خبر سقوط «معسكر السلام» الإســرائيلي: نهاية سنغافورة الشرق الأوســط الجديد

الساعة 09:25 ص|08 ديسمبر 2009

سقوط «معسكر السلام» الإســرائيلي: نهاية سنغافورة الشرق الأوســط الجديد

 

شامل العظمة* ـ الأخبار اللبنانية 8/12/2009

قبل أقل من عقدين، اعتقد الكثيرون أن منطقة الشرق الأوسط على أبواب مرحلة جديدة. مرحلة توضع فيها خلافات الماضي جانباً ويعمّ السلام في أرجاء هذا الجزء المضطرب من العالم. لوهلة، بدا أن العالم قد تجنّد لإنهاء هذا الصراع ولصنع الاستقرار في هذه المنطقة التي لم تعرف الاستقرار منذ عقود. في بداية التسعينيات، نظرت النخب السياسية والاقتصادية «العالمية» إلى الصراع في الشرق الأوسط وكأنه من مخلّفات حقبة سابقة. بالنسبة لهذه النخب، فإنّ سقوط المعسكر الاشتراكي والتطورات الاقتصادية والتكنولوجية مهّدت لدخول العالم إلى عصر جديد. عصر لا مكان فيه للنزاعات القومية ولا للصراعات على الأرض. خبر صحافي عن هذه القضية صدم توماس فريدمان أثناء مغادرته مصنع تويوتا في اليابان. أيعقل، تساءل توماس فريدمان في كتابه، أنه في العالم نفسه حيث تصنع تويوتا المستقبل، ما زال هناك أناس يتقاتلون على ملكية شجرة زيتون هنا أو هناك؟ بدا هذا مستهجناً لفريدمان، وهو مدرك أنّنا لا ندخل فقط عالم «نهاية التاريخ» كما قال فوكوياما، بل أيضاً عالم «نهاية الجغرافيا» كما قال أوبراين. في «القرية الكونية» الجديدة، لا مكان للحدود ولا مكان للدول ولا مكان للقوميات وبالتأكيد لا مكان لأشجار الزيتون.

سارعت النخب الاقتصادية والسياسية حول العالم لحجز مقعدها في قطار العولمة. ضمن هذا السياق، أطلق شيمون بيريز حلمه بالشرق الأوسط الجديد. شرق أوسط، كما قال، لا مكان فيه للحروب ولا تمثّل النزاعات الجغرافية أو القومية عقبة أمام التجارة والتعاون الاقتصادي. إسرائيل، بحسب حلم بيريز، ستكون «سنغافورة» هذا الشرق الأوسط الجديد. قلة تساءلت لماذا سنغافورة بالتحديد وما الذي مثلته سنغافورة في تلك المرحلة.

سنغافورة هي دولة ـ مدينة صغيرة في جنوب شرق آسيا تمتلك موقعاً جغرافياً استراتيجياً وعلاقات استراتيجية بالدول الكبرى، وخاصة الولايات المتحدة وبريطانيا. مستفيدة من هذا الموقع وعبر أدوات سياسية واقتصادية تدخلية، أعادت الدولة السنغافورية هيكلة هذه البقعة الجغرافية سياسياً، اقتصادياً، اجتماعياً، وثقافياً بطريقة تمكّن سنغافورة من توطين مراكز التحكم الاقتصادي الإقليمي واستقطاب الإدارات الإقليمية للشركات العابرة للقارات. بهذا، أصبحت سنغافورة حلقة أساسية في الخريطة الاقتصادية لآسيا حيث تتمركز الأنشطة العالية القيمة المضافة، وتدار شبكات الإنتاج الممتدّة في باقي دول المنطقة، ومركز ربط أساسياً بين هذه الأنشطة الممتدة عبر آسيا والمراكز الأساسية للشركات العابرة للقارات في مدن الولايات المتحدة، أوروبا، واليابان.

