خبر الجهاد لـ« العدو »... فمن هو؟.. محمد عابد الجابري

الساعة 09:24 ص|08 ديسمبر 2009

الجهاد لـ"العدو"... فمن هو؟.. محمد عابد الجابري

 

محمد عابد الجابري ـ الاتحاد 8/12/2009

رأينا في المقال السابق أن مفهوم الجهاد في الإسلام (القرآن والحديث) يدور حول محورين اثنين: محاربة العدو ومجاهدة النفس. ونريد في هذا المقال أن نبين المعنى أو المعاني التي يتحدد بها الجهاد بالمعنى الأول.

لنبدأ إذن بتحديد مفهوم "العدو" الذي يجب على المسلمين الدخول معه في حرب (القتال). وكما بينا في المقال السابق فـ"العدو" الذي أذن القرآن للمسلمين بمحاربته علانية وإعلان الحرب عليه هم مشركو مكة بسبب أنهم أخرجوا المسلمين من ديارهم بعد أن ساموهم العذاب، فالحرب/ الجهاد هنا هي حرب الدفاع عن النفس والممتلكات والأبناء.. الخ. وقد عرَفت هذه الحرب ثلاث مراحل:

الأولى مرحلة الغزوات الخاطفة التي استهدفت القوافل التجارية لقريش، (ضرب مصالحها الاقتصادية)، والثانية مرحلة الحرب بين جيش المسلمين وجند قريش وحلفائها من القبائل العربية. والثالثة الحرب مع الإمبراطوريتين البيزنطية والكسروية الفارسية.

ذلك أنه على أثر فتح مكة وإسلام أهلها علم الرسول عليه الصلاة والسلام بأن هرقل ملك الإمبراطورية البيزنطية الاستعمارية التي كانت تحتل شمال غرب الجزيرة العربية كان يخطط للهجوم على مكة واحتلالها، خوفاً من أن تقع، بوصفها مركزاً تجارياً دولياً، في نفوذ الإمبراطورية الفارسية، العدو التقليدي للإمبراطورية البيزنطية... أقول عندما علم الرسول بذلك جهز جيشاً (غزو تبوك) لقتال هرقل وإفشال مشروعه الاستعماري الدولي، الشيء الذي اضطر معه هرقل إلى الانسحاب إلى الوراء شمالا بقصد استدراج المسلمين إلى المكان الذي يسهل عليه فيه محاصرتهم والقضاء عليهم.. الخ. ولما وصل الرسول تبوك وأدرك خطة هرقل اكتفى بالاتصال بالقبائل العربية هناك، ومعظمها كانت تدين بالمسيحية، فربط الصلة مع بعضها وأبرم معاهدات مع بعضها الآخر وعاد إلى المدينة. وكان رد فعل هرقل التحرك بين بعض تلك القبائل يحرضها ويقيم تحالفات بينها لمهاجمة المسلمين، الشيء الذي جعل الرسول عليه الصلاة والسلام يقرر تجهيز جيش لمواجهة هذه المحاولة وأسند قيادته للشاب أسامة بن زيد.

لم يبدأ جيش أسامة في التحرك نحو أداء المهمة حتى أعلن عن التحاق الرسول بالرفيق الأعلى. وكان أول ما قام به أبوبكر بعد بيعته خليفة هو إنفاذ هذا الجيش. ليواجه بعد ذلك ما يعرف بـ"حروب الردة"، ردة معظم القبائل العربية وامتناع بعضها عن دفع الزكاة بدعوى أنها كانت واجبة عليهم إزاء الرسول وحده، بينما أخذت قبائل أخرى تعقد تحالفات للهجوم على المدينة والقضاء على دولة الإسلام الوليدة. خاض أبو بكر "حروب الردة"، إذن، في إطار الدفاع عن النفس الذي اكتسى هنا معنى الدفاع عن الدولة والوطن، وجعل حد لفوضى الأعراب وأطماع "المتنبئين" وغيرهم ممن كانت تحركهم الإمبراطورية البيزنطية التي كانت تحتل شمال غرب الجزيرة العربية، أو الإمبراطورية الفارسية المتهاوية التي كانت تمارس نفوذاً قوياً في الشمال الشرقي، العراق وما حوله. وهكذا دخلت دولة الإسلام في سلسلة حروب (فتوحات) مع الإمبراطوريتين حتى انتصرت عليهما وحررت شعوب المنطقة من نفوذهما الإمبراطوري الظالم.

