خبر إعلان أفول نجم العلمانية الفلسطينية .. عوني فارس

الساعة 09:51 ص|26 ديسمبر 2009

بقلم: عوني فارس

عقد ملتقى الحريات الفلسطيني مؤتمره الأكاديمي الثالث بالشراكة مع مؤسسة فريدريش ناومان من أجل الحرية، وذلك يوم السبت 12 ديسمبر الجاري، في قاعة فندق البست ايسترن في مدينة رام الله تحت عنوان (العلمانية والنظام السياسي الفلسطيني).

والملتقى مؤسسة فلسطينية غير حكومية تأسست في عام 2004 بهدف نشر وترسيخ مفاهيم الديمقراطية الليبرالية داخل المجتمع الفلسطيني، كمفاهيم الحرية الفردية وسيادة القانون والحقوق المدنية والمساواة بين الجنسين...إلخ، أما مؤسسة فريدريش ناومان من أجل الحرية، فهي المؤسسة الألمانية للسياسات الليبرالية، تأسست في عام 1958 وتعمل في فلسطين منذ عام 1994 بهدف تدعيم مبادئ الديمقراطية والمفاهيم الليبرالية ودعم مسيرة السلام والحوار الإسرائيلي- الفلسطيني.

العلمانية الفلسطينية.. طبيعة الأزمة

جاء انعقاد المؤتمر كمحاولة لإعادة تقديم العلمانية للشارع الفلسطيني بصورة إيجابية وإزالة ما علق في أذهان الكثيرين من صورها المشوهة، وقد بادر ملتقى الحريات بتوزيع نشرة قبيل بدء المؤتمر تحمل ملامح مقاربة رومانسية للعلمانية؛ فهي تدعو لتقديم قراءة لمفهوم العلمانية خالية مما اعتبرته لغطاً وعدم معرفة وفهماً قاصراً لمعنى العلمانية، وتنادي بإزالة ما علق بالعلمانية من شوائب في السياقات الثقافية العربية والإسلامية كالإلحاد ونفي الدين والإباحية، وتبين أنها دعوة لعلمنة الحياة وتحييد الجهات الدينية وسلطانها في التدخل في الشأن العام وإيجاد ضمانة لعدم تحول الدين وسيلة في يد السلطة الحاكمة لتشريع قوانينها واعتبارها المرجعية التشريعية الوحيدة في الدولة.

في نفس السياق أشار الدكتور طالب عوض، أحد منظمي المؤتمر، إلى أهمية الحديث عن العلمانية هذه الأيام خصوصا في ضوء الحديث عن الاستعدادات الفلسطينية لإعلان دولة مستقلة خلال عامين كما صرح بذلك رئيس الوزراء الفلسطيني سلام فياض.

أما بخصوص المؤتمر فقد ناقش عددا من الأوراق البحثية المقدمة من مجموعة من الأكاديميين الفلسطينيين وممثلي بعض الفصائل الفلسطينية، عالجت أربعة عناوين رئيسة هي: العلمانية.. فكر ومنطلقات دولية، العلمانية في الفكر العربي، العلمانية في الفكر والتجربة السياسية الفلسطينية، وأخيرا الإسلام والعلمانية. وقد أثار الانتباه تركيز المؤتمر على بعض النقاط الجوهرية نذكر منها:ـ

أولا: أزمة العلمانية الفلسطينية

اتفق المحاضرون على أن العلمانية في العالم تواجه تحديات صعبة خصوصا مع تنامي تأثير الدين في الحيز العام، وقدموا تصورا لأسباب الأزمة التي تحياها العلمانية الفلسطينية، وأشاروا إلى بعض مظاهرها، ونذكر منها:

1 ـ اتساع نطاق الأسلمة داخل المجتمع الفلسطيني، حيث طغت مظاهر التدين على كافة الأنشطة المجتمعية الأهلية والرسمية، مقابل تراجع مظاهر العلمنة حتى في المواقع التي كانت سابقا حكرا على العلمانية وتعبيراتها المختلفة. وقد تحدث وزير العمل الفلسطيني أحمد مجدلاني "بمرارة" عن تهاوي قلاع العلمانية ووصول تأثير قيم الأسلمة حتى داخل الحكومة الفلسطينية في رام الله.