بيريز، ممثّلاً جزءاً من مجتمع الأعمال الإسرائيلي، حلم بدور مماثل لإسرائيل في الشرق الأوسط. دان غيلرمان، رئيس غرفة التجارة الإسرائيلية، قال في 1993 إنه بإمكان إسرائيل أن تكون مجرد دولة عادية ولكن بإمكانها أيضاً أن تكون المركز الاستراتيجي، اللوجستي، والتسويقي لمنطقة كاملة، لتصبح بذلك سنغافورة أو هونغ كونغ الشرق الأوسط. بدورها، جمعية الصناعيين الإسرائيليين اعتبرت بعد توقيع اتفاق أوسلو أن إسرائيل الآن تعمل وفق نموذج جديد حوّل أعداء الماضي إلى أصدقاء اليوم. ضمن هذا النموذج الجديد، قالت الجمعية: إسرائيل ستصبح «دينامو المنطقة» و«نقطة الدخول المنطقية إليها».

مثال سريع من قطاع صناعة النسيج يوضح كيفية عمل هذا النموذج. مع صعود الصين السريع في هذا القطاع، واجهت الصناعة الإسرائيلية منافسة شرسة في أسواق التصدير. لمواجهة هذه المنافسة، كان على الصناعة الإسرائيلية أن تعيد هيكلة نفسها وأن تخفض كلفة إنتاجها من أجل الحفاظ على وجودها. الحل لمشكلة التنافسية هذه جاء عبر نقل أجزاء من هذه العمليات، وخاصة الأجزاء الكثيفة العمالة، إلى المدن الصناعية في مصر والأردن للاستفادة من انخفاض كلفة اليد العاملة هناك.

بالطبع، من الخطأ الاعتقاد أن الشركات الإسرائيلية هي المتحكّم الأساسي بهذه العملية. فمن يدير العملية هو الشركات العالمية المتعددة الجنسيات التي تتعاقد مع الشركات الإسرائيلية لشراء إنتاجها وتضغط عليها بصورة مستمرة لخفض كلفها. فمثلاً، في مقالة للصحافي وهبي البرادنة، يذكر وهبي أن ثلاثاً من أكبر شركات النسيج الإسرائيلية نقلت جزءاً من إنتاجها إلى الأردن تحت ضغط شركة ماركس وسبنسر البريطانية لخفض كلف الإنتاج. إذاً، نحن أمام شبكة إنتاج معقدة المتحكم الأساسي فيها هو الشركات المتعددة الجنسية التي تتحكم بالأنشطة الاستراتيجية ذات القيمة المضافة العالية، بينما تلزم أنشطة التصنيع وغيرها من الأنشطة ذات القيمة المضافة المتوسطة إلى الشركات الإسرائيلية. هذه الشركات بدورها، تنقل الأنشطة الكثيفة العمالة ذات القيمة المضافة المنخفضة إلى المناطق الصناعية في بعض الدول العربية المجاورة.

تعميم هذا النموذج على باقي القطاعات الاقتصادية وعلى جميع دول المنطقة هو بالتحديد مضمون مشروع الشرق الأوسط الجديد. فإسرائيل بالفعل تمتلك العديد من العوامل التي تؤهلها للعب دور كهذا، فهي الدولة الإقليمية الأكثر اندماجاً في الاقتصاد العالمي، وهي تمتلك علاقات استراتيجية مع الدول الكبرى في العالم، كما أنها متفوقة تكنولوجياً وإدارياً على باقي دول المنطقة. عامل واحد لا تملكه إسرائيل وهو القدرة على دخول المحيط الإقليمي. من أجل نجاح مشروع كهذا، من الضروري أن تتمكّن الشركات المتمركزة في إسرائيل من أن تدير أعمالها في باقي دول المنطقة. مشكلة إسرائيل أنها دولة في حالة حرب أو سلام بارد مع محيطها، مما يجعل السلام ضرورياً لإنجاح مشروع كهذا.

مع اقتراب عقد التسعينيات من نهايته، بدا واضحاً أن مجموعة من العوامل الإقليمية تحد من إمكان تحقيق هذه الرؤية الإسرائيلية للنظام الاقتصادي الإقليمي. في الوقت نفسه، كان الاقتصاد الإسرائيلي يشهد عملية إعادة هيكلة أضعفت الحاجة الاقتصادية لهذا النموذج. أهم عاملين داخليين اقتصاديين إسرائيليين هما صعود قطاع المعلوماتية والاتصالات وقطاع «الأمن الوطني» في بنية الاقتصاد الإسرائيلي.

