خبر هل وصلنا لنهاية التاريخ في الشرق الأوسط؟ .. نبيل فهمي

الساعة 06:42 ص|06 ديسمبر 2009

بقلم: نبيل فهمي

سفير مصر السابق بواشنطن وعميد كلية السياسات بالجامعة الأمريكية بالقاهرة

أتابع بمزيج من الاستغراب والاهتمام الجدل الدائر بالشرق الأوسط خلال الأعوام الأخيرة فيما يتعلق بدور ومكانة مصر بالمنطقة‏,‏ وهل نفوذها في انحسار؟‏,‏ استغربت لوصول الامر الي مقارنة مصر بدول حديثة وصغيرة مع احترامي لهذه الدول ولما أنجزته‏,‏ فهذه مقارنة مجحفة للجانبين‏,‏ فهل يعقل ان تقارن دولة عمرها اكثر من‏6000‏ سنة وتجمع علي اراضيها ربع سكان الشرق الاوسط بدول لم يصل عمرها إلي‏40‏ عاما وتعداد سكانها لا يتعدي سكان أحد أحياء القاهرة‏,‏ هل يعقل اغفال كل ما انجزته مصر وكل ما تملكه ماديا ومعنويا‏,‏ او تطلب من دول حديثة الوقوف منافسا لدولة مرت بمئات الآلاف من التجارب التي تشكل خبرتها‏,‏ وتدعم من حنكتها‏.‏

مع هذا يدفع البعض ان مصر خسرت دورها‏,‏ او ان مركز الزعامة عربيا انتقل الي بلد عربي آخر‏,‏ او خسرته مصر الي خارج الاطار العربي لمصلحة ايران او تركيا‏,‏ مع تحول الهوية القومية العربية الي هوية دينية اسلامية‏,‏ وعلي النقيض من ذلك يرد آخرون ان كل هذه الدفوعات ليست الا افتراء الحاقدين وآمال الطامعين‏,‏ دون وجود أي اساس لها علي الاطلاق او حاجة الي القلق او التفكير‏.‏ وتقع الحقيقة مثلما هو الحال بالنسبة للكثير من القضايا في موقع ما بين نقيضين يسهل تفنيدها‏,‏ فأغلب الدول العربية التي يدفع بأنها انتزعت الريادة علي حساب مصر تعتمد علي مظلة أمنية اجنبية لتأمين نفسها‏,‏ بكل ما يصنعه ذلك من قيود علي حركتها‏,‏ والآخرون من غير العرب‏,‏ مهما أنجزوا يصعب عليهم قيادة شعوب عربية لا تنتمي اليهم‏.‏ وفي المقابل يخطئ من يتصور ان الاوضاع الاقليمية لم تتغير‏,‏ او انها ستستقر علي ما هي عليه‏,‏ فهل وقف تاريخ مصر عند الفراعنة لكي يقف تاريخ الشرق الاوسط عند حرب اكتوبر المجيدة‏,‏ او بداية القرن الـ‏21‏ دون تطور او استحداث‏.‏

وقد جذبتني هذه الاسئلة الي التفكير فيما وراء هذا الجدل وحقيقة موضوعه‏,‏ علي امل الوصول الي بعض الخلاصات تساهم فيما هو مهم لنا جميعا‏,‏ وهو صيانة المصالح المصرية والحفاظ علي مكانتها اقليميا ودوليا‏,‏ وتذكرت في هذا السياق ما نشره الاستاذ فرانسيس فوكاياما بجامعة هارفارد عندما تحدث عن نهاية التاريخ نتيجة لاختلاف المعايير الدولية المعاصرة في القرن الـ‏21,‏ بكل ما يحمله ذلك في تعريف وتقدير للقوة واثره علي المنظومة الدولية المعاصرة‏,‏ وهذا هو مرجع الجدل حول نفوذ مصر في الشرق الاوسط فهل توقف التاريخ في الشرق الاوسط‏,‏ وتغيرت المنظومة الاقليمية بعيدا عن مركزية الدول القديمة‏,‏ واستبدلت بالهوية العربية الهوية الدينية‏,‏ وهو تطور اذا صدق فسيكون علي حساب الدول الرائدة وخاصة مصر‏.‏ انا لست من المؤمنين بذلك‏,‏ لاقتناعي بأن التاريخ متصل دون انقطاع‏,‏ مع وجود احداث وتطورات حاكمة مثل نشر نظام السكة الحديد بالولايات المتحدة مما شكل الشخصية الامريكية وضاعف قواها‏,‏ او الحرب العالمية الثانية‏,‏ واكتشاف الترانستور‏,‏ واخيرا النانو تكنولوجيا‏,‏ وعلي المستوي الاقليمي غزو العراق بكل ما ارتبط به من تفتيت العالم العربي‏.‏

