خبر منطق « إسرائيل » في مواجهة الضعف.. والقوة .. سمير كرم

الساعة 03:00 م|04 ديسمبر 2009

بقلم: سمير كرم

لا يمكن اتهام العرب بالتقصير في تشييد المؤسسات البحثية ـ مصانع الأفكار ـ الرامية الى فهم إسرائيل: التاريخ، الحروب، الايديولوجيا الصهيونية، السياسات والصراعات الداخلية وكذلك السياسات والصراعات الخارجية، الاوضاع الاقتصادية صعوداً وهبوطاً، النفوذ الصهيوني على اميركا وأوروبا، ادوار المخابرات الاسرائيلية العسكرية والمدنية في بقاع الارض،...الخ.

اذ لا تكاد تخلو عاصمة عربية من مصانع الافكار الحكومية والأهلية المتخصصة بالشؤون الاسرائيلية ككل او من زاوية ما. وهو وضع لم يكن متاحاً عندما كانت البلدان العربية بدرجة او اخرى في حالة حرب مع اسرائيل.

فهل اصبحت حكوماتنا العربية تفهم اسرائيل على نحو افضل مما كنا نفهمها في زمن الصعود القومي؟ هل تستند سياساتنا العربية الرسمية الى دراسة متأنية وعميقة بما يكفي للشؤون والسياسات الاسرائيلية؟ باختصار هل اصبحنا نفهم العقل الاسرائيلي في الوقت الحاضر على نحو افضل مما كنا نفهمه في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي؟

ثمة دلائل على أن مراكز الابحاث العربية ـ فلسطينية وغير فلسطينية ـ تتبرع في تحقيق تراكم هائل من المعلومات عن اسرائيل، لكنها لا تزال مقصّرة في استخراج النتائج الصحيحة والموضوعية لتضعها امام صناع القرار العرب ليتأملوها قبل اتخاذ قراراتهم، خاصة المصيرية، او على وجه التحديد قضايا الحرب والسلام.

الظروف الراهنة ـ ومع الأسف منها الانقسام الفلسطيني بين سلطة ومقاومة ـ تقدم اوضح الأدلة على ان مصانع الافكار العربية بشأن اسرائيل لم تستطع ان تدرس في العمق طبيعة الاختلاف بين الطريقة التي تتعامل بها اسرائيل مع منطق القوة العربي ـ المنطق الذي يأخذ بالمقاومة في مواجهتها، والطريقة التي تتعامل بها اسرائيل مع منطق الضعف العربي ـ المنطق الذي يأخذ طريق التسوية والتنازلات والاعترافات في مواجهة اسرائيل استناداً الى الولايات المتحدة وقدراتها على التأثير في قرارات اسرائيل.

إنها مفارقة هائلة الى حد يصعب معه إيجاد تفسير لهذا الاختلاف بين منهج اسرائيل في التعامل مع السلطة ـ ومع اميركا ـ بشأن الجزئية المتعلقة بتجميد الاستيطان، ومنهج اسرائيل بالتعامل مع المقاومة - ومن يساندونها - بشأن الجزئية المتعلقة بتبادل الأسرى. لكن التفسير لا يعود مستحيلاً ولا صعباً اذا رأينا الطريقة الاولى منهجاً للتعامل مع الضعف والثانية منهجاً للتعامل مع القوة. فالأمر الذي لا شك فيه ان المحادثات غير المباشرة بين اسرائيل وحركة حماس بشأن تبادل إطلاق الأسير الاسرائيلي جلعاد شاليط مقابل إطلاق الأسرى الفلسطينيين هي محادثات ناتجة عن فعل القوة الذي انتهى بأسر شاليط، بل إن المقاومة الفلسطينية هي الطرف الداعي لاستخدام القوة ضد إسرائيل كوسيلة لتحقيق الأهداف الوطنية التحررية للفلسطينيين.

وبالمقابل فإن الامر الذي لا شك فيه ان السلطة الفلسطينية اتخذت قرارها بأن تدخل في محادثات مباشرة مع حكومة اسرائيل من موقع الضعف، من موقع التعهد لإسرائيل والولايات المتحدة بـ «نبذ العنف» واستنكار المقاومة والتبرؤ منها بل ـ اذا امكن ـ إنهاء وجودها. فكيف تقابل اسرائيل هذا المنطق وكيف تتعامل مع السلطة بل وكيف تتعامل مع الفلسطينيين الذين يعيشون تحت سلطة هذه السلطة. هل نقول إن اسرائيل لا تحترم ضعف السلطة الفلسطينية بينما تحترم قوة المقاومة الفلسطينية؟ ربما يكون هذا هو الشعور الداخلي لدى الاسرائيليين...لكنهم لا يعبرون عنه صراحة وبطريقة مباشرة انما يتركون العالم، وبالأخص وسطاء هذه المفاوضات، ليفهموا ان اسرائيل مستعدة لتلبية طلبات المقاومة، بل ان اسرائيل تعي تماما ان المقاومة قادرة على الوفاء بالتزاماتها الى ادق التفاصيل.

