خبر مصر أكبر.. علي عقلة عرسان

الساعة 08:18 ص|26 ديسمبر 2009

مصر أكبر.. علي عقلة عرسان

 

من الذي يحشر مصر في هذه الزوايا الضيقة ويحاول أن يشوه صورتها ومواقفها وسمعتها، أهُم ساستها أم سياسات تفرض إرادتها عليها، أم هو تدخّل في شؤونها من خلال جهات وأشخاص لا يريدون بها خيراً ولا يؤتمنون على مواقفها وتاريخها ونضالها ودماء شهدائها وتضحياتها على أرض فلسطين ومن أجلها، وفي سبيل أمتها العربية.؟ من الذي يسيء إلى مصر ويلبسها هذا الثوب الذي لا يليق بها ولا بتاريخها الوطني والقومي، أهو قصر نظر وحسابات داخلية ضيقة تنعكس صوراً خارجية غير بهية، أم هي مخاوف وتقديرات تشوبها شوائب كثيرة تجعل الرؤية ضبابية وتسفر عن قرارات وتصرفات لا تمت إلى حكمة مصر ومصالحها وتوجهاتها بصلة، أم هي علاقات تحكم من تحت الطاولة لا تلبث أن تتربع عارية فوقها فتحتاج إلى من يسترها ويأتي الستر فضيحة.. أم أن ذلك يا ترى إرادة واعية ورؤية ثاقبة ومصلحة قومية عليا لا يستبينها من يحب مصر، ومن يريد أن يفهم موقفها ويتفهمه ويدافع عنه.. فيجد في فمه ماء!؟

 في العدوان الهمجي الصهيوني على لبنان عام 2006 ثم في العدوان على غزة عام 2008ـ 2009رأينا من مصر مواقف لا تسر الكثيرين من أبنائها فكيف ترضي أشقاءهم؟، وسمعنا من بعض الساسة المصريين تصريحات لا يقبلها مصريٌ ولا عربي ولا مسلم. وفي الموقف من الحصار المفروض على غزة منذ سنوات، تغص حلوقنا بمواقف وتصرفات وتصريحات تتصل بمعبر رفح، الشريان الحيوي الوحيد لمليون ونصف مليون إنسان في غزة، يجثم عليهم الحصار، ويبيت من هدم بيته منهم في العراء منذ سنة على ذلك العدوان، وهم يعانون الأمرين في ظل الاحتلال والحصار، والعجز العربي، والتواطؤ الغربي، والسكوت المريب الغريب لمجلس الأمن الدولي.. وها نحن نقف، في الآونة الأخيرة، على مشارف حدثين غريبين يضيفان إلى مآسيهم مآس، ويرفعان إشارات استفهام جديدة تضاف إلى إشارات قديمة، ويحشران مصر في زوايا ضيقة جديدة لا نريدها لها، والحدثان هما:

ـ إقامة حاجز فولاذي تحت الأرض يمتد بعمق ثلاثين متراًً، على طول الحدود المصرية ـ الفلسطينية، وهو حاجز يطلبه الإسرائيليون، ويموله الأميركيون، وتوافق عليه سلطة رام الله، وترفضه غزة لأنه يخنقها، وتعلن السياسة المصرية أنه مشروع قومي ومصلحة مصرية، لا يجوز لأحد أن يتدخل في الشأن الداخلي المصري..؟!.

ـ والثاني هو التضييق على قافلة المساعدة الإنسانية المسماة " شريان الحياة"، تلك المتجهة إلى غزة عبر معبر رفح، لتكون هناك مع الغزاويين المحاصرين بعد سنة من المكابدة المرة، في الذكرى الأولى للعدوان الوحشي الذي شنته الصهيونية، جذر العنصرية ووريث النازية، على القطاع الحزين، تحت سمع الأمة العربية والعالم وسمعهما، فدمرت فيه ما دمرت، وقتلت من قتلت، وارتكبت مجازر بشرية بوحشية لا مثيل لها، وجرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، أدانتها شعوب العالم ومعظم دوله، وفضحها تقرير غولد ستون بما لا يترك ستراً ولا شكاً.

