خبر الأتراك قادمون لدور تخلّى عنه العرب .. جميل مطر

الساعة 09:30 ص|03 ديسمبر 2009

بقلم: جميل مطر

عائد من بلاد الشام بعد أن سمعت وتقصيت عن أسباب صخب شديد فى عواصم عربية عديدة. رحت إلى هناك أبحث وأنقب لمعرفة مصدر الصخب المتصاعد هناك. وجدت لبنان كعادته صاخبا ولكنه لم يكن، على غير ما عودنا، مصدر الصخب الذى أبحث عنه.

وجدته لاهيا بمشكلة البحث عن صيغة مناