بقلم: نبيل فهمي
سفير مصر السابق بواشنطن وعميد كلية السياسات بالجامعة الأمريكية بالقاهرة
أتابع بمزيج من الاستغراب والاهتمام الجدل الدائر بالشرق الأوسط خلال الأعوام الأخيرة فيما يتعلق بدور ومكانة مصر بالمنطقة, وهل نفوذها في انحسار؟, استغربت لوصول الامر الي مقارنة مصر بدول حديثة وصغيرة مع احترامي لهذه الدول ولما أنجزته, فهذه مقارنة مجحفة للجانبين, فهل يعقل ان تقارن دولة عمرها اكثر من6000 سنة وتجمع علي اراضيها ربع سكان الشرق الاوسط بدول لم يصل عمرها إلي40 عاما وتعداد سكانها لا يتعدي سكان أحد أحياء القاهرة, هل يعقل اغفال كل ما انجزته مصر وكل ما تملكه ماديا ومعنويا, او تطلب من دول حديثة الوقوف منافسا لدولة مرت بمئات الآلاف من التجارب التي تشكل خبرتها, وتدعم من حنكتها.
مع هذا يدفع البعض ان مصر خسرت دورها, او ان مركز الزعامة عربيا انتقل الي بلد عربي آخر, او خسرته مصر الي خارج الاطار العربي لمصلحة ايران او تركيا, مع تحول الهوية القومية العربية الي هوية دينية اسلامية, وعلي النقيض من ذلك يرد آخرون ان كل هذه الدفوعات ليست الا افتراء الحاقدين وآمال الطامعين, دون وجود أي اساس لها علي الاطلاق او حاجة الي القلق او التفكير. وتقع الحقيقة مثلما هو الحال بالنسبة للكثير من القضايا في موقع ما بين نقيضين يسهل تفنيدها, فأغلب الدول العربية التي يدفع بأنها انتزعت الريادة علي حساب مصر تعتمد علي مظلة أمنية اجنبية لتأمين نفسها, بكل ما يصنعه ذلك من قيود علي حركتها, والآخرون من غير العرب, مهما أنجزوا يصعب عليهم قيادة شعوب عربية لا تنتمي اليهم. وفي المقابل يخطئ من يتصور ان الاوضاع الاقليمية لم تتغير, او انها ستستقر علي ما هي عليه, فهل وقف تاريخ مصر عند الفراعنة لكي يقف تاريخ الشرق الاوسط عند حرب اكتوبر المجيدة, او بداية القرن الـ21 دون تطور او استحداث.
وقد جذبتني هذه الاسئلة الي التفكير فيما وراء هذا الجدل وحقيقة موضوعه, علي امل الوصول الي بعض الخلاصات تساهم فيما هو مهم لنا جميعا, وهو صيانة المصالح المصرية والحفاظ علي مكانتها اقليميا ودوليا, وتذكرت في هذا السياق ما نشره الاستاذ فرانسيس فوكاياما بجامعة هارفارد عندما تحدث عن نهاية التاريخ نتيجة لاختلاف المعايير الدولية المعاصرة في القرن الـ21, بكل ما يحمله ذلك في تعريف وتقدير للقوة واثره علي المنظومة الدولية المعاصرة, وهذا هو مرجع الجدل حول نفوذ مصر في الشرق الاوسط فهل توقف التاريخ في الشرق الاوسط, وتغيرت المنظومة الاقليمية بعيدا عن مركزية الدول القديمة, واستبدلت بالهوية العربية الهوية الدينية, وهو تطور اذا صدق فسيكون علي حساب الدول الرائدة وخاصة مصر. انا لست من المؤمنين بذلك, لاقتناعي بأن التاريخ متصل دون انقطاع, مع وجود احداث وتطورات حاكمة مثل نشر نظام السكة الحديد بالولايات المتحدة مما شكل الشخصية الامريكية وضاعف قواها, او الحرب العالمية الثانية, واكتشاف الترانستور, واخيرا النانو تكنولوجيا, وعلي المستوي الاقليمي غزو العراق بكل ما ارتبط به من تفتيت العالم العربي.
كما أري ان مصر كانت ومازالت اكثر الدول العربية بالمنطقة المؤهلة للتعامل مع التحديات الاقليمية والدولية المعاصرة, لأنها دولة تجارب مختلفة وعميقة, دولة لها جوانب ومزايا متعددة, توفر لها بدائل متعددة للحركة والمناورة, فعلي المستوي العربي لا يوجد منافس حقيقي للريادة المصرية لأنها ريادة في قضايا عديدة, وموضوعات متشعبة وهي ريادة متصلة ومتواصلة, ريادة في اتخاذ المواقف في الحرب والسلام, وفي الممارسة السياسية والامنية, ولا تقلقني حركة الآخرين, او تزعجني نجاحاتهم, بل بالعكس أرحب بكل جهد عربي ايجابي ان كان سعوديا او قطريا او غير ذلك من اجل المصلحة العامة. لأن تلك النجاحات تساعد علي ارساء المناخ السياسي البناء بالمنطقة, مما يدعم من دور الدول الاقليمية الفاعلة ايجابيا ويرسخ من الهوية العربية للمنطقة, وهي الهوية الحضارية والسياسية التي تنطلق منها مصر قبل غيرها في الشرق الاوسط.
