خبر أشواق لغزة .. هآرتس

الساعة 09:24 ص|28 ديسمبر 2009

بقلم: جدعون ليفي

في ليل السبت الماضي هتف الهاتف في بيتي: منير. لم نتحدث منذ بضعة شهور، وكل حديث معه يثير فيَّ اشواق قوية. في الشهر الماضي تمت ثلاث سنين منذ التقينا آخر مرة. أتذكر ذلك جيدا: سافرنا معا الى روضة اطفال انديرا غاندي، وهي صاخبة الروضة التي سماها والداها كذلك باسم الزعيمة الهندية، في بيت لاهيا. قبل ذلك بيومين اطلق الجيش الاسرائيلي صاروخا قرب الحافلة الصغيرة التي اقلت صغار الروضة قتل طالبين، وسابلة والحاضنة الشابة نجوى خليف ازاء نظر الاطفال العشرين الذين كانوا في طريقهم الى الروضة.

عندما قدمنا على الروضة الجميلة، التي اعتني بها بتبرع من المانيا، أرتنا غاندي صورا رسمها اطفالها الصغار: اولاد مطروحون في الشارع ينزفون، ومربية حضانة غارقة في دمها، وطائرة ودبابة تمطرانهم بالصواريخ والقذائف. هكذا نشأ اطفال روضة انديرا. هذه آخر ذكرى لي من غزة. منذ ذلك الحين لم يسمح لي بزيارتها.

اسرائيل تمنع الصحفيين الاسرائيليين منذ اكثر من ثلاث سنين زيارة غزة، ولا يتأثر أحد بهذا التعتيم الاعلامي الفاضح. لم يكن هناك صحفي اسرائيلي منذ اكثر من ثلاث سنين، لكن لم يسمع صوت احتجاج من اناس وسائل الاعلام. فمن يريد زيارة غزة؟

عندما هاتف منير ارتجف صوتي. أجل أنا اشتاق منيرا ومشاهد غزة. يكاد يكون من الداحض ان تكتب للاسرائيليين عن الشوق الى غزة التي هي في نظر اكثرهم "وكر قتلة". ان من زارها مدة سنين فقط والذي رأى غزة في جمالها وقبحها، وفي عجز سكانها وقوتهم العجيبة يستطيع أن يفهم الشوق الى غزة. انا اشتاق غزة وناسها ومناظرها وشاطئها وروائحها. انا اشتاق منيرا وسعدا سائقي سيارة الاجرة اللذين اخذاني الى اشد الازقة ظلاما والى اكثر الشوارع خطرا، والى ابعد المخيمات، الى بيوت الثكل والدمار. سافرنا معا مدة سنين لنوثق افاعيل اسرائيل.

بعد سنتين من وداعنا بالاحتضان كالعادة، ربما الى الابد هذه المرة، في نفس نهاية الاسبوع قبل سنة بالضبط انطلقت عملية "الرصاص المصبوب". في يوم السبت السابع والعشرين من كانون الاول 2008 بدأ القصف الجوي الوحشي. في اليوم الاول عد في غزة 225 قتيلا.

كتبت من الغد في صحيفة "هآرتس": "خرجت اسرائيل أمس الى حرب اخرى لا داعي لها خاسرة... مرة اخرى ردودها العنيفة حتى لو كان لها تسويغ تتجاوز كل تناسب، وتقطع كل خط احمر للانسانية والاخلاق والقانون الدولي والحكمة ... الصور التي اغرقت امس الشاشات في جميع انحاء العالم بينت مسيرة جثث وجرحى يطرحون من صناديق سيارات خاصة الى المستشفى الوحيد في غزة الذي يستحق أن يسمى كذلك. ربما يجب مرة اخرى أن نذكر بان الحديث عن منطقة مضروبة بائسة، اكثر سكانها من ابناء اللاجئين، الذين اصابتهم نوائب غير انسانية، وهم محبوسون يقاطعهم العالم منذ سنتين ونصف...".

في الاسابيع التي تلت ذلك اكثرت الحديث بالهاتف الى منير وسعد. كانت تلك احاديث فظيعة، قطعت احيانا بسبب القصف او انقطاع الكهرباء. اصيبت سيارة اجرة سعيد التي ركبناها معا الاف الكيلومترات بصاروخ اسرائيلي. جلس منير في البيت وارتجف خوفا على مصير زوجته الحامل واولاده. عاد ورتل في الهاتف مرة اخرى "صلاة التكفير" التي حفظها عن ظهر قلب عندما عمل قصابا في سوق هتكفا في تل أبيب. لكنه لم يكن أي تكفير لمعاناة سعد ومنير والمليون ونصف المليون الاخرين من سكان القطاع.

