خبر الثابت والمتغيّر في الدين والسياسة .. محمد السمّاك

الساعة 11:12 ص|07 ديسمبر 2009

بقلم: محمد السمّاك

التاريخ موقت والجغرافيا دائمة. يتغير التاريخ وتبقى الجغرافيا.

هكذا حدث في هونغ كونغ في عام 1997 عندما طوي العلم الانكليزي وحمله آخر حاكم بريطاني الى لندن. وهكذا حدث في ماكاو بعد حوالي 500 عام من خضوعها للاحتلال البرتغالي عندما طوى الرئيس البرتغالي نفسه عَلََم بلاده وحمله بنفسه الى لشبونة.

انتهى التاريخ البريطاني في هونغ كونغ. ولكن هونغ كونغ الجغرافيا مستمرة، جزءاً من الصين.

وانتهى التاريخ البرتغالي في ماكاو، ولكن ماكاو الجغرافيا مستمرة ايضاً جزءاً من الصين.

ولا بد ان ينتهي التاريخ ايضاً في جبل طارق الانكليزي لتبقى جغرافية هذا الجبل جزءاً من اسبانيا. ولا بد ان ينتهي التاريخ كذلك في سبتة ومليلية المحتلتين منذ عام 1415 لتعودا الى الجغرافيا المغربية ولتضعا بعودتهما نهاية لحروب الاندلس (الريكونكستا) أي حروب الاسترداد!!

كذلك، وكما انتهى تاريخ حملات الفرنجة وبقي المشرق العربي عربياً، لا بد ان ينتهي تاريخ الحملة الصهيونية وتعود فلسطين فلسطينية.

جاء البرتغاليون قبل 422 عاماً الى ماكاو، باسم الكاثوليكية، كما جاء اليهود الى فلسطين باسم الصهيونية، ولكن شهرة ماكاو اليوم ليست في كنائسها ولكن في كازينوهاتها وفي علب الليل المزدهرة فيها، حتى انها تحولت الى لاس فيغاس ثانية!.

وجاء جيرانهم الاسبان الى شمال المغرب باسم الكاثوليكية ايضاً، وبهدف قطع الامدادات الاسلامية عن غرناطة.. والآن وبعد مرور أكثر من 900 عام على عودة غرناطة الى اسبانيا، لا تزال سبتة ومليلية تحت الحكم الاسباني، ولا تزال اسبانيا تعتبرهما جزءاً من ترابها الوطني.

عندما احتلّت البرتغال في عام 1557 مدينة ماكاو (أو جيب ماكاو) كان التنافس على اشده بين الدولتين الكاثوليكيتين البحريتين الكبيرتين البرتغال واسبانيا. فتدخل البابا وسيطاً بينهما. فكانت معاهدة "تورداسيلس" في عام 1494 التي رسمت خطوط السيادة لكل منهما في المحيط الاطلسي؛ ثم في المحيط الهادي.. ببركة البابا ورعايته!!.

وصلت اسبانيا الى الفلبين (وقد سُميت بذلك نسبة الى الملك الاسباني فيليب) وسيطرت على هذا الارخبيل بعد ان تغلبت على المسلمين من اهل البلاد في عاصمتهم "امان الله" والتي اصبحت تعرف فيما بعد باسم "مانيلا". ولايزال اسم "مورو" يُطلق على مسلمي جنوب الفلبين الذين يطالبون بالحكم الذاتي، حتى اليوم وهو الاسم الذي أطلقه الاسبان على مسلمي المغرب "الموروسكيين". وأصبح بمفهومهم كل مسلم هو "مورو".

اذا كان هدف كل من الدولتين اسبانيا والبرتغال استعمارياً توسعياً، فان هدف البابا كان تبشيرياً لنشر المسيحية الكاثوليكية. تمّ تحقيق الهدف البابوي بنجاح كبير في اميركا اللاتينية التي تعتبر اليوم الخزان البشري للكاثوليكية؛ ولكن هذا الهدف فشل في جنوب شرق اسيا، وخاصة في الصين واليابان.

نجح الاسبان في عزل المسلمين في الفلبين ومن ثم في تنصير بقية اهلها الذين لم يكونوا يؤمنون بأي دين. اما البرتغاليون فقد جعلوا من ماكاو جسراً تجارياً لهم بين الصين واليابان. كانت الصين تنتج الحرير والذهب وهو ما كانت اليابان في حاجة اليه. وكانت اليابان تنتج الفضة التي كانت مفقودة في الصين. فتولى البرتغاليون دور الوسيط التجاري بين الصين واليابان وحققوا بذلك ارباحاً كبيرة. ومن خلال عمليات التبادل التجاري استطاعوا التبشير بالمسيحية في اليابان، حتى بلغ عدد المسيحيين اليابانيين في ذلك الوقت 150 الفاً.

اثار هذا النجاح الذي قام به المبشرون الجزويت المستقلون عن سلطة البابا، غيرة المبشرين الفرنسيسكان في الفلبين التابعين لسلطة البابا المباشرة. فتوجه هؤلاء الى اليابان في عملية تبشيرية حماسية وعلنية ـ وليس تحت المظلة التجارية ـ الأمر الذي اثار قلق السلطات اليابانية فطردت في عام 1582 المبشرين الجزويت والفرنسيسكان ومعهم كل الذين اعتنقوا المسيحية من اليابانيين. الا ان بعضهم استطاع الهرب والتخفي.

