خبر نحو تنظيم الخلاف في الساحة الفلسطينية ..ماجد كيالي

الساعة 09:55 ص|15 ديسمبر 2009

نحو تنظيم الخلاف في الساحة الفلسطينية ..ماجد كيالي

 

ـ الحياة 15/12/2009

«كنا منحكي عن بلد صرنا منحكي عن بلدين»! تلك هي لازمة البرنامج التلفزيوني، الذي يسخر (بمرارة) من الحياة السياسية الفلسطينية، والذي بثته فضائية «فلسطين»، في رمضان الماضي، ونال نجاحاً كبيراً، ما دفع معديه إلى إنتاج حلقات جديدة منه تعرض على ذات الشاشة يومياً. وحتى الإسرائيليون باتوا يتندرون على الانقسام الفلسطيني الحاصل بالقول: كنتم تريدون حل الدولتين وها نحن عند هذا الحل (دولتان واحدة في الضفة والثانية في غزة!).

طبعاً من حق كثيرين أن يسخروا من هذا الواقع البائس، ولكن السخرية عند الفلسطينيين لها طعم شديد المرارة، وهي مفعمة بالصور المأساوية، والمفارقات الجارحة، في واقع بات فيه الحوار بين الحركتين الرئيسيتين («فتح» و»حماس»)، اللتين تهيمنان على موارد هذه الساحة، وتتحكمان بمصير شعبها وقضيته، نوعاً من التفاوض، الذي لا يقل تعقيداً وصعوبة واستحالة، عن التفاوض مع إسرائيل. هكذا، مثلا، بتنا نسمع عن مصطلحات تعودنا عليها في المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية، من مثل التبادلية، وحل الرزمة الواحدة، والترتيبات الأمنية، والجدول الزمني، وإطلاق المعتقلين، والتنسيق المتبادل، وعدم فرض شروط أو املاءات، وإجراءات بناء الثقة، إلى أخر هذه المعزوفات الفارغة، التي ترتبط فقط بالمصالح الضيقة للفصيلين المعنيين، ودوام هيمنتهما على الوضع الفلسطيني.

السؤال الذي يطرح نفسه الآن: إلى متى هذا الانقسام الخطير والمضر بشعب فلسطين وقضيته؟ وكيف الخروج من هذا الوضع البائس؟ وفي الإجابة على السؤال الأول، من المؤسف القول إن الانقسام يمكن أن يستمر طويلا، وما يؤكد ذلك غياب إمكانيات التفاعل والتداول بين الحركتين السياسيتين المعنيتين، بحكم الفصل الجغرافي بين الضفة وغزة، إضافة الى أن كل واحدة من الحركتين الرئيسيتين، في هذه الساحة، («فتح» و»حماس»)، تعمل على تكريس سلطتها في الحيز الجغرافي الذي تسيطر عليه.

وما يرجّح ذلك أيضاً، ضعف الفصائل الأخرى، وعدم وجود قوى اجتماعية ضاغطة في هذا الاتجاه. ويجب أن لا تغيب هنا عن بالنا إسرائيل، التي تسعى لتأبيد الانقسام الحاصل، باعتباره وصفة الأحلام، التي تسهّل عليها التملص من استحقاقات عملية التسوية، والترويج لاعتبار الفلسطينيين غير ذوي ثقة للاستمرار في هذه العملية، وأنهم حتى غير مؤهلين لإدارة أوضاعهم، عدا عن أن هذا الانقسام بالنسبة الى اسرائيل يشتت قوى الفلسطينيين، ويصرفهم عن مواجهة سياساتها الاستعمارية، ويستنزف جهودهم وقواهم في الخلافات، وربما في الاحترابات الجانبية.

ليس القصد من هذا الكلام إشاعة نوع من التشاؤم حول المآل الذي وصل إليه الوضع الفلسطيني، وإنما القصد منه التعامل بشكل واقعي مع ما هو حاصل، بغض النظر عن رأينا فيه. وعليه، فمن غير الممكن تقديم مقترحات أو تصورات للخروج من الأزمة الفلسطينية الراهنة (في المعطيات التي تحدثنا عنها)، من دون قبول الطرفين المعنيين لها، وهذا ما حصل للورقة المصرية.

على ذلك (وهذا هو موضوع السؤال الثاني)، فإن المطلوب البحث عن صيغة وسط تناسب الطرفين المعنيين («فتح» و»حماس»)، ولاتهدّد مكانتهما ولا شرعيتهما ولا سلطتهما، في الساحة الفلسطينية، أي المطلوب صيغة الغرض منها إعادة بناء الثقة بين هذين الطرفين، وإعادة ترميم الوضع الفلسطيني بشكل تدريجي.

وأول ما يتطلبه ذلك وضع حد للحديث المبالغ فيه عن الفراغ الدستوري في الساحة الفلسطينية، فعن أي فراغ يتحدثون؟ وعن أي دستور؟ ولأية دولة؟ وعن ماذا نتحدث هنا؟ فمع كل التقدير لأهمية النواظم الشرعية، والعمليات الانتخابية، فإن الواقع الفلسطيني لم ينضج بعد إلى هذا المستوى، ولم يصل إلى عتبة الدولة، وبالتالي الدستور، وما وصلنا إليه هو فقط في باب التوهمات والافتراضات لا أكثر.