في ليل السبت الاخير سمع منير مرة اخرى كما كان من قبل. يحاول دائما ان يصور صورة من غزة. سعد يشكو ومنير يشجع، كان هذا تقاسم الادوار بينهما دائما، السائق الذي يرى التفاؤل والسائق الذي يرى التطير.

سعد في سيارة سكودا الجديدة نسبيا، ومنير في سيارة مرسيدس القديمة جدا، مع مليون الكيلومترات التي قطعتها. لا يكادان يسافران الان، فهما يجلسان في حاجز ايرز وينتظران ايام افضل يشك في أن تأتي. فالصحفيون الاجانب لا يكادون يأتون غزة ايضا.

تحدث منير في ليل السبت الاخير عن انقطاع الكهرباء الدائم في بيته: نصف يوم او يوما كاملا في البرد والمطر. ان قطع السيارات المهربة بالانفاق ذات نوعية رديئة. يقول منير لا يكاد ينقص شيء لكن اسعار المنتوجات المصرية الفاسدة في السماء. كذلك لم يشكُ عندما ملأ حاوية وقود سيارة المرسيدس بزيت الطبخ. قال منير دائما ان افضل ايامه كانت ايام الاحتلال الاسرائيلي الكامل لغزة، بلا حواجز وبلا فتح وبلا حماس. والعمل في سوق هتكفا والامل الكبير، والانفاق على الاولاد والحرية النسبية، في سيارة سكودا ومرسيدس،  التي ساخت مرة في رمل غزة عندما أتينا لتوثيق اصابات قذائف البلاشت الاسرائيلية، التي زرعت في الاجساد والجدران آلاف المسامير الحديدية. دفعنا مع استاذ الجامعة اليهودي – الامريكي المتطرف نورمان فينكلشتاين سيارة المرسيديس القاتمة الى شارع آمن. خفنا عندما رأينا آلاف المسامير السوداء التي غرست في جدران البيوت، شهادة دامغة على استعمال البلاشت في تجمعات سكنية لخلاف الحظر.

لم اسافر مرة واحدة فقط في غزة مع سعد ومنير. كان ذلك في تشرين الثاني 1989. اخذني آنذاك وزير الصناعة والتجارة اريئيل شارون في جولة في غزة. اراد شارون ان يبرهن بالعلامات والادلة على انه لا يحل ابدا الانسحاب من غزة. تحدث عن عودة عشرات آلاف من اللاجئين من غزة "الى الناصرة وعكا اللد" كجزء من حل مشكلة اللاجئين. تم استقبال كلامه بهدوء مطلق. الان شارون في غيبوبة في شيبا، وانفصلت اسرائيل عن غزة باشرافه ولم يعد احد في اسرائيل يتحدث عن العودة.

قبل "الرصاص المصبوب" بكثير، كانت المشاهد في غزة اصعب من ان تحتمل. ففي كانون الثاني 2005 التقينا في مستشفى الشفاء اربعة اولاد قطعت ارجلهم بقذيفة اسرائيلية على حقول التوت في بيت لاهيا. اجلسوا في كراسيهم المتحركة ازاء النافذة ليروا العالم، وعلقوا نظرة حزينة صامتة تمزق القلب فيما يحدث. بعد ذلك بسنة التقيتهم على العكاكيز ولم يكونوا اقل ضياعا. فقد الفلاح القصير القامة كامل وزوجته مريم في حقول التوت عندهما ثلاثة ابناء وابني شقيق وحفيدا. وطرح ابن اخر لهما في مستشفى الشفاء مقطوع الرجلين واليد، وقد اصيبت عينه، تحت تنفس اصطناعي وتنويم.

اين هو اليوم؟ هل بقي حيا؟ عندما أتينا حقول التوت، كان أبوه ما زال يحسب ان ابنه فقد رجلا واحدة فقط. قتل آنذاك قبل تقرير غولدستون بكثير 12 ولدا خرجوا في يوم عطلتهم الاول لمساعدة الفلاحين في قطف التوت. لم يجد ناطق  الجيش الاسرائيلي في رده التلقائي من الصواب حتى ان يعبر عن أسف لموتهم. "ينبغي ان نذكر ان خلية مخربين عملت من داخل منطقة فلسطينية آهلة. يحقق الجيش الاسرائيلي الحادثة"، قال الناطق.