وهكذا يتبين أن "حروب النبي" مع مشركي مكة، و"حروب الردة" زمن أبي بكر و"حروب الفتوحات" زمن عمر بن الخطاب وما تلاها، كانت في واقع الأمر عبارة عن مسلسل تاريخي يجد انطلاقته في نزول آية الإذن بالقتال: دفاعاً عن النفس ضد الذين ظلموا لينتهي إلى مقاومة نفوذ الاحتلال الأجنبي، نفوذ الإمبراطوريتين البيزنطية والفارسية. يقول تعالى: "أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ" (الحج 39- 40). وبالتالي فلم تكن هذه الحروب تهدف، بالقصد الأول، إلى نشر الدعوة المحمدية، بل لقد جاء انتشار الإسلام معها وبعدها بالقصد الثاني. بيان ذلك أن هذه الدعوة كانت منذ المبدأ في مكة دعوة سلمية: "ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ، وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ" الخ (الحجر 125-128)، وقد بقيت هذه الدعوة سلمية في المدينة، عمادها قوله تعالى: "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ، فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" (البقرة 256- 257). أما ما ورد في القرآن من آيات أخرى في شؤون الحرب والقتال فهي ليست في الدعوة إلى الجهاد/الحرب بل هي في تنظيم شؤون القتال عند قيام الحرب على الأسس التي ذكرنا: موضوعها وهدفها تشجيع المقاتلين وحضهم على العمل لكسب النصر... ثم إقرار نظام لتوزيع الغنائم ومعاملة الأسرى...

أما نشر الإسلام في المناطق التي حقق فيها المسلمون النصر العسكري ثم السياسي فقد جاء على القصد الثاني، مع الالتزام بمضامين القصد الأول التي بينتها الآيات المذكورة: وذلك بإرسال دعاة إلى المناطق التي تحقق فيها النصر لجند دولة الإسلام، "يعلمون الناس دينهم"، أي دين الدولة الجديدة التي حلت محل القديمة وأصبحوا مواطنيها سياسياً لكن دون إجبارهم على ترك دينهم، وإنما تؤخذ منهم "الجزية" وهي أشبه بـ"ضريبة المواطنة" وأقرب إلى أن تكون في مقابل "الزكاة" التي قاتل عليها أبوبكر المرتدين الذين رفضوا دفعها.

هذا وقد اختلف الفقهاء فيمن تؤخذ منهم الجزية: فالشافعي ارتأى أن لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب خاصّةً، عرباً كانوا أو عجماً. كما تؤخذ من المجوس اعتماداً على حديث في الموضوع. هذا بينما ارتأى مالك أن الجزية تؤخذ من جميع أجناس الشرك والجحد، عربياً أو عجمياً، تَغْلَبيّاً أو قرشياً، كائناً من كان. ومعنى هذا أن الشعوب التي فتح المسلمون أراضيها وأطاحوا بدولها لا يقتلون، بل يعتبرون مواطنين في دولة الإسلام ويخيرون بين البقاء على دينهم ودفع الجزية، أو الدخول في الإسلام ودفع الزكاة والقيام بغيرها من أركان الإسلام.

ذلك فيما يخص مسألة الجزية. أما حكم الجهاد/القتال (هل هو واجب أو غير واجب) فجمهور الفقهاء على أن الجهاد فرض كفاية، إذا قام به البعض سقط عن الباقي. وفي الحديث عن أبي هريرة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "من آمَنَ باللهِ وبرسولِه وأقامَ الصلاةَ وصامَ رمضانَ كان حَقّاً على الله أن يُدْخلَهُ الجنَّة، جاهدَ في سبيلِ اللهِ أو جلَسَ في أرضهِ التي وُلِدَ فيها"، وفي جميع الأحوال لا يجب الجهاد إلا في حالة الدفاع عن النفس، ولذلك قالوا: "إذا حميت الأطراف وسدت الثغور سقط فرض الجهاد، ولا يتعين وجوبه إلا لثلاثة أسباب: 1) أن يفاجئ العدو بعض بلاد المسلمين فيتعين عليهم دفعه، 2) استنقاذ أسرى المسلمين من أيدي الكفار، 3) أمر الإمام، فمن عينه الإمام وجب عليه الخروج. ولا يجب الجهاد على الذي عليه دَين حل أجله. كما لابد فيه من إذن الأبوين...