خبر هل انسد أفق التغيير أمام أوباما؟ .. حسن نافعة

الساعة 10:04 ص|09 ديسمبر 2009

بقلم: حسن نافعة

كان لافتاً أن يبادر مايكل مور، المؤلف والمخرج السينمائي الأميركي المعروف والحائز على جائزة الأوسكار المرموقة، الى توجيه خطاب مفتوح إلى الرئيس باراك أوباما يوم 30 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، أي قبل يوم واحد من توجه الرئيس الأميركي إلى «وست بوينت» للإعلان عن استراتيجيته الجديدة في أفغانستان. ولأن وسائل الإعلام كانت قد تحدثت بالفعل عن نية الرئيس الأميركي الاستجابة لطلب الجنرالات بإرسال دعم جديد للقوات الأميركية في أفغانستان يقدر بثلاثين ألف مقاتل، فقد انزعج مايكل مور من هذا التطور المحتمل إلى الدرجة التي دفعته للمسارعة بتوجيه خطاب مفتوح يتوجه فيه الى أوباما بسؤال يقول: هل حقاً تريد يا سيدي أن تكون رئيساً جديداً للحرب؟

لم ينتظر مور بالطبع إجابة أوباما على سؤاله وراح يحذره قائلاً: «إنك إن فعلت يا سيدي فستحطم جميع الآمال والأحلام التي علقها عليك ملايين البشر داخل الولايات المتحدة وخارجها»، متمنياً أن لا يستجيب لنصائح الجنرالات، ومذكراً إياه بأن تجاوب النظام السوفياتي السابق مع مطالب جنرالاته كان بمثابة المسمار الأخير الذي دُق في نعش الاتحاد السوفياتي. لذا لم يتردد مور لحظة واحدة في مطالبة أوباما بالتعامل مع الجنرال ماكريستال مثلما تعامل ترومان من قبل مع الجنرال ماك آرثر حين سعى لإقناع الإدارة الأميركية بغزو الصين إبان الحرب الكورية عام 1950، أي بالفصل الفوري من الخدمة العسكرية! ولم ينس مور تذكير أوباما بأن النظام الأميركي نظام مدني وأن جنرالاته يتعين عليهم أن يأتمروا بأمر السياسيين وليس العكس.

بوسعنا أن نخمن الآن شعور مايكل مور العميق بخيبة الأمل عقب سماعه خطاب أوباما في «وست بوينت» وأن ندرك أن خيبة الأمل هذه تنبع من قلق عميق مشروع على دم أميركي جديد سينزف ومال أميركي جديد سيهدر في حرب لا يرى من ورائها أي طائل وقد تؤدي في نهاية المطاف إلى دق آخر مسمار في نعش الإمبراطورية الأميركية مثلما دق الغزو السوفياتي أفغانستان خلال الثمانينات آخر مسمار في نعش الإمبراطورية السوفياتية.

غير أن مايكل مور ليس وحده من يشعر بخيبة أمل كبيرة من أداء أوباما، لأن هناك كثيرين داخل وخارج الولايات المتحدة باتوا يشاطرونه في الواقع الشعور نفسه! صحيح أن شعور الآخرين قد لا يكون نابعاً من قلق على المستقبل الأميركي لكنه نابع بالتأكيد من قلق على السلم والأمن الدوليين في مناطق كثيرة في العالم ومن إحساس بالخطر على مستقبل نظام عالمي ظن كثيرون، وأنا واحد منهم، أنه ربما يتجه للتطور نحو الأفضل في ظل إدارة أوباما. أما الآن فيدرك الجميع أن كل الآمال المعقودة على هذا الرجل بدأت تتبخر، إن لم تكن قد تبخرت نهائياً بالفعل، كلٌّ لأسبابه الخاصة بالطبع. ولا أعتقد أن حضور أوباما وتسلمه جائزة نوبل للسلام هذا العام سيفلح في تقليل هذا الشعور الطاغي بالإحباط وخيبة الأمل من جانب ملايين البشر في كل أنحاء العالم الذين كانوا قد استبشروا خيراً بوصوله إلى البيت الأبيض.

