خبر ‏16‏ عاما من الوهم‏..‏ ثم ماذا ؟.. د‏.‏ محمد السعيد إدريس

الساعة 09:27 ص|08 ديسمبر 2009

‏16‏ عاما من الوهم‏..‏ ثم ماذا ؟.. د‏.‏ محمد السعيد إدريس

 

د‏.‏ محمد السعيد إدريس ـ الأهرام 8/12/2009

فجأة تحولت المفاوضات الثنائية المباشرة الإسرائيلية ـ الفلسطينية إلي هدف ومصلحة حيوية إسرائيلية بعد طول تمنع ومماطلة وشروط تعجيزية لمجرد إعلان الرئيس الفلسطيني محمود عباس عزمه علي عدم ترشيح نفسه في انتخابات الرئاسة الفلسطينية المقبلة احتجاجا منه علي الرفض الإسرائيلي المطلق لوقف عمليات الاستيطان والتهويد التي تجري في القدس الشرقية والضفة الغربية‏.‏

هذا الإعلان فرض نفسه سريعا علي الإدراك السياسي الإسرائيلي كإنذار مبكر لما قد يحدث من تطورات غير محسوبة لدي الطرف الفلسطيني‏,‏ حتي جاء الإعلان من جانب السلطة الفلسطينية بوجود نية حقيقية لإعلان قيام الدولة الفلسطينية كرد علي كل سياسات المماطلة الإسرائيلية والرفض المتشدد للتوقف عن سياسة الاستيطان‏,‏ وكرد أيضا علي الدعم الأمريكي لهذه السياسة الإسرائيلية وقبول وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون للمطلب الإسرائيلي بجعل السياسة الاستيطانية بندا يطرح علي طاولة المفاوضات القادمة وليس شرطا للقبول الفلسطيني بالانخراط في هذه المفاوضات‏.‏

الإسرائيليون استقبلوا هذا التحول في الموقف الفلسطيني بالرفض المطلق والتهديدات الساخنة من قبيل التهديد بإلغاء جميع الاتفاقيات الإسرائيلية ـ الفلسطينية وفي مقدمتها اتفاقية أوسلو والاتفاقيات الاقتصادية والأمنية‏,‏ وضم الكتل الاستيطانية بقرار أحادي الجانب إلي إسرائيل علي غرار ما حدث بالنسبة لهضبة الجولان السورية‏,‏ لكن الأهم من ذلك أن التخوف الإسرائيلي من هذا التحرك الفلسطيني الجديد اعتبر تخليا فلسطينيا نهائيا عن المفاوضات والانتقال إلي ممارسة الصراع السياسي عن حق ضد إسرائيل في مؤسسات الأمم المتحدة لإقامة الدولة الفلسطينية‏,‏ ودفع بنيامين نيتانياهو إلي التأكيد علي أن المفاوضات مع إسرائيل هي التي ستضمن قيام الدولة الفلسطينية دون غيرها من أية حلول أخري‏.‏

نتنياهو لم يكتف بذلك بل إنه اضطر إلي القبول بإصدار قرار حكومي يقضي بوقف جزئي للاستيطان في الضفة الغربية‏(‏ دون القدس الشرقية التي يعتبرها جزءا أصيلا من أراضي إسرائيل‏)‏ لمدة عشرة أشهر في بادرة حسن نية واستجابة لمطلب وقف الاستيطان كشرط للقبول الفلسطيني بالعودة إلي مائدة المفاوضات رغم أنه لجأ إلي هذه الخطوة كي يكشف للأمريكيين والعالم من هو الطرف المسئول عن عرقلة العودة إلي المفاوضات‏,‏ ويقصد بالطبع السلطة الفلسطينية‏.‏ لماذا كل هذا الحرص الإسرائيلي الآن علي المفاوضات‏,‏ وقبله لماذا كل هذا الحرص علي بقاء أبو مازن علي رأس السلطة ؟

هناك العديد من التفسيرات منها ما ورد في مقال كتبته الدكتورة عينات فيلف الخبيرة بمعهد تخطيط سياسة الشعب اليهودي في صحيفة إسرائيل اليوم‏,‏ حيث اعتبرت أن هناك تغييرا ثوريا يجري تحت السطح في الموقف الفلسطيني بدعم من الجنرال الأمريكي دايتون ومن الاتحاد الأوروبي وخاصة كل من توني بلير وخافيير سولانا يعمل من أجل بناء مؤسسات الدولة الفلسطينية تحت إشراف طاقم رئيس الوزراء الفلسطيني سلام فياض من الضروري وقفه‏.‏ التغيير الثوري الذي تقصده عينات فيلف هو تحول الفلسطينيين من التمرد والمقاومة والتصرف كمراهقين غير قادرين علي أن يتوقفوا عن اتهام الآخرين إلي عملية بناء إلي عملية بناء الدولة والإعداد لإعلانها بدعم من الأوروبيين علي نحو ما كتبت في تلك الصحيفة‏.‏