تدخل اسرائيل في محادثات سلمية ـ بوساطة المانية، ويقال إنها وساطة ايضا مصرية ـ من اجل اطلاق سراح اسيرها شاليط وتبدي ساعة وراء اخرى من الضعف ما يلزمها بالموافقة على إطلاق سراح مئات من الاسرى الفلسطينيين. وتبدي ايضاً استعداداً عملياً لتقديم مزيد من التنازلات ازاء مطالب المقاومة بشأن شروط جماعية وشروط فردية تتعلق بمن يُطلَق سراحهم من الاسرى الفلسطينيين. اسرائيل هنا تتعامل مع المقاومة وكأنها تتعامل مع دولة لها مركزها ولها قدرتها ... تماماً كما فعلت مع حزب الله من قبل.

تعاملت اسرائيل مع دولة لبنان بمنطق واختارت ان تعاقب لبنان بأكمله عسكرياً في حرب صيف 2006، وبعد ان اجبرت اسرائيل على ان توقف آلتها الحربية في مواجهة حزب الله تعاملت معه بمنطق مختلف. فقد دامت الحرب 33 يوماً لم تستطع إسرائيل فيها ان تحقق مكسباً عسكرياً واحداً. خرجت مهزومة عسكرياً وسياسياً واضطرت لأن تدخل في محادثات إطلاق سراح الاسرى. ثبت بالدليل القاطع ان اسرائيل تسلم بقدرة حزب الله على الدخول معها في اتفاق بشأن تبادل الاسرى وتطبيق هذا الاتفاق والالتزام بما نص عليه اذا التزمت اسرائيل بما نص عليه حتى أدق التفصيلات.

هذا هو الفرق بين إسرائيل منتصرة وإسرائيل مهزومة. وهي لهذا لا تتعامل في قضية تجميد الاستيطان مع السلطة الفلسطينية، التي أصابتها العزلة والتراخي، بنفس الاستقامة التي تتعامل بها مع المقاومة في قضية تبادل الاسرى. وعندما تحدثت وزيرة إسرائيلية متطرفة ـ هي وزيرة الثقافة ليمور ليفنات ـ عن قرار حكومتها التي يرأسها بنيامين نتنياهو فإنها ارادت ان تلقي اللوم كله على طرف غير اسرائيلي... على باراك اوباما الرئيس الاميركي الذي وصفته بأنه «يذيق نتنياهو الامرّين». فهو الذي مارس ضغوطه على رئيس الوزراء الاسرائيلي فاضطره لاتخاذ قراره بتجميد الاستـيطان في الــضفة الغربية بصورة مؤقتة. ووصفت الوزيرة الاسرائيلية وضع اسرائيل بأنه معقد والادارة الاميركية بأنها متشددة (...)

وعندما تحدث وزير خارجية اسرائيل افيغدور ليبرمان عن القرار الاسرائيلي نفسه ـ بعد رفض السلطة الفلسطينية له ـ قال إنه «لا أهمية لرفض السلطة الفلسطينية لخطة اسرائيل وقف بعض اعمال البناء في مستوطنات الضفة الغربية لمدة عشرة اشهر». وأضاف ليبرمان إن «الفوز بالتأييد الدولي اكثر اهمية» من الحصول على موافقة السلطة الفلسطينية. هذا مع ان موافقة السلطة الفلسطينية كانت مطلوبة لاستئناف محادثات السلام بين اسرائيل وهذه السلطة وليس بين اسرائيل والمجتمع الدولي.

اما خارج الحكومة الاسرائيلية فإن الصحافي الاسرائيلي جدعون ليفي تساءل في صحيفة «ها اريتس» الاسرائيلية»، «لماذا نستطيع ان نتحدث مع حماس بشأن شاليط انما ليس بشأن السلام»؟ وقال لقد «حان الوقت لكي نخلص انفسنا نهائياً من بعض التحريمات الحمقاء التي نفرضها على انفسنا وعلى المجتمع الدولي بأسره». وتحدث ليفي عن المحاولات الفاشلة التي قامت بها اسرائيل لإجبار حماس على إطلاق سراح شاليط بالقوة العسكرية، وأضاف «وعندما ادركت اسرائيل اخطاءها التي لا يزال مليون ونصف المليون من المقيمين في غزة يدفعون ثمنها بأجسادهم وأرواحهم فإن اسرائيل حولت انتباهها الى الوسيلة الوحيدة العادلة والفعالة وهي المفاوضات الدبلوماسية».