فالعالم العربي، على سبيل المثال، أصيب بصدمة كبيرة، وليس فقط بخيبة أمل، حين رأى رئيس أقوى دولة في العالم يتراجع بشكل مذل ومهين أمام رجل في حجم نتانياهو حين رفض التجاوب لمطالب المجتمع الدولي بوقف كل أشكال الاستيطان في الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية. وعلى رغم إدراك الجميع أن مقترحات نتانياهو بتجميد الاستيطان لمدة لا تزيد على عشرة أشهر، بعد استبعاد القدس واستكمال وحدات تم التصريح ببنائها يصل مجموعها في الواقع إلى ما يقرب من ضعف ما كانت تبنيه إسرائيل في السابق خلال ذات الفترة الزمنية، هي مجرد نوع من الضحك على الذقون، إذا بالجميع يفاجأ بترحيب أوباما بالموقف الإسرائيلي واصفاً إياه بأنه خطوة في الاتجاه الصحيح تتيح فرصة تستحق من الفلسطينيين والعرب أن يغتنموها وأن يتجاوبوا معها على الفور باستئناف المفاوضات من دون تأخير! أكثر من ذلك هناك من الدلائل ما يشير إلى أن إسرائيل ربما تكون نجحت بالفعل في تغيير التوجهات الرئيسة لسياسة الإدارة الأميركية الجديدة تجاه منطقة الشرق الأوسط عن طريق إقناعها بأن البرنامج النووي الإيراني، وليس القضية الفلسطينية، هو مصدر التهديد الرئيس للمصالح الأميركية في المنطقة، ومن ثم يتعين على هذه الإدارة أن تقوم بتحديد معايير جديدة للفرز بين حلفاء وأعداء الولايات المتحدة في المنطقة على أساس الموقف من هذا البرنامج ومدى استعداد الأطراف المختلفة للتعاون مع الولايات المتحدة لإزالة الخطر المحتمل للبرنامج الإيراني بكل السبل والوسائل الممكنة بما في ذلك احتمال استخدام القوة .

أما في مناطق العالم الأخرى فلا جدال في أن هناك قوى رسمية وشعبية كثيرة بدأت تفقد ثقتها في قدرة أوباما على إحداث التغيير المنشود في سياسة الولايات المتحدة تجاه قضايا كثيرة جداً مثل: المحكمة الجنائية الدولية، القضايا البيئية ومشكلة الاحتباس الحراري، قضايا حقوق الإنسان ومدى استعداد الإدارة الأميركية للضغط على أنظمة الاستبداد في العالم... إلخ. ومن الواضح أن معظم دول أميركا اللاتينية لم تعد ترى الآن فرقاً جوهرياً بين السياسة التي انتهجتها الإدارات السابقة وسياسة إدارة أوباما تجاهها. حتى الدول الأوروبية، التي كانت تعول كثيراً على تغير جوهري في السياسة الأميركية، لنقل نمط العلاقة الأميركية الأطلسية من دور التابع الذي كانت إدارة بوش تسعى لفرضه كأمر واقع إلى دور الشريك الفعلي في صنع السياسات العالمية، بدأت تشك كثيراً في نوايا الإدارة الأميركية الجديدة بعد أن اتضح أنها تريد من شركائها الأوروبيين القيام بدور أكبر في تحمل العبء العسكري والاقتصادي للأزمات الدولية، خصوصاً في أفغانستان والشرق الأوسط، ولكن وفق أجندة سياسية مصنوعة في واشنطن. لذا لم يكن غريباً أن تظهر بعض مظاهر احتقان في العلاقة يرى البعض أنها قد تتطور في المستقبل إلى نوع من التمرد، وهو ما يبدو واضحاً من المشروع السويدي حول الموقف الأوروبي من إعلان الدولة الفلسطينية وربما أيضاً حول الاستراتيجية الأميركية الجديدة في أفغانستان.

أدرك أن البعض ما زال يتشبث ببصيص أمل في أن يتمكن أوباما من إحداث التغيير الذي وعد به، خصوصاً على صعيد السياسة الخارجية، من منطلق:

1- أن تركة بوش ثقيلة جداً، 2- أن اليمين الأميركي المحافظ الذي صاغ الرؤية الأيديولوجية لهذه السياسات وتمكن من تحويلها إلى خطط وبرامج عمل على الأرض ما زال قوياً ولديه قواعد راسخة في بنية المجتمع الأميركي، 3- أن عاماً واحداً لا يكفي للتخلص من تركة كهذه ولكسر شوكة القوى الرافضة والمقاومة للتغيير. غير أنه يمكن الرد على هذه الادعاءات بسهولة لأن أحداً لم يتصور ولم يطلب من الرئيس أوباما أن ينجز هذه الأهداف كلها خلال عام واحد. فالمشكلة الحقيقية لا تكمن في فشل أوباما في تحقيق تغيير وعد به بقدر ما تكمن في عجزه عن وضع المجتمع الأميركي وتهيئته لإحداث وتقبل التغيير الذي يريده. إذ يشير منطق السياسات الأميركية المتبعة طوال العام الماضي إلى أن إرادة أوباما في التغيير راحت تضعف رويداً رويداً إلى أن انكسرت كلياً، وربما يكون بدأ يرى الأمور بنظرة أخرى تضع نصب عينها مصالحه الشخصية، خصوصاً ما يتعلق منها بالرغبة في الفوز بولاية ثانية، أكثر مما تضع نصب عينها دعم قوى التغيير التي ساعدته في الفوز في الانتخابات السابقة. لذا تبدو رغبة أوباما الجامحة في التغيير وكأنه تمت السيطرة عليها واحتواؤها وفق منطق المجمع العسكري - الصناعي التقليدي في الولايات المتحدة.

