خبر الشيطان الأكبر والشيطان الأخطر .. غسان شربل

الساعة 11:23 ص|28 ديسمبر 2009

بقلم: غسان شربل

كان يمكن لذكرى عاشوراء في إيران ان تكون مختلفة. ان تغص الشوارع والساحات بالمشاركين. وأن يرتفع بحر من القبضات. وأن تدوي الهتافات منددة بـ «الشيطان الأكبر». وان تجدِّد الحناجر قسم الولاء للثورة والمرشد. كان يمكن ان تكون مجرد تكرار لصورة القلعة التي لا تواجه إلا رياح الخارج.

كان المشهد مختلفاً. في طهران ومدن أخرى. ألغيت إجازات رجال الشرطة. واستنفرت المستشفيات. واكفهرت وجوه رجال الباسيج. اندلعت المواجهات وتسربت المشاهد. على رغم محاصرة الصحافيين الأجانب. واعتقال خطوط الأنترنت. انهالت الثورة على شبان ولدوا في ظلها بالهراوات. والغاز المسيل للدموع. ولم يغب الرصاص وحصد حفنة من المحتجين. وبدا الدم واضحاً في صور هرّبت إلى الخارج.

من التسرع القول إن نظام الجمهورية الإسلامية يتهاوى. وإنه لم يبق له غير خيار الاستسلام. وإن ثمرة الثورة نضجت بما يكفي لسقوطها. وإن العد العكسي للتغيير الكبير قد بدأ. في مثل هذا الاستنتاج تجاهل لحقيقة ميزان القوى. وإنكار لامتدادات النظام ومؤسساته داخل المجتمع. المؤسسة الدينية. ومؤسسة الحرس الثوري والباسيج وغيرها. وشبكة المصالح الواسعة والمتداخلة.

ومن التسرع أيضاً تصديق الروايات الوافدة من المطابخ الرسمية. إن الشبان المتظاهرين أقلية معزولة. خدعتها أبواق الدعاية المسمومة. ووقعت في حبائل المستكبرين والمنافقين. وإن السفارات تحركهم مستخدمة سلاح الأنترنت. وتخترع لهم رموزاً وأبطالاً. وإن العاصفة التي يتسلى الغرب بمتابعتها او الرهان عليها ليست سوى زوبعة في فنجان. والحقيقة هي أن المسألة أبعد. وأكبر. وأعمق. وأخطر. هذا مع ضرورة التنبه الى عدم الإفراط في التوقعات والاستعداد لبدء الاحتفالات.

من حق القيادة الإيرانية ان تقلق. ليس بسيطاً ان تدوي في طهران هتافات من نوع «الموت للديكتاتور». وان يكون المقصود هو الرئيس محمود احمدي نجاد. الرجل الذي حمل «أمراء الحرس» الى مواقع مفصلية في ماكينة الجمهورية. الرجل الذي لا ينفك يفاخر بأن بلاده هي الدولة الأهم في المنطقة. ويعتبر نظامها مصدر إلهام يقضُّ مضاجع الاستكبار.

ومن حق القيادة أن تقلق أكثر. لأنها لم تلتقط مغزى رسالة الاحتجاج التي وُجِّهت اليها غداة إعلان فوز احمدي نجاد بولاية ثانية. وبغضِّ النظر عما اذا كان التزوير قد حصل وبغضِّ النظر عن حجمه. حرمت طريقة التعاطي مع الاحتجاجات المرشد من أقوى أوراقه. البقاء فوق صراعات أبناء الثورة ولعب دور صمام الأمان لدى اشتداد الأزمة. وهكذا انتقل المحتجون لاحقاً الى طرح تساؤلات عن دور المرشد وحدود هذا الدور.

يمكن القول إن القيادة الإيرانية ارتكبت خطأ أكبر حين عطَّلت صمامات أخرى للأمان. تعاملت لبعض الوقت مع علي اكبر هاشمي رفسنجاني كأنه دخيل على نظام الثورة او متسلل. تجاهلت دوره في التمهيد للولادة الى جانب الخميني ودوره بعدها. تعاملت مع الرئيس السابق محمد خاتمي بالأسلوب نفسه متجاهلة ان مير حسين موسوي أفاد كثيراً من إصرار المحافظين على إفشال تطلعات خاتمي الإصلاحية يوم كان رئيساً. ارتكبت الخطأ نفسه مع مهدي كروبي وآخرين.

لا يمكن هنا تجاهل عامل آخر. تعامل باراك اوباما بذكاء مع الملف الإيراني. مدَّ يده داعياً الى مفاوضات تحترم المصالح وحق الاختلاف. لم يسارع الى اعتماد لغة الاشتباك والتهديد والوعيد. تعامل بقدر من التحفظ مع الاحتجاجات الإيرانية. بدا معنياً بكبح الطموحات النووية الإيرانية وغير منخرط في مشروع لإسقاط النظام. هكذا احتفظت «الحركة الخضراء» بطابعها الوطني الداخلي.

يمكن القول إن النظام الإيراني يواجه أزمة داخلية غير مسبوقة. مخاطبة المحتجين بالهراوات والرصاص ستزود «الحركة الخضراء» بمزيد من الشهداء والرموز والغضب. الاستمرار في تعطيل صمامات الأمان لا يَعِدُ بغير تعميق الأزمة. المشكلة الآن ليست مع «الشيطان الأكبر». تقول التجارب إن «الشيطان الأخطر» يأتي من الداخل. من سوء التفاهم القائم بين نظام الثورة وملايين الشبان الذين ولدوا بعد انحسار حرارة جمر الأيام الأولى وسقوط الكثير من الشعارات في امتحانات متلاحقة. إن المبالغة في إقفال النوافذ قد تحمي من «الشيطان الاكبر» لكنها تفتح الباب لولادة «الشيطان الأخطر» الذي يأتي دائماً من الداخل. والخوف هو ان يهرب النظام الإيراني من شيطان الداخل الى أزمة كبرى مع الخارج لاعتقاده ان المعارك مع الخارج تعيد ترميم القلعة.