كما أري ان مصر كانت ومازالت اكثر الدول العربية بالمنطقة المؤهلة للتعامل مع التحديات الاقليمية والدولية المعاصرة‏,‏ لأنها دولة تجارب مختلفة وعميقة‏,‏ دولة لها جوانب ومزايا متعددة‏,‏ توفر لها بدائل متعددة للحركة والمناورة‏,‏ فعلي المستوي العربي لا يوجد منافس حقيقي للريادة المصرية لأنها ريادة في قضايا عديدة‏,‏ وموضوعات متشعبة وهي ريادة متصلة ومتواصلة‏,‏ ريادة في اتخاذ المواقف في الحرب والسلام‏,‏ وفي الممارسة السياسية والامنية‏,‏ ولا تقلقني حركة الآخرين‏,‏ او تزعجني نجاحاتهم‏,‏ بل بالعكس أرحب بكل جهد عربي ايجابي ان كان سعوديا او قطريا او غير ذلك من اجل المصلحة العامة‏.‏ لأن تلك النجاحات تساعد علي ارساء المناخ السياسي البناء بالمنطقة‏,‏ مما يدعم من دور الدول الاقليمية الفاعلة ايجابيا ويرسخ من الهوية العربية للمنطقة‏,‏ وهي الهوية الحضارية والسياسية التي تنطلق منها مصر قبل غيرها في الشرق الاوسط‏.‏

أما علي المستوي الاقليمي غير العربي‏,‏ فالمسألة تختلف بعض الشيء‏,‏ فالمنافسة الايرانية ـ العربية وللأسف مازالت من الجانبين منافسة طرف علي حساب طرف‏,‏ ومنظورها وللأسف مرة أخري تاريخي وتقليدي لفرض السيطرة والنفوذ‏,‏ وليس فقط بين الفرس والعرب‏,‏ بل حتي بين الشيعي والسني‏,‏ وبين المنظور الايراني والعربي للدولة الرئيسية‏.‏

أما تركيا فهي منافس بناء لمصر‏,‏ فكلاهما يتطلع للريادة‏,‏ وينافس علي ذلك بالاسهام الايجابي‏,‏ وكحلقة وصل بين الشرق الأوسط والعالم الخارجي‏.‏ ولكن تركيا ليست المنافس الاخطر لمصر علي المستوي العربي‏,‏ لأن نجاحاتها ليست بالضرورة علي حساب مصر‏,‏ فتركيا تريد الزعامة الحضارية للمنطقة نحو التحديث‏,‏ وتتعامل مع العالم العربي من خارجه‏,‏ وتعمل في الساحة العربية دون ان تنغمس فيها‏,‏ او تتأثر بها‏,‏ في حين ان الزعامة المصرية تستند الي هويتها العربية‏,‏ وثقافتها المشتركة مع الدول العربية‏,‏ وحقوقها ومصالحها‏,‏ وارث ورصيد من التفاعلات السياسية المشتركة مع اغلب دول المنطقة‏,‏ ومن مصلحة تركيا تغليب الهوية الشرق أوسطية للمنطقة في حين تخدم الهوية العربية للمنطقة الريادة المصرية‏.‏

واستخلص من كل ذلك انه رغم التحديات التي تواجه مصر‏,‏ فمازالت هي الاقدر علي ريادة المنطقة العربية والشرق الأوسط‏,‏ مع ضرورة ان نوقن ان الريادة لا يمكن صيانتها والحفاظ عليها استنادا فقط الي رصيدنا التاريخي والحضاري فالتاريخ لم ينه الا انه لم ولن يتوقف مما يفرض علينا مراعاة الآتي‏:‏