المعني نفسه أكده دوري جولد المستشار الأسبق للحكومة الإسرائيلية في الصحيفة نفسها‏,‏ عندما أشار إلي أن الرئيس أبو مازن ورئيس الحكومة سلام فياض غير معنيين الآن بالعودة إلي المسيرة القديمة‏,‏ وأن التحرك الجديد يسير في الاتجاه الذي سبق أن أعلنه في يوليو الماضي خافيير سولانا منسق السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي في محاضرة له في لندن بأنه إذا ما علقت المسيرة السلمية في مأزق فإن علي الأسرة الدولية أن تنظر في الاعتراف بدولة فلسطينية بقرار من الأمم المتحدة من دون موافقة إسرائيل‏.‏

هذا يعني أن سبب حرص الحكومة الإسرائيلية الآن علي ضرورة وسرعة استئناف المفاوضات هو الخوف من احتمال اتجاه الفلسطينيين إلي هجر نهائي لعملية السلام التي بدأت منذ عام‏1991‏ واستمرت حتي الآن عبر سياسة المفاوضات‏,‏ والتوجه نحو خيار بديل من شأنه إجهاض كل ما كانت تأمله إسرائيل من وراء استمرار العملية السلمية عبر المفاوضات‏,‏ لكنه يعني أيضا أن الهدف ليس المفاوضات فقط بل الهدف الحقيقي هو عملية السلام نفسها التي يعتبرها الإسرائيليون كنزا لا ينضب من الخيرات‏,‏ علي نحو ما كشف المحلل السياسي المخضرم بصحيفة هاآرتس عكيفا الدار الذي أكد حرص بنيامين نيتانياهو علي بقاء أبو مازن علي رأس السلطة الفلسطينية واستمرار عملية التفاوض باعتبارهما ركيزتي عملية السلام التي تريد إسرائيل الإبقاء عليها إلي أطول مدي‏,‏ وفسر أسباب هذا الحرص والتأكيد علي الاثنين معا‏:‏ أبو مازن والمفاوضات في مقال مهم نشره في هاآرتس‏.‏

فقد كتب عكيفا الدار أنه علي الرغم من التهديدات التي أطلقها ويطلقها نيتانياهو ضد الفلسطينيين‏,‏ فإنه قلق للغاية من احتمال غياب محمود عباس عن المشهد السياسي في المنطقة فهو بحاجة إلي عباس‏,‏ الذي علي مدي‏16‏ عاما‏,‏ أوجد حالة من السلام الوهمي‏,‏ وغطي بذلك علي صوت الجرافات الإسرائيلية التي واصت النشاط الاستيطاني في الضفة الغربية‏.‏ هذا التوصيف المثير والخطير لدور أبو مازن دفع عكيفا الدار إلي التساؤل‏:‏ ماذا ستفعل إسرائيل إذا اختفي عباس والسلطة عن هذا المشهد ؟‏,‏ وأجاب قائلا‏:‏ إن نتنياهو قال لباراك أوباما أنه بحاجة ماسة إلي محمود عباس وسلام فياض لأن غيابهما يعني انقراض المفاوضات وتحويل الضفة بالتالي إما إلي صومال جديد أو إلي منطقة تخضع للسيادة الإسرائيلية‏.‏

لذلك كان لابد لنيتانياهو أن يتمسك الآن بضرورة استئناف المفاوضات للحيلولة دون تداعي عملية السلام التي حققت إسرائيل من ورائها كل ما تريد دون أن تضطر إلي تقديم أي تنازل له اعتباره للشعب الفلسطيني منذ أن وقعت علي اتفاقية أوسلو عام‏1993,‏ وللحيلولة دون ظهور أية بدائل أخري حتي ولو كانت فكرة إعلان قيام الدولة الفلسطينية‏,‏ لأن بقاء عملية السلام تلك التي بدأت منذ عام‏1991‏ مع مؤتمر مدريد هي أهم ضمانات منع قيام الدولة الفلسطينية‏,‏ وأفضل الطرق التي يمكن أن تحقق إسرائيل من خلالها كل أهدافها خاصة تحويل الكيان الصهيوني إلي دولة يهودية بكل ما يعنيه ذلك من تصفية لحق العودة ومن تهديد لوجود عرب فلسطين داخل إسرائيل‏.‏

من هنا يمكن فهم خلفيات إصرار الحكومة الإسرائيلية علي التمسك الآن بالمفاوضات بعد أن كانت تتعمد تجاهلها‏,‏ وعلي رفض مبادرة السلطة الرامية إلي إعلان قيام الدولة الفلسطينية من طرف واحد‏,‏ كما يمكن فهم خلفيات كل هذا التوتر الإسرائيلي الراهن من احتمال إقدام الاتحاد الأوروبي علي اتخاذ قرار يعترف بالقدس الشرقية‏(‏ المحتلة‏)‏ عاصمة للدولة الفلسطينية توطئة لاعتراف أوروبي محتمل بهذه الدولة عند إعلان قيامها‏.‏ فهم يريدون ديمومة استمرار عملية السلام كي يستمر ترويج الوهم للعرب علي حد اعتراف عكيفا الدار‏,‏ كي يبقي الوهم وحده من نصيب العرب‏,‏ ويبقي لإسرائيل كل فرص التمدد والسيطرة وضم وتهويد كل ما تستطيع من أرض فلسطين وإكمال حلم تحقيق الدولة اليهودية التي يعتبرونها مجرد نواة لتحقيق الحلم اليهودي الأكبر الذي يعدون من أجله كل هذه الترسانة الهائلة من الأسلحة الجديدة والمتطورة‏.‏