قبل غولدستون بكثير تعلقت نفسي بنفس ماريا، التي فقدت مهندا اخاها، ونعيمة أمها، وحنان جدتها وناهد عمتها، بعد ان اصاب صاروخ اطلقه طيار اسرائيلي سيارة البيجو التي اشتراها في ذلك اليوم والدها حمدي. كان ذلك اول سفر للعائلة. وقفت ماريا على ركبتي امها في المقعد الخلفي وانشدت اناشيد الاولاد قبل ان ينتهي كل ذلك بلحظة.

منذ ثلاث سنين ونصف سنة تسكن ماريا وحمدي مستشفى ايلين في القدس. تعالج بالتنفس الاصطناعي وهي شلاء الجسم كله، انها بنت ساحرة تطعم ببغاء بملعقة صغيرة مغروسة في فيها وتحرك كرسيها المتحرك بذقنها، في حين يطعمها أبوها بتفان لا ينتهي. تهدد وزارة الدفاع مرة كل نصف سنة بطردهما الى غزة؛ وتعمل جماعة صغيرة من الاسرائيليين المخلصين مرة كل نصف سنة في الغاء هذا القضاء السيء. سمع حمدي في الاسابيع الاخيرة وهو يائس اكثر من اي مرة مضت. في اول مرة التقينا فيها، على رمل بيته في غزة، عرج على رجله بسبب جرحه وبدا مصدوما تماما في غضبه وحزنه. كان ذلك بعد يومين من الكارثة.

لم تكن أقل صدمة للكارثة الام الشلاء لدام العز حامد وهي فتاة في الرابعة عشرة قتلت في نومها، عندما وقع عليها جدار اسمنتي اصابه صاروخ اسرائيلي. عندما أتينا البيت المتواضع على نحو مخيف، كانت الام مستلقية في سريرها ولم تصدر عنها نأمة. كانت دام ابنتها الوحيدة. وكانت اسلام مصدومة كارثة ايضا وهي فتاة تلبس السواد التقيناها في احد اسفارنا الاخيرة الى غزة في تشرين الثاني 2006. جلست في سوادها على الجدار الحجري في مدخل بيتها المدمر في بيت حانون بعدما فقدت ما لا يقل عن ثمانية من ابناء عائلتها، فيهم أمها وجدتها عندما سقطت رشقة قنابل على البلدة. 11 قذيفة في قلب حي و22 قتيلا في لحظة. كان السبب بحسب بيان متحدث الجيش الاسرائيلي خللا في حاسوب المدافع الالكتروني.

صحبنا ايضا فاطمة البرغوث الشابة الحسناء، التي انتشر السرطان في جسمها وراكمت اسرائيل صعابا غير انسانية امام دخولها للعلاج الذي ينقذ الحياة في  اسرائيل بل انها طردت مرة عن حاجز ايرز بعد ان سبب بعض اجزاء جسمها صفير مستكشف المعادن. لم تجد التوسلات والتفسيرات وكان الامر متأخرا جدا عندما سمح لها بدخول اسرائيل. اخذتها قبل ايام من موتها في غزة الى يوم متعة في اسرائيل: السفاري في رمات غان، ومتنزه اليركون في تل ابيب، وازقة يافا القديمة، والحيوانات البرية، وحقول الاعشاب. لاول مرة واخرها في حياها القصيرة رأت اسرائيليين غير مسلحين. لم نر دما فقط في غزة: ففي بيت عائلة غزال، في حي الدرج، احتفلنا مرة في عيد الفطر: كان هنالك سمكتان مملوحتان بعشرة شواقل لثلاثة عشرة شخصا.

لقد حملت الريح ابطال هذه التقارير وغيرها. من منهم ما يزال حيا، من نعش من كارثته ومن قتل في "الرصاص المصبوب"، في مثل هذا الاسبوع قبل سنة – لا اعلم. لم استطع ايضا ان التقي ضحايا "الرصاص المصبوب" الكثيرين ومنعنا ان نبصق قصتهم. فغزة مغلقة امام الصحافيين الاسرائيليين ومن يهمه ذلك!.