هكذا يجب الخروج من هذا «الفخ» الدستوري، والتعاطي مع الواقع الفلسطيني باعتباره حالة تحرر وطني، تتأسس على ائتلافات سياسية وطنية، من المفضّل بداهة تأكيد شرعيتها ومكانتها بالانتخابات ما أمكن ذلك.

بالمقابل فإن ما ينبغي التأكيد عليه هنا هو أن الخلاف الفلسطيني ليس مجرد خلاف قانوني أو دستوري، ونحن نعلم أن حل المسائل لا يتم في هذين المجالين، وإنما بقيام توافقات سياسية بين القوى المعنية. لذلك يجب وضع حد للمجادلات الدستورية والقانونية، التي يريد كل واحد منها عجن الدستور بما يتماشى مع مصالحه، لا مع مصالح الوطن والقضية والشعب!

الآن، إذا كان من الصعب دفع الطرفين المتنافسين والمتنازعين على الشرعية والسلطة نحو حل هذه الأزمة بالاستفتاء وبالانتخاب الحر والمباشر، فإن المطلوب خفض سقف التوقعات من المصالحة المرجوة، بحيث تتم مطالبة «فتح» و»حماس»، على الأقل، بالانتقال من حال التصارع والتنابذ السائدة بينهما، إلى حال التنافس والتعايش، في إطار من احترام التعددية، وبما يخدم العملية الوطنية. ولا شك أن هذا الوضع يتطلب العديد من المتطلبات، ضمنها:

1 ـ تشبثّ «فتح» بالموقف القائل بعدم الانخراط في المفاوضات من دون معرفة مآلها، وهو، على الأقل، إنهاء احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967.

2 ـ توحيد وتعزيز الجهود من اجل رفع الحصار الجائر المفروض على قطاع غزة، وهذا يعني أن على «فتح» والسلطة أن تبديا مزيداً من الجهود والجدية في هذا المجال، ولا سيما بالتفاهم مع مصر من اجل وضع حد لهذا الحصار المشين.

3 ـ إقفال ملف المعتقلين الفلسطينيين وهو ملف مؤلم جداً، ومجاني ومأساوي، فإذا كان من مهمات السلطة في الضفة الحفاظ على أمن الفلسطينيين، فليس من وظيفتها الحفاظ على أمن إسرائيل، ولا من وظيفتها وقف مقاومة الاحتلال. وبالمقابل فإن حركة «حماس» معنية بالإفراج عن المعتقلين من «فتح» في قطاع غزة، فمن المعيب جداً اخذ معتقلين لمجرد هويتهم الفصائلية، وفي هذا فإن «حماس» لم تقدم في إدارتها الأحادية والاقصائية في قطاع غزة، نموذجاً أفضل من نموذج «فتح».

4 ـ يجب أن تقتنع «فتح» بأنه آن الآوان لوقف احتكارها أو هيمنتها على القرار الفلسطيني، كما يجب أن تقتنع «حماس بأن القوة لا تعطي الشرعية، وأن هيمنتها العسكرية الأحادية على القطاع لا تمنحها الشرعية لاستئصال الآخرين.

لقد فشلت حلول الرزمة الكاملة، بفشل الحوارات الطويلة والمضنية التي جرت برعاية مصرية، وآن الأوان لتجريب الحلول التدريجية، والانتقال إلى معالجة الملفات كلاً على حدة، في رحلة إعادة الثقة واستعادة الوحدة.

وما يؤكد إمكانية التعايش (ضمن التنافس) بين الحركتين المختلفتين («فتح» و»حماس»)، هو وجود نوع من التوافق السياسي المضمر بينهما، الآن أكثر من أي وقت مضى. فقد باتت حركة «فتح» مقتنعة بأن طريق المفاوضات بالشكل الذي سارت عليه، لم تصل إلى النتيجة المتوخاة. وتوصلت حركة «حماس» بدورها إلى أن طريق المقاومة ليس سهلا، وأن دونه مصاعب جمة، وتكاليف باهظة، ما اضطرها إلى التوجه نحو تهدئة من طرف واحد. وفي النهاية فقد توصل الطرفان إلى أن كلاً منهما لم يعد قادراً على مواصلة طريقه، لذا فثمة ما يمكن أن يتم الاتفاق عليه.

بمعنى أخر، إذا كانت «فتح» و»حماس» غير راغبتين بالتوافق على ما لا تقدران عليه (في مواجهة إسرائيل) فلنقل إن من أضعف الإيمان أن تذهبا نحو التوافق على ما تقدران عليه، على الأقل. وما بيد هاتين الحركتين، مثلا، استعادة التوافق على ترميم أوضاع الساحة الفلسطينية، وإعادة بناء مؤسساتها وأطرها، وإرساء علاقات ديموقراطية فيها، على قاعدة احترام التعددية والرأي الآخر، وإفساح المجال أمام المشاركة الشعبية في اتخاذ القرارات، على قاعدة المصلحة الوطنية لا الفصائلية.

بكلمة أخيرة، فإذا كان من الصعب على هاتين الحركتين إنهاء الانقسام، والتخلي عن سيطرتهما الأحادية كل في الحيز الخاص به، فمن الممكن ومن المطلوب حضُّ هاتين الحركتين على تنظيم الخلاف بينهما، وترشيده، وحله بشكل تدريجي، وبما يكفل سلامة قضية فلسطين وحركتها الوطنية، لا استمراء العيش على خرائبها.