منذ منتصف التسعينيات، استفادت إسرائيل من صعود صناعة المعلوماتية ومن هجرة واسعة للمهندسين والصناعيين اليهود الروس إليها، لتبني موقعاً في هذه الصناعة الصاعدة. بسرعة شديدة، تحوّلت إسرائيل إلى أحد أهم مراكز هذه الصناعة على صعيد العالم. خلال عشر سنوات من 1990 إلى 2000، ازدادت حصة هذه الصناعة من إجمالي الصادرات الإسرائيلية من 13.8% إلى 33.1% ليصبح الاقتصاد الإسرائيلي واحداً من أكثر الاقتصاديات اعتماداً على صناعة المعلوماتية.

العامل الثاني كان هجمات الحادي عشر من أيلول التي أدت إلى صعود سريع في صناعة ما أصبح يعرف بقطاع «مكافحة الإرهاب والأمن القومي». هذه الصناعة الجديدة التي نشأت عن التقاء الأمن بمفهومه التقليدي بقطاع المعلوماتية والتكنولوجيا بهدف توفير حلول أمنية ـ تقنية لمكافحة «الإرهاب»، مثلت بالنسبة لإسرائيل فرصة اقتصادية ذهبية. فمن جهة، تملك إسرائيل قطاعاً تقنياً متقدماً يبحث عن مصدر جديد للنمو (وخاصة بعد انفجار فقاعة المعلوماتية)، ومن جهة أخرى تملك إسرائيل خبرة واسعة و«سمعة عالمية» في مجال الأمن. بلمح البصر، انتشر المسؤولون الإسرائيليون حول العالم وعلى وسائل الإعلام ليبلغوا العالم بأن هجمات الحادي عشر من أيلول هي مثال على ما تخوضه إسرائيل منذ عقود وأن «الحرب على الإرهاب» التي يخوضها العالم اليوم ليست أكثر من تتمة لحرب تخوضها إسرائيل منذ تأسيسها. على هذا العالم، إذاً، أن يأتي لإسرائيل ويستعين بخبرتها في هذا المجال.

نجحت إسرائيل في تحويل بنية اقتصادها نحو قطاعات ذات مكون تقني معرفي مرتفع في فترة زمنية قصيرة، تأسست عشرات الشركات الإسرائيلية لتعرض خدماتها في الأمن، حماية المطارات، حماية الأحداث، الحماية التكنولوجية وغيرها من فروع «مكافحة الإرهاب وحماية الأمن الوطني». بحسب تقرير صادر عن مركز الصادرات الإسرائيلية، هناك 600 شركة إسرائيلية تعمل في هذا المجال. في عام 2005، وظفت هذه الشركات 25000 شخص وصدرت ما قيمته 3 مليارات دولار. بعض من أشهر زبائن هذه الشركات بحسب التقرير: مطار كينيدي، مطار هيثرو، مطار سنغافورة، قصر باكنغهام الملكي، برج إيفل، إضافة إلى العديد من برامج ضبط الحدود والأحداث السياسية والرياضية حول العالم.

نتيجة هذا التحول الهيكلي، نجحت إسرائيل في المحافظة على معدل دخل مرتفع (وهذه قضية أمن قومي في إسرائيل) عبر أداء مهمات ذات قيم مضافة عالية دون حاجة كبيرة للاندماج في اقتصاد المنطقة وعبر تحويل بنية اقتصادها نحو قطاعات اقتصادية ذات مكون تقني ـ معرفي مرتفع، وبالتالي تخفيف اعتمادها على القطاعات الكثيفة العمالة المعرضة للمنافسة من الدول الرخيصة العمالة. في هذه القطاعات، لا تمثّل الدول العربية المجاورة لا سوقاً واسعاً (حيث السوق الأساسي متركز في الدول الغنية: الولايات المتحدة، أوروبا، وبعض دول آسيا) ولا مصدراً للعمالة لأن متطلبات هذه الصناعة تتمثل في العمالة العالية التأهيل غير المتوافرة في الدول المجاورة. النتيجة كانت أن عوائد السلام الاقتصادية بالنسبة لإسرائيل تراجعت بصورة كبيرة، لذا يجب ألا يفاجئنا سقوط ما سمي يوماً بـ«معسكر السلام الإسرائيلي» ونسيان أهم رموزه وعلى رأسهم شيمون بيريز لشرق أوسطهم الجديد.

ــــــــــــــ

* اقتصادي سوري ـ جامعة مانشستر، بريطانيا

(فكرة المادة مستوحاة من كتاب الصحافية الكندية نعومي كلاين «مذهب الصدمة»)