وأياً كان الأمر، فيتعين على العالم العربي أن يراقب ما يجرى على الساحة الأميركية طوال عام مقبل يتوقع أن يكون حاسماً على صعد كثيرة، وأن يتخلى تماماً عن النهج القائل بضرورة تقديم تنازلات تسهل من مهمة الرئيس في التوصل إلى حلول وسط. فلتمكين سيد البيت الأبيض من مساعدتنا، علينا، مثلما قال هو بنفسه، أن نضغط عليه لإحداث التغيير الذي نريده، وهو ما لن يحدث إلا باستخدام كل أوراق الضغط التي نملكها في مواجهة إسرائيل، وليس العكس كما يتصور البعض.

في سياق كهذا أظن أنه يتعين على الدول العربية أن تضغط بكل الوسائل الممكنة لإدخال منظومة الأمم المتحدة طرفاً في البحث عن تسوية للصراع العربي الإسرائيلي في المرحلة المقبلة، وذلك بالاستخدام الأمثل لوثيقتين قانونيتين على جانب كبير من الأهمية. الأولى: تقرير محكمة العدل الدولية حول عدم شرعية جدار الفصل العنصري الذي تقيمه إسرائيل وتطلق عليه اسم الجدار الأمني أو العازل، والثانية: تقرير غولدستون حول الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع وغزة وما ارتكب خلالها من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. إذ يمكن الاستناد للتقرير الأول لإثبات حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم على كل شبر من الأراضي التي احتلتها إسرائيل منذ 5 حزيران (يونيو) عام 1967، أما التقرير الثاني فيمكن الاستناد إليه ليس فقط لمطاردة قادة إسرائيل وتعقبهم أمام المحاكم الجنائية في العالم، الوطنية منها والدولية، ولكن أيضاً لردع إسرائيل عن استخدام القوة العسكرية مرة أخرى كوسيلة لفرض إرادتها على العرب.

أعتقد أننا سنسمع من الإدارة الأميركية كثيراً خلال الأسابيع والشهور المقبلة أن الأولوية لا بد من أن تكون للمفاوضات قبل أي شيء آخر، وأن الذهاب إلى مجلس الأمن أو إلى الجمعية العامة أو إلى محكمة الجنايات الدولية لن يؤدي إلا إلى تأجيل المفاوضات وربما انهيار عملية التسوية السياسية برمتها، كما سنسمع منها كثيراً عن خطر البرنامج النووي الإيراني وضرورة وقفه قبل أن يستفحل. ولا أستبعد أن تجد في العالم العربي من سيصغي باهتمام إلى هذا المنطق ويبدي استعداداً للتجاوب معه لأسباب مصلحية آنية قصيرة النظر. لكن المؤكد أن مثل هذا النهج سيلحق ضرراً فورياً بالمصالح العربية العليا، إن كان قد تبقى منها شيء يمكن المحافظة عليه، كما سيلحق الضرر على المدى الطويل بجميع الدول والأنظمة العربية من دون استثناء. فالقبول به يعني أن مفاوضات فلسطينية إسرائيلية وربما عربية إسرائيلية أيضاً يمكن أن تستأنف، ولكن بلا أي ضمانات تفضي إلى حل مقبول عربياً. والأرجح أن الوظيفة الوحيدة لهذه المفاوضات ستكون تخدير العرب مرة أخرى إلى أن يتم توجيه ضربة عسكرية متوقعة ضد إيران تسعى إليها إسرائيل.

ربما ترحب دول عربية بضربة لإيران، لكن الأرجح أن فرحتها لن تطول كثيراً لأنها ستكتشف، لكن بعد فوات الأوان، أنها خُدعت وأن الأضرار الناجمة عن هذه الضربة أكبر بكثير من فوائدها.

فهل انسد أفق التغيير كلياً أمام أوباما؟ ليس بالضرورة. غير أن إعادة فتحه لإحداث التغيير المنشود عربياً في قضية الشرق الأوسط تحتاج من الدول العربية تغييراً جذرياً في رؤيتها وفي سياستها تجاه كل من الولايات المتحدة وإسرائيل.