2 ـ انقلاب العلمانية الفلسطينية على مشروعها الجوهري كحركة تحرر وطني وتنكرها للأسس القانونية التي استندت لها، وعلى رأسها الميثاق الوطني الفلسطيني، الذي أعده الدكتور عبد الرحيم الشيخ، أستاذ الفلسفة في جامعة بيرزيت، الوثيقة العلمانية الأولى والأكثر أهمية في التاريخ الفلسطيني المعاصر.

3 ـ رافق تخلي العلمانية الفلسطينية عن مشروعها التحرري المناقض للمشروع الصهيوني، عجزها عن امتلاك زمام المبادرة داخل المجتمع الفلسطيني، وفقدانها لعنصر التأثير ووقوعها فريسة لردات الفعل على مشاريع الأطراف الأخرى.

4 ـ انتشار ظاهرة النفاق السياسي بين أقطاب الفصائل والأحزاب العلمانية، حيث أصبح الحفاظ على الأسهم الانتخابية والمكانة الجماهيرية هو الشغل الشاغل لدى غالبية السياسيين الذين، على حد قول مجدلاني، على استعداد لتقديم تنازلات جوهرية لنظرائهم الإسلاميين مقابل البقاء في المشهد السياسي.

ثانيا: أسباب أزمة العلمانية الفلسطينية

تناول المحاضرون أسباب الأزمة التي تحياها العلمانية الفلسطينية، وقد لاحظ الدكتور عبدالله عبدالله، عضو المجلس التشريعي عن حركة فتح، بأن العلمانية الفلسطينية واجهت أول اختبار حقيقي في الانتفاضة الأولى حين دخل التيار الإسلامي ميدان الفعل الوطني، وأشار إلى أن من أوائل الطعنات التي وجهت للعلمانية الفلسطينية تمثلت فيما وصفه برفض الإسلاميين الانصهار في النظام السياسي الفلسطيني الذي مثلته منظمة التحرير الفلسطينية، ثم تصعيد إجراءاتهم "الانقسامية" التي بدأت بإصدارهم بيانات الانتفاضة بصورة منفصلة وانتهت بما حدث في غزة سنة 2007.

أما ورقة عبد الرحيم الشيخ، فقد أرجعت الأزمة إلى تجاوز العلمانية الفلسطينية للميثاق الوطني الفلسطيني، وانخراطها في العملية السلمية وتخليها عن فلسطين التاريخية.

ثالثا: هل باستطاعة العلمانية الفلسطينية تجاوز الأزمة؟

سيطرت النظرة التشاؤمية لمستقبل العلمانية الفلسطينية على أطروحات المحاضرين، ومع ذلك فقد طرح المشاركون حلولا لتجاوز الأزمة، فدعا الكاتب والمحلل الصحفي خليل شاهين العلمانيين الفلسطينيين إذا ما أرادوا استعادة مكانتهم للعودة إلى مربعهم الأول كحاملي لواء حركة تحرر وطني نقيض المشروع الصهيوني الاستعماري على أرض فلسطين.

أما الدكتور أيمن يوسف، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأمريكية في جنين، فقد دعا إلى ضرورة توطين مصطلح العلمانية والبحث في السياقات الثقافية العربية الإسلامية عن جذور لظاهرة العلمنة، مستشهدا بأعمال المفكر العربي محمد عابد الجابري. في حين دعا الوزير المجدلاني إلى البوح ورفع الصوت عاليا في مواجهة الأسلمة واتخاذ خطوات عملية باتجاه استعادة القيم العلمانية في مختلف المواقع بما فيها المؤسسات التعليمية والمناهج الدراسية.

أفول العلمانية الفلسطينية

تأتي إعادة طرح ملف العلمانية في فلسطين ومحاولة تجميل صورتها عبر حملة "تبشيرية" ودعاية مكسوة بلباس الفكر والثقافة كأحد تداعيات "صحوة العلمانية الفلسطينية المتأخرة"، بعد نتائج الانتخابات التشريعية في عام 2006.