بطبيعة الحال لم يذكر الصحافي الاسرائيلي شيئاً عن منطق القوة كما تمثله المقاومة ومنطق الضعف كما تتبعه السلطة الفلسطينية كسبب لاختلاف السلوك الاسرائيلي.

لكن كاتباً اسرائيلياً آخر ـ هو اسرائيل هاريل، وهو ليس من الصحافيين الاسرائيليين ذوي التوجه الليبرالي مثل ليفي ـ أدرك من هذا الدرس نفسه عجز إسرائيل عن تعلم الدرس من الثمن القاتل لاستسلامها السابق. وهو يقصد باستسلام اسرائيل السابق قبولها دفع الثمن غالياً في تبادل الاسرى مع حزب الله. ويستنتج «ان ثمة شيئاً أساسياً قد أصابه الخطأ في غريزة اسرائيل للبقاء». ويقول «لقد تحولنا من مجتمع متفائل محب للحياة ويشعر بمسؤولية جماعية الى مجتمع يندب وينعى، مجتمع يطالب بحقوق كثيرة ويتلقى ما يطالب به من دون التزامات، مجتمع ينظر الى الفرد باعتباره القيمة الاسمى، وعدونا يدرك هذا ويعرف أياً كان الثمن الذي سيطالب به فانه سيحصل عليه».

عندما تنجح المفاوضات غير المباشرة وتتم عملية تبادل الاسرى ـ شاليط من ناحية ومئات الاسرى الفلسطينيين من ناحية اخرى ـ وهي لم تتم حتى كتابة هذه السطور وقد تتم خلال الوقت الذي ينقضي بين كتابتها ونشرها ـ يكاد يكون من المؤكد ان يحدث تماماً ما حدث داخل اسرائيل على اثر تبادل الأسرى بين اسرائيل وحزب الله. ستزداد اسرائيل اكتئاباً وتشاؤماً بسبب تعمق الانقسام بين الاعتراف بالأمر الواقع وقبول السلام ودولة فلسطينية حقيقية من ناحية، ومن ناحية اخرى العودة الى الجذور العنيفة لإسرائيل واستخدام القوة لمنع السلام من ان ترافقه دولة فلسطينية حقيقية... وبالتالي الاستعداد لحرب عربية اسرائيلية اخرى تفرضها اسرائيل...

هل سيكون هذا نتيجة لضعف إسرائيل امام سياسة القوة التي تأخذ بها المقاومة، ام انه سيكون نتيجة ضعف السلطة الفلسطينية وتخاذلها طلباً لسلام اسرائيلي اميركي ودولة فلسطينية ناقصة منزوعة السيادة ومنزوعة السلاح؟

لا تستطيع السلطة الفلسطينية ان تدّعي لنفسها التسبب في احداث الاثار السلبية التي ينضح به جسم المجتمع الاسرائيلي وروحه. وبالمثل لن تستطيع دول الاعتدال ـ المنظومة التي تتزعمها مصر بلا حرص والسعودية انما بقدر قليل من التردد ـ ان تنسب لنفسها اياً من ظواهر الضعف التي تصيب اسرائيل. وحدها المقاومة ـ بما في ذلك ما يمكن ان يكون باقياً منها في زوايا السلطة، بدليل الاعتقالات اليومية في الضفة الغربية التي تنفذها السلطة بالتنسيق مع اسرائيل وتنفذها اسرائيل بالتنسيق مع السلطة - تستطيع ان تنسب الى عملها وسياساتها ما يصيب اسرائيل من ضعف حتى وهي في ذروة قوتها من حيث التسليح والتدريب والمخابرات.

متى تدرك اسرائيل هذه الحقيقة فتتعامل مع المقاومة باعتبارها الطرف الآخر القادر على صنع الحرب وصنع السلام اذا توفرت شروطه؟

هذا هو السؤال الصعب الذي يحاول انصار حل الدولة الواحدة ان يقدموا له إجابة واضحة ممكنة وقادرة على الاستمرار ...فيما يتأكد مع الوقت ان حل الدولتين، ووراءه قوة اميركا ونفوذها، ووراءه استسلام منظومة الاعتدال العربية بما فيها السلطة الفلسطينية انتظاراً لرئيس اميركي يستطيع ان يضغط على اسرائيل ـ يعاني من شلل حقيقي يعجزه عن الحركة.

والآن مطلوب من مصانع الافكار العربية ان تنظر بعين العقل الموضوعي الى المقاومة ودورها في إضعاف اسرائيل لتصل الى استنتاجات سليمة ومشروعة بشأن المستقبل الفلسطيني والعربي. ويتطلب هذا اول ما يتطلب ان تعمل وتبحث وتستنتج بعيداً عن سطوة الحكام المعتدلين وتأثيرات النفوذ الثقافي الاميركي.