*‏ مازالت مصر اقوي الدول العربية واكثرها نفوذا الا انها ليست ولن تكون الطرف الوحيد الذي يتحرك بالمنطقة‏,‏ ويحسب ذلك لمصلحة مصر وليس ضدها‏,‏ لأنه نتيجة لنجاح سياسات مصرية في القضاء علي الاستعمار الاوروبي‏.‏

*‏ قادت مصر المنطقة طوال سنين طويلة كمنبع للفكر الجديد‏,‏ وكمساهم في التأثير علي الاجندة الدولية‏,‏ في ظروف الحرب والسلام‏,‏ وفي العلم والادب‏,‏ أي ان الريادة كانت في صياغة مستقبل المنطقة‏,‏ وليس في تسجيل تاريخها‏.‏

*‏ نعلم جميعا الموقف العربي من النزاع ـ الاسرائيلي والمتمثل في مبادرة السلام العربية في قمة بيروت‏,‏ والمؤسسة علي مبدأ الأرض مقابل السلام‏,‏ انما هناك حاجة ملحة لتوضيح الرؤية العربية المستقبلية للعالم العربي‏,‏ وللشرق الاوسط‏,‏ وموقفها من الموضوعات الرئيسية في الساحة الدولية‏,‏ وهذا مطلوب لتهدئة قلق وشجون الشباب العربي ذاته‏,‏ وكذلك لكي نوضح توجهاتنا للعالم‏,‏ ونشارك في صياغة المستقبل‏.‏

*‏ ان الدعوة لقيادة مصر للمنطقة ليست نزعة وانحيازا وطنيا‏,‏ وانما لأن في اختيار الدولة القيادية تحدد بشكل كبير توجهات المنطقة مستقبلا‏,‏ فهل هو شرق اوسط عربي وآخرون‏,‏ او شرق اوسط بهوية شرق اوسطية جديدة‏,‏ ام شرق اوسطية ديني الهوية‏.‏

*‏ ستكون الريادة المستقبلية لمن يؤثر في الاحداث الاقليمية‏,‏ أي لصاحب المبادرة السياسية والفكرية‏,‏ ولمن هو قادر ولديه الاستعداد لاستخدام امكاناته الامنية لحماية مصالحه وصيانة المنطقة بحكمة واتزان ولمن أسهم في الحوار الدولي حول المستقبل كطرف فاعل ومؤثر في بلورة الاجندة الدولية

*‏ لذا أقترح ان تكلف مصر مجموعة من الخبراء الرسميين وغير الرسميين بإعداد ثلاث اوراق عمل تتناول‏..‏ التصور المصري للعالم والشرق الاوسط وما يجب ان تكون عليه الامور‏,‏ وكيفية الوصول اليها خلال الـ‏25‏ عاما المقبلة وذلك حول ثلاثة موضوعات محددة‏,‏ الأمن القومي العربي والشرق أوسطي‏,‏ الوضع الاقتصادي العربي والشرق أوسطي‏,‏ والوضع الاجتماعي العربي والشرق أوسطي‏.‏

ويجب أن تبلور هذه الأوراق مواقف محددة من القضايا‏,‏ وتبتعد عن الشعارات والعبارات الرنانة‏,‏ فعلي سبيل المثال‏,‏ ما هي المخاطر السياسية والأمنية؟ هل هي من دول بعينها‏,‏ ام جماعات غير رسمية؟ هل هي من اسلحة تقليدية أم تكنولوجيا الفضاء؟ هل ستواجه المنطقة الفقر والبطالة ام نقص العمالة‏,‏ هل تتطلع لمجتمع علماني مدني ام دول دينية؟ ما هو حق الفرد وما هو حق المجتمع عليه؟ وما هو الموقف العربي من قضية تغيير المناخ وما هو اسهامهم في مواجهة مخاطره‏,‏ وعلي مصر بعد ذلك مناقشة هذه الأوراق مع بعض الدول ثنائيا‏,‏ وفي إطار الجامعة العربية‏,‏ ومع بعض الدول الفاعلة في الشرق الأوسط‏,‏ وفي إطار مؤتمرات رسمية وغير رسمية‏,‏ مناقشات من المتوقع أن تكون صعبة وشائكة‏,‏ إلا أنه تفكير ونقاش ضروري لمصر‏,‏ ولمنطقتنا اذا اردنا تحديد مستقبلنا بأنفسنا بدلا من ان تفرضه علينا الظروف‏.‏