامعات الأميركية. كما أن التكنولوجيا «الإرهابية» قد وصلت إلى قدرات احترافية مخيفة قد تمكّن أي جهادي ناشئ من إرهاب دولة عظمى بأكملها وذلك على نحو ما حدث أخيراً مع عمر الفاروق. الآن، لم يعد تنظيم «القاعدة» في حاجة إلى إرسال جهاديين أجانب للقيام بعمليات إرهابية داخل الأراضي الأميركية، وذلك بعدما نضج جيل جديد من الجهاديين المحليين وبات أشبه بـ «عجينة» طرية قابلة للاستخدام في أي وقت. وهو ما ينهي أسطورة حماية «التراب الوطني» الأميركي التي كانت تروجها إدارة الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش باعتبارها أحد منجزات حربها على الإرهاب. صحيح أن الولايات المتحدة قد نجحت في الحد من قدرات التنظيمات الجهادية الكبرى عسكرياً ولوجيستياً ومادياً، إلا أن الخلايا الجهادية الناشئة لا تزال تمثل تحدياً حقيقياً للآلة الاستخباراتية الأميركية. ومن اللافت في حادثة «ديترويت» الأخيرة هو تكرار الأخطاء الساذجة ذاتها التي وقعت فيها أجهزة الاستخبارات الأميركية عشية هجمات الحادي عشر من أيلول 2001، خصوصاً في ما يتعلق بالتعقيدات البيروقراطية ونقص التعاون بين مؤسسات وأجهزة مكافحة الإرهاب الأميركية. فالنيجيري عمر الفاروق كان تم تسجيله على قائمة الإرهابيين المشتبه بهم قبل شهرين، وذلك حين أبلغ والده السفارة الأميركية في العاصمة النيجيرية «أبوجا» بالتحول الفكري الذي طرأ على ولده خلال الشهور الماضية، وعلى رغم ذلك لم يتم وضعه على قائمة الأربعة آلاف الممنوعين من دخول الولايات المتحدة. تُضاف إلى ذلك الحِرفية العالية للمتهم التي مكنته من اختراق كل الحواجز الأمنية في أمستردام ووصوله إلى المرحلة الأخيرة من تنفيذ مهمته لولا العناية الإلهية.

وحتى الآن، فإن ثمة علاقة واضحة بين ما قام به عمر الفاروق قبل أيام وما حدث قبل شهور قليلة في مدينة «ديترويت» الأميركية حين تم تصفية إحدى الخلايا المتشددة التي كان يقودها «لقمان عبدالله»، وهو أميركي من أصول أفريقية كان يحرّض بعض الأفارقة المتحولين حديثاً الى الإسلام على القيام بعمليات داخل الأراضي الأميركية والاستعداد لإعلان قيام دولة إسلامية هناك. كما أنها لا تنفصل أيضاً عن الحملة العسكرية التي شنتها الحكومة اليمنية، مدعوماً لوجيستياً وعسكرياً من الولايات المتحدة، ضد عناصر تنظيم «القاعدة» التي تجاهر الآن بتهديدها وتحديها النظام اليمني ومن يدعمه. وإذا ثبُت ذلك يقيناً، فإن تنظيم «القاعدة» في اليمن وشبه الجزيرة العربية، يكون قد حقق اختراقاً غير مسبوق على مستوى الخريطة الجهادية العالمية، ودشن نفسه وريثاً رسمياً لتنظيم «القاعدة» الأم في أفغانستان. حتى وقت قريب كانت الولايات المتحدة تباهي الأوروبيين بعدم وجود خلايا جهادية على أرضها كما هي الحال في أوروبا، وكانت حجتها في ذلك الافتخار بمستوى ما حققته الأمة الأميركية من دمج للأقلية المسلمة وانعدام حالات العنصرية والتمييز السياسي والقانوني ضد العرب والمسلمين مقارنة بأوضاعهم في أوروبا. بيد أن ظهور بعض هذه الخلايا في الولايات المتحدة يدفع بضرورة إعادة النظر في وجاهة هذه الفرضية.

وعلى رغم ذلك تظل هناك فروق واضحة بين الحالتين الجهاديتين الأوروبية والأميركية، أولها أنه في الحالة الأوروبية ثمة تمدد واضح للتيار السلفي بكل أطيافه بدءاً من السلفية الساكنة كما هي الحال في فرنسا مروراً بالسلفية الجهادية والراديكالية في بلدان مثل بلجيكا وهولندا وإسبانيا، ونهاية بجماعات التكفير والهجرة التي توجد في بلد مثل بريطانيا. وهو ما يمثل رافداً مهماً وقوياً للحركة الجهادية في أوروبا في وجه عام. بينما لا يوجد مثل هذا التيار بأطيافه المتنوعة في الولايات المتحدة على الأقل حتى الآن.

ثانيها، أن الدافع الرئيس لنمو الحركات الجهادية في أوروبا يرتبط في الأساس بقضايا رمزية وثقافية و «هوياتية»، وهو ما يتوازى مع تزايد حالات الاحتقان والتشنج بين المجتمعات الأوروبية وأقلياتها المسلمة، ما يمثل مخزوناً استراتيجياً يمكن تنظيم «القاعدة» توظيفه وإشعاله في أي وقت. في حين أن الدافع الرئيس للجهاديين الأميركيين يتمثل في أخطاء السياسة الخارجية الأميركية وما نجم عنها من مآس وكوارث في أكثر من بلد عربي ومسلم، ما يشكل مبرراً قوياً لكثير من شباب الجهاديين إلى الانتقام من الولايات المتحدة.

ثالثها، أن الحالة الجهادية في أوروبا هي حالة طاردة وليست جاذبة للجهاديين من خارج القارة الأوروبية، فكثير من المقاتلين الأجانب في صفوف القاعدة وطالبان وإن كانوا من أصول عربية ومسلمة، إلا أنهم ترعرعوا تنظيمياً وفكرياً وسياسياً في أحضان مجتمعاتهم الأوروبية، وشبّوا على أدبيات وأشرطة شيوخ وفقهاء متطرفين دينياً وسياسياً. بينما الحالة الجهادية في أميركا تبدو جاذبة لكثير من الجهاديين، سواء رغبةً في استهداف «الشيطان الأكبر» والانتقام منه لأسباب عقائدية وسياسية وإعلامية، أو بسبب حداثة التجربة الأميركية في مواجهة التنظيمات الجهادية المحلية.

ومن المتوقع أن تضع الحالة الجهادية الأميركية الرئيس الأميركي باراك أوباما في مأزق شديد، ليس فقط بسبب الانتقادات التي ستوجّه الى استراتيجيته في الحرب على الإرهاب، وإنما أيضاً لأن تهديد الأمن القومي الأميركي لم يعد يأتي من منطقة القبائل على الحدود الأفغانية – الباكستانية، بل من داخل الأراضي الأميركية ذاتها.