أما علي المستوي الاقليمي غير العربي, فالمسألة تختلف بعض الشيء, فالمنافسة الايرانية ـ العربية وللأسف مازالت من الجانبين منافسة طرف علي حساب طرف, ومنظورها وللأسف مرة أخري تاريخي وتقليدي لفرض السيطرة والنفوذ, وليس فقط بين الفرس والعرب, بل حتي بين الشيعي والسني, وبين المنظور الايراني والعربي للدولة الرئيسية.
أما تركيا فهي منافس بناء لمصر, فكلاهما يتطلع للريادة, وينافس علي ذلك بالاسهام الايجابي, وكحلقة وصل بين الشرق الأوسط والعالم الخارجي. ولكن تركيا ليست المنافس الاخطر لمصر علي المستوي العربي, لأن نجاحاتها ليست بالضرورة علي حساب مصر, فتركيا تريد الزعامة الحضارية للمنطقة نحو التحديث, وتتعامل مع العالم العربي من خارجه, وتعمل في الساحة العربية دون ان تنغمس فيها, او تتأثر بها, في حين ان الزعامة المصرية تستند الي هويتها العربية, وثقافتها المشتركة مع الدول العربية, وحقوقها ومصالحها, وارث ورصيد من التفاعلات السياسية المشتركة مع اغلب دول المنطقة, ومن مصلحة تركيا تغليب الهوية الشرق أوسطية للمنطقة في حين تخدم الهوية العربية للمنطقة الريادة المصرية.
واستخلص من كل ذلك انه رغم التحديات التي تواجه مصر, فمازالت هي الاقدر علي ريادة المنطقة العربية والشرق الأوسط, مع ضرورة ان نوقن ان الريادة لا يمكن صيانتها والحفاظ عليها استنادا فقط الي رصيدنا التاريخي والحضاري فالتاريخ لم ينه الا انه لم ولن يتوقف مما يفرض علينا مراعاة الآتي:
* مازالت مصر اقوي الدول العربية واكثرها نفوذا الا انها ليست ولن تكون الطرف الوحيد الذي يتحرك بالمنطقة, ويحسب ذلك لمصلحة مصر وليس ضدها, لأنه نتيجة لنجاح سياسات مصرية في القضاء علي الاستعمار الاوروبي.
* قادت مصر المنطقة طوال سنين طويلة كمنبع للفكر الجديد, وكمساهم في التأثير علي الاجندة الدولية, في ظروف الحرب والسلام, وفي العلم والادب, أي ان الريادة كانت في صياغة مستقبل المنطقة, وليس في تسجيل تاريخها.
* نعلم جميعا الموقف العربي من النزاع ـ الاسرائيلي والمتمثل في مبادرة السلام العربية في قمة بيروت, والمؤسسة علي مبدأ الأرض مقابل السلام, انما هناك حاجة ملحة لتوضيح الرؤية العربية المستقبلية للعالم العربي, وللشرق الاوسط, وموقفها من الموضوعات الرئيسية في الساحة الدولية, وهذا مطلوب لتهدئة قلق وشجون الشباب العربي ذاته, وكذلك لكي نوضح توجهاتنا للعالم, ونشارك في صياغة المستقبل.
* ان الدعوة لقيادة مصر للمنطقة ليست نزعة وانحيازا وطنيا, وانما لأن في اختيار الدولة القيادية تحدد بشكل كبير توجهات المنطقة مستقبلا, فهل هو شرق اوسط عربي وآخرون, او شرق اوسط بهوية شرق اوسطية جديدة, ام شرق اوسطية ديني الهوية.
* ستكون الريادة المستقبلية لمن يؤثر في الاحداث الاقليمية, أي لصاحب المبادرة السياسية والفكرية, ولمن هو قادر ولديه الاستعداد لاستخدام امكاناته الامنية لحماية مصالحه وصيانة المنطقة بحكمة واتزان ولمن أسهم في الحوار الدولي حول المستقبل كطرف فاعل ومؤثر في بلورة الاجندة الدولية
* لذا أقترح ان تكلف مصر مجموعة من الخبراء الرسميين وغير الرسميين بإعداد ثلاث اوراق عمل تتناول.. التصور المصري للعالم والشرق الاوسط وما يجب ان تكون عليه الامور, وكيفية الوصول اليها خلال الـ25 عاما المقبلة وذلك حول ثلاثة موضوعات محددة, الأمن القومي العربي والشرق أوسطي, الوضع الاقتصادي العربي والشرق أوسطي, والوضع الاجتماعي العربي والشرق أوسطي.
ويجب أن تبلور هذه الأوراق مواقف محددة من القضايا, وتبتعد عن الشعارات والعبارات الرنانة, فعلي سبيل المثال, ما هي المخاطر السياسية والأمنية؟ هل هي من دول بعينها, ام جماعات غير رسمية؟ هل هي من اسلحة تقليدية أم تكنولوجيا الفضاء؟ هل ستواجه المنطقة الفقر والبطالة ام نقص العمالة, هل تتطلع لمجتمع علماني مدني ام دول دينية؟ ما هو حق الفرد وما هو حق المجتمع عليه؟ وما هو الموقف العربي من قضية تغيير المناخ وما هو اسهامهم في مواجهة مخاطره, وعلي مصر بعد ذلك مناقشة هذه الأوراق مع بعض الدول ثنائيا, وفي إطار الجامعة العربية, ومع بعض الدول الفاعلة في الشرق الأوسط, وفي إطار مؤتمرات رسمية وغير رسمية, مناقشات من المتوقع أن تكون صعبة وشائكة, إلا أنه تفكير ونقاش ضروري لمصر, ولمنطقتنا اذا اردنا تحديد مستقبلنا بأنفسنا بدلا من ان تفرضه علينا الظروف.