ولكن بين عامي 1614 و1650 اعتقل معظمهم فعذبوا وأعدم منهم 2100 شخص، بينهم 71 من الجزويت غير اليابانيين. ادى هذا الامر الى انغلاق اليابان دينياً الى ان اضطرت على يد ضابط البحرية الاميركي ماثيو بيري في عام 1865 الى الانفتاح على الغرب ثقافة وديناً. فبنى الفرنسيون كنيسة كاثوليكية فوق تلّة مشرفة على ناكازاكي لا تزال قائمة حتى اليوم بعد أن نجت من القنبلة الذرية الاميركية الثانية التي ألقيت عليها في السادس من آب 1945. وبعد الحرب العالمية الثانية فتحت اليابان ابوابها امام كل المبشرين وخاصة الانجيليين منهم الذين انهمروا عليها من الولايات المتحدة بصورة خاصة، على النحو الذي تشهده اليوم الدول الاسلامية الخمس في آسيا الوسطى.

اما حركة التبشير من ماكاو باتجاه الصين فقد كانت اقل نجاحاً. حتى ان المؤرخ البريطاني دافيد هاو كان يقول "ان تحول الصيني الى المسيحية اشبه ما يكون بتبييض بشرة الحبشي". لقد انطلق مبشرون مغامرون من ماكاو الى جنوبي الصين امثال ميشال رويغياري وماثيو ريتشي. واستطاع هذا الاخير ان ينقل الى الصين العلوم الاوروبية الحديثة في الرياضيات والفلك والبناء والصناعة متخذاً من هذه العلوم مدخلاً للتبشير بالمسيحية.

ولكن في الوقت الذي كانت هذه العملية التبشيرية تتواصل ببطء، ولكن بعمق، قامت بريطانيا بعمل عسكري ضد الصين، ووصلت القوات البريطانية بقيادة جورج ماك كارتني في عام 1793 حتى بيجينغ نفسها، الأمر الذي حمل الصينيين على ربط التبشير بالاستعمار، وبالتالي على استيعاب العلوم الحديثة ورفض الدين الجديد. كان الضابط البريطاني جورج أنسون اول من استخدم انطلاقاً من هونغ كونغ التي احتلّتها بريطانيا في عام 1843 دبلوماسية الزوارق المسلحة ضد الصين. وهي الدبلوماسية التي قضت بغطرستها على احلام المبشرين الجزويت والفرنسيسكان معاً. ولم يتغير هذا الوضع الا في مطلع القرن العشرين حيث استأنفت البعثات التبشيرية من مختلف الكنائس جهودها وتمكنت من اختراق جدار العقيدة البوذية والكونفوشية.

ولذلك فان السلطات الصينية لا تزال حتى اليوم تنظر بعين الريبة والقلق الى هذا النجاح المحدود وتتعامل معه على انه محاولة لضرب وحدة المجتمع الصيني وتناسقه العقدي. استخدمت المدينتان ماكاو وهونغ كونغ كرأس جسر لترويج المخدرات، وكذلك لترويج القمار والدعارة (التي رخصت منذ عام 1930) وسيلة للهيمنة عليها وابتزازها. وقد بقي الاتجار بالمخدرات مشروعاً ومحمياً حتى عام 1947. الا ان الصين نفضت عن نفسها كل تلك الرذائل المصدّرَة اليها، وأصبحت اليوم دولة كبرى بكل معنى الكلمة.

اليس غريباً انه في الوقت الذي تتم فيه تصفية هذه الجيوب الاستعمارية في الشرق الاقصى تصرّ اسبانيا على الاحتفاط بمدينتي سبتة ومليلة في شمال المغرب وكأن حرب الاندلس لم تنته؟. فلم يعد يوجد في العالم كله مناطق محتلة سوى فلسطين والجيبين الاسبانيين في شمال المغرب.

ان استمرار جبل طارق تحت السيادة البريطانية يعني استمرار سبتة ومليلية تحت السيادة الاسبانية كأمر واقع. فاسبانيا التي احتلت هذه المناطق العربية من المغرب في عام 1415 اي قبل سقوط غرناطة، ترفض الانسحاب منهما ما لم تسترجع جبل طارق من بريطانيا.

وهنا تقف لجنة تصفية الاستعمار في الامم المتحدة عاجزة عن التحرك. فالمغرب الذي خاض معركة تحرير الصحراء الغربية من اسبانيا في اطار الوطن المغربي الواحد، يواجه حركة استقلالية في الصحراء تقوم بها حركة البوليساريو بدعم من الجزائر. وبعد انسحاب اسبانيا من الصحراء بضغط مغربي مباشر (المسيرة الخضراء 1974) وجد المغرب ان من الحكمة توجيه جهوده لتكريس مغربية الصحراء اولاً. حتى اذا سويت اوضاع جبل طارق بين اسبانيا وبريطانيا، يمكن اعادة فتح ملف سبتة ومليلية في ظروف دولية واقليمية مؤاتية اكثر.

قد تستطيع سبتة ومليلية الانتظار، ولكن فلسطين لا تستطيع. ففي كل يوم يقضم منها الاحتلال الاسرائيلي قطعة جديدة. وكل يوم يتداعى جدار من جدران صروحها المقدسة في القدس وبيت لحم والناصرة ونابلس.

ولقد أقام الاسرائيليون نموذجاً للهيكل الذي يزمعون بناءه على أنقاض المسجد الأقصى في باحة مجاورة للمسجد. وهي مبادرة أرادوها استفزازية.. ولكن يمكن أن تكون استذكارية للتنبّه اليومي الى خطر تهويد القدس واحتلال ثالث الحرمين الشريفين.

لم يتعلّم الاسرائيليون من دروس التاريخ.. فهل يتعلّم العرب المسلمون والمسيحيون؟.