إن مصر من منظورنا و في نظرنا وواقعنا ووقائعنا، وعبر تاريخنا الطويل، أكبر بكثير من الذين يحشرونها في هذه الزوايا الضيقة ويجرونها إلى هذه المواقف المحرجة، وسواء أكان ذلك تشويهاً مدروساً لوجهها ودورها، أو إقحاماً لها لتكون في مواجهة إخوتها و"أبنائها" في غزة، أو إمعاناً في اختطفاها بعيداً عن أمتها والتزاماتها العربية والإسلامية والإنسانية، أو ضغطاً عليها باسم المعاهدات والمساعدات لتكون في صف المعتدي ضد المعتدَى عليه.. فإنه مرفوض منها قبل أن يُرفض منا، ولا يمكن أن يقبله أحرارُها ومثقفوها وقادتها الكبار، فضلاً عن أن يُفرَض عليهم.. فكيف نقبله نحن الذين ننظر إليها وفي أعيننا تاريخها ومواقفها ومكانتها العربية ودورها الإيجابي المرتجى.!؟

إن قافلة المساعدات الإنسانية التي يقودها إنكليزي شجاع هو جورج غلوي، وتُُستقبَل بالتقدير في مدن عربية، وتفتح عيون العالم على قضية أهل غزة وجرائم الاحتلال الصهيوني وهمجية " إسرائيل".. لا تحتاج إلى مثل هذا الانتظار المهين في ميناء العقبة لكي يُسمح لها بأن تبحر إلى ميناء "النويبع" المصري ومن ثم تصل إلى رفح فغزة، عبر العريش أو عبر غيرها من المواقع المصرية.. إن مطلبها الأول ألا تُُجبَر على الدخول إلى غزة من بوابات صهيونية، لأنها بكل بساطة تهدف إلى كسر الحصار الإسرائيلي وفضح الصهيونية وممارساتها المُدانة.. فهل نقف بوجه ذلك الهدف النبيل الذي يتجند لتحقيقه أشخاص من جنسيات مختلفة، حرك وجدانهم العدوان الصهيوني الهمجي والحصار الجائر الفظيع المفروض على مدنيين وأطفال ونساء وشيوخ .. فوقفوا موقفاً إنسانياً ضد الظلم والقهر والقتل والجرائم ضد الإنسانية؟! وهل يكون جورج غلوي ورجب طيب أردوغان على ألسنة الناس مدحاً وإكباراً لأنهما في طليعة من يقف إلى جانب أهل غزة المنكوبين، ولا يكون معهما على ألسنة الناس في المدن العربية التي تمر بها القافلة أو تتابعها، اسم عربي ترفعه مواقفه إلى مكانة إنسانيتهما وشجاعتهما..؟! بل هل من المعقول أن يحصل عكس ذلك تماماً.. حيث تلهج ألسنة عربية مجروحة بكبريائها، بمطالب منها ألا يكون عربٌ شركاء للصهاينة في الحصار الظالم على غزة، وألا يناصر عربٌ " إسرائيل" في ظلمها وعدوانها واحتلالها وجرائمها.!!

إن مبادرة مصرية أولى مطلوبة، بمسؤولية وسرعة وقوة، وهي أن يُفتَح الطريق أمام قافلة المساعدات الإنسانية الدولية لتصل غزة بسلام وأمان، في الموعد المحدد، أي قبل الثامن والعشرين من كانون/ ديسمبر الجاري 2009، ليشارك من يرافقها أهلَنا هناك ذكرى مرور عام على صمودهم وبسالتهم في وجه العدوان الهمجي الصهيوني من جهة، ولتخفف حمولتها والذين أتوا بها عنهم بعض ما يجدون من جوع وعري وقهر، لم تنقذهم منه أمتهم العربية، من جهة أخرى.. ولتساهم تلك القافلة في فضح الإجرام الصهيوني والصمت الدولي على مأساة ومعاناة مليون ونصف مليون فلسطيني يتعرضون لأفدح الكوارث من دون مبادرات إنسانية تضع حداً لمأساتهم.. لا سيما في تلك المناسبة .. الذكرى.

أما المبادرة المصرية الأخرى التي يمكن أن ترقى لحجم مصر وثقلها ومكانتها وكرامتها.. فهي أن توقف مصر المشروع الصهيوني، ذي المظهر المصري، مشروع إقامة جدار فولاذي يمتد إلى عمق ثلاثين متراً تحت سطح الأرض على طول الحدود المصرية ـ الفلسطينية، ليُحكَم الحصارُ على غزة، ويغلق شرايين الحياة الأخيرة التي تمتد تحت الأرض لتبقي أطفالها ونساءها وشيوخَها على قيد الحياة.. وبذلك تضع مصر حداً لأقوال سلبية تتصل بهذا المشروع الذي لا يليق بمصر، ولا يحمي مصالحها القومية، ولكي تخرس من يتصيَّد الأخطاء ويريد بمصر السوء.. ومصر أكبر.. وبه تكبر أكثر. 

إن أنفاق التهريب التي تُحفر تحت الأرض، بين "حدود" فلسطين الجنوبية و"حدود" مصر الشمالية، لم تكن موجودة قبل العدوان الصهيوني والحصار الهمجي الذي يفرضه من دون رحمة ولا ردع على سكان.. ولم تكن هناك حاجة أصلاً للتهريب والأنفاق ولا شكوى مصرية من ذلك. والذين يستفيدون من تلك الأنفاق، على أي وجه وبأي شكل، يستفيدون على حساب الناس الفقراء والمساكين في غزة الذين يطلبون الحياة.. ومن حق الإنسان أن يطلب الحياة ويدافع عنها.. ومن يطلب الحياة يحق له أن يبحث عن كل وسيلة للعيش.. أما من يطلب الحرية " والحياة حرية والحرية حياة "، فعليه أن يجد الوسائل والأدوات والسبل للصمود والتحرير والتحرر من كل القيود لتي تشل إنسانيته أو تلغيها.. وهذا مطلب إنساني عادل ومشروع، ونهج للدفاع عن النفس ورفع الظلم والقهر، تقره الشرائع والقوانين وأعراف الشعوب وتقاليدها. لن ينهي الجدارُ المصري الذي سيقام تحت الأرض، ولا الجدار العنصري الذي يقيمه العدو الصهيوني فوق الأرض.. لن ينهيا الشعب الفلسطيني وإرادته ومقاومته للاحتلال، ولن يقضيا على تعلقه بالحرية والحياة والاستقلال.. بل سيعزز ذلك كله إرادة الحياة والحرية والتحرير لديه. وإذا أردنا أن نصون حدوداً بقيت مصانة منذ آلاف السنين بين مصر وفلسطين، وأن نستجيب لمطالب الأقوياء وما يقودونه من دول باسم "المجتمع الدولي" أو تحت " يافطته" إلى مواقف وسياسات من هذا النوع.. فعلينا أن نطالب المجتمع الدولي بمعالجة المشكلة الأساس ونعالجها معه، أي تلك التي أدت إلى حفر الأنفاق والتهريب والمقاومة والحصار والمعاناة والكوارث.. إلخ.. ألا وهي الاحتلال والعدوان الحصار والإجرام الصهيوني المتجذر في قلوب ونفوس لا تعرف إلا العنصرية والغطرسة والعدوان والإجرام والقتل.

إن علينا أن نقف مع العدل والعقل والإنسانية بأي ثمن، ومع أنفسنا وقضايانا مهما كان الثمن.. لأنه لن ينقذنا من الاستعمار والصهيونية وطمع الطامعين بنا وبأمتنا إلا نحن.. إلا نحن.. إلا نحن.. بوعي وانتماء وإيمان وإرادة ومسؤولية حيث يسفر ذلك عن وحدة رؤية وهدف، إذا تعذرت وحدة الصف والموقف.

والله من وراء القصد

دمشق في 25/12/2009