ورغم مشاطرتي المحاضرين لبعض ما خلصوا اليه حول أزمة العلمانية الفلسطينية وسبل تجاوزها، إلا أنني أرى أن احتضار العلمانية الفلسطينية بما مثلته سابقا كرائدة مشروع تحرري وتنويري وتحولها لظاهرة نخبوية فاقدة للتأثير في الشارع الفلسطينية أمر بات في عداد الحقائق، ولا مجال لاستعادتها العافية؛ فقد انتهى عصرها أو كاد. أما الدليل على ذلك فنورده بالآتي:ـ

• محاولة بعض العلمانيين الفلسطينيين تسويق نظرية التلازم بين العلمانية والثورة رغم القناعة بسقوط هذه النظرية، فالتجربة التاريخية أثبتت وجود نماذج ثورية غير علمانية سواءً  في فلسطين أو غيرها.

• يدعو البعض التيار العلماني لإعادة الانتساب للحالة الثورية التي عايشها في القرن الماضي كمخرج من المأزق الذي يحياه هذه الأيام، ويرون بأن البندقية المقاومة التي حملها العلمانيون الفلسطينيون دفاعا عن بلدهم شكلت أداتهم لبسط سيطرتهم على الشارع الفلسطيني، أما التخلي عنها، وهذا حال أغلب الفصائل والقوى العلمانية الفلسطينية، والتمترس خلف نشاطات جماهيرية سلمية بمشاركة عناصر من اليسار الإسرائيلي والعالمي؛ فقد أدى إلى تراجع حيز العلمانية في المشهد السياسي الفلسطيني. ورغم وجاهة هذا الطرح فإن حالة التيار العلماني الفلسطيني لا تشير إلى استعداد العلمانيين الفلسطينيين للتعاطي الإيجابي مع استحقاقات حركة التحرر الوطني.

• تجاهل العلمانيين الفلسطينيين خضوع العلمانية لمنطق التاريخية، حيث شكل انتشارها في العالم في القرون الماضية استجابة لظرف تاريخي مرت به البشرية، وإصرارهم على الإمساك بالمرحلة التاريخية وتثبيتها، متحدين عجلة التاريخ وعملية التطور المجتمعي، وهذا لن يكسبهم مزيدا من الحضور والتأثير.

• تركيز العلمانيين الفلسطينيين على الحديث عن عودة ما للماضي  إنما يشكل تعبيرا  واضحا عن أزمة العلمانية التي ما زالت تعيش مفاهيم الماضي وتجتر أحلام زمان، في مشهد أصولي علماني عاجز عن طرح مشروع مستقبلي منافس فكريا وعمليا.

• إدراك العلمانية الفلسطينية وهم مغادرة الدين للحيز العام، بل على العكس من ذلك، فإن الدين التحم بشكل حديدي في الحيز العام، وهذا هو التحدي الرئيس الذي تواجهه العلمانية اليوم.

• محاولة بعض القوى العلمانية استرجاع نفوذها عبر الاستقواء بالخارج، في حين تتلهى أخرى بدكاكينها الثقافية ومؤتمراتها المدعومة من المؤسسات الأجنبية، وفي كلا الحالتين يستمر النزيف العلماني، وتفقد العلمانية ما تبقى لها من بريق.

• عانت العلمانية الفلسطينية من خلل بنيوي واكب مسيرتها الطويلة، تمثل في موقفها السلبي من التراث وغلظة تعاطيها مع قيم المجتمع الدينية (عبد الله عبد الله)، كما أنها لم تحاول الاستفادة من المدارس الفكرية التراثية لاستنبات قيمها، كما اقترحت ورقة الكاتب عدنان الصباح، وفضلت البقاء أسيرة المشهد الثقافي الغربي.

• انتشار ظاهرة النفاق السياسي مؤخرا بين صفوف العلمانيين الفلسطينيين لمواجهة اكتساح الإسلاميين للشارع الفلسطيني، واستعدادهم للتنكر لقيمهم العلمانية والتعاطي الإيجابي مع مظاهر الأسلمة مقابل الإبقاء على حضورهم في النظام السياسي الفلسطيني (أحمد مجدلاني)؛ وهذا بكل تأكيد لن يصنع بديلا علمانيا قادرا على الحياة، ناهيك عن مقارعة التيار الإسلامي الذي يكسب الجولة تلو الأخرى منذ بداية الانتفاضة الأولى... فكيف ستستعيد العلمانية عافيتها؟!.

--------------

باحث فلسطيني، حاصل على ماجستير العلوم السياسية من جامعة بيرزيت.