بقلم: عاطف الغمري
ليس أسهل من إحكام النظرة الي سياسة أمريكا الخارجية, في إطار ماهو ثابت ومألوف علي مدي أكثر من خمسين عاما. لكن ليس من الحكمة قراءة سياسة أوباما في نفس الاطار, تعلقا بمقولة ان أمريكا دولة مؤسسات, وأن سياستها الخارجية ثابتة لا تتغير, بينما اكثر هذه المؤسسات قوة وتأثيرا انتهت الي أن التغيير أصبح الآن مصلحة أمن قومي للولايات المتحدة, وهي نتيجة اتفقت عليها حتي من قبل ان يرفع أوباما علي حملته الانتخابية شعار التغيير.
ان فترة اوباما تشهد من أول يوم لدخوله البيت الأبيض, صياغة تاريخ جديد للسياسة الخارجية, يظهر جانبه الشكلي في أسلوب إدارة عملية اتخاذ القرار, وجانبه الموضوعي في نهج متغير رؤيته للسياسة الخارجية, ينحو نحو تغيير قواعد اللعبة, التقليدية.
ومن ناحية الشكل, فإن الفريق المعاون لأوباما من وزراء ومساعدين ومستشارين, جاء تشكيله مخالفا لما هو متبع من الرؤساء, الذي كان كل منهم يجمع حوله أصحاب الاتجاهات التي تتفق مع توجهه السياسي, ومن داخل الحزب الذي ينتمي اليه في معظم الأحوال.
فالفريق المحيط بأوباما تتنوع اتجاهاته, وإن جمعتهم مدرسة واحدة هي المدرسة الواقعية, ومنهم جمهوريون وهو الديموقراطي, ومنهم اصحاب آراء لم تكن تتفق مع فكر أوباما.
وعمليا فإن طريقة أوباما في ادارة اجتماعاته مع معاونيه, تتميز بتركه لكل منهم طرح وجهة نظره في موضوعية المناقشة حتي وإن اختلف مع التوجه الغالب, وشرح أسانيده. وحين لاحظ أوباما ان أحدهم لا يشارك في المناقشة, لا يتركه في سكوته, بل يسأله رأيه, ويثير حالة من الجدل, قبل ان ينتهي الي قرار.
ومن الناحية الموضوعية, فإن أوباما قد حسب ان فترة حكمه هي مرحلة إنتقالية, الي عصر يتشكل فيه العالم بصورة مختلفة, لن تكون أمريكا فيه القوة المحتكرة للنفوذ في العالم وادارة أزماته.
القاعدة الرئيسية التي أعاد عليها أوباما تشييد بناء السياسة الخارجية, هي الارتباط مع الشركاء.
بمعني أن الشريك هو من يملك رؤية سياسية واضحة ومحددة, واستراتيجية للحركة والتأثير, ودور إقليمي محوري, مادامت أن أمريكا حسب نص كلام أوباما, وتقارير المؤسسات, مقبلة علي عصر ستتقلص فيه قوتها النسبية, ونفوذها العالمي, وأنها لن تستطيع وحدها حل المشاكل والأزمات الدولية, أو حتي التصدي منفردة للتحديات لأمنها القومي.
واتصالا بهذه القاعدة, فإن توجهات أوباما ترمي الي تأكيد مبدأ الحوار, حتي مع أشد الخصوم تشددا, ونزع فتيل العداوات, وتصفية قائمة الخصوم والاعداء إلي أقل عدد ممكن.
وهو بهذا يستبدل بمفهوم العدو المحتمل الذي كان ركنا أساسيا في استراتيجية السياسة الخارجية لبوش, بمفهوم الشريك المحتمل, وهو مادعا بعض الخبراء في واشنطن, الي القول بأنه ليس مستبعدا ان تكون ايران في مرحلة ما, ضمن قائمة الشريك المحتمل, واذا كان هذا توقعا امريكيا, فهو ليس أمرا مستبعدا كرغبة ايرانية, تضع في حساباتها ان تصل المواجهة مع امريكا الي التوقف عند بداية التفاوض والحوار, بأن تعترف لها أمريكا بدور إقليمي في الشرق الأوسط.
وحين ننظر الي توجهات أوباما نحو تغيير قواعد اللعبة في الشرق الأوسط, فإن احتياجه للشريك, يجعله يتوقف عن العمل بمبدأ إشعال الفوضي الإقليمية, الذي طبقته إدارة بوش, والاستبدال به نوعا من التهدئة للوصول الي توافق بين الأطراف.
وحسب ما يتناثر من معلومات في واشنطن, فإن أوباما يجهز خطة لتسوية النزاع العربي الاسرائيلي, يقدمها الي طرفي النزاع, تضع في اعتبارها حدود قدرة كل طرف علي التأثير من أجل مطالبه, وقدرته علي حشد أوراق ضغطه اقليميا, وعلي أمريكا في داخلها.
ولا ننسي ان النظام السياسي في الولايات اللمتحدة, يتيح أوسع الفرص للضغوط, لتلعب دورها المؤثر علي قرار السياسة الخارجية.. هذه قاعدة مشروعة ومعترف بها.
وهذه الخطة ـ طبقا للمعلومات المتوافرة بشكل غير رسمي حتي الآن, تقوم علي قيام دولة فلسطينية ذات سيادة بجوار اسرائيل, عاصمتها القدس الشرقية, وان تضم اسرائيل اليها الكتل الاستيطانية الرئيسية في الضفة الغربية, في مقابل بديل من الأرض يضم للدولة الفلسطينية, وان يتحقق هذا الهدف خلال ولايته الأولي.
لكن لاحظ الربط بين تفاصيل الخطة, وإتاحة الفرصة للطرفين لكي يمارس كل منهم ضغوطه, وبالطبع فإن الضغوط ـ عربيا ـ ليست عملا بالمصادفة أو فرديا, لكنها حشد أكبر قدر من امكانات التأثير ـ في إطار رؤية واستراتيجية ـ تجعل الأمريكيين يشعرون بأن مصالحهم الاستراتيجية مع العالم العربي, هي عملية تبادلية.
فهل يلحق العرب بهذه الفرصة التاريخية ؟
إن تاريخ العالم تعاد مراجعته وصياغته في مرحلتنا الراهنة, والكل يتحرك بوعي ودراسة وتجهيز للمواقف, انتهازا لهذه الفرصة, والذي يتقاعس يكون قد أوقع نفسه تحت حساب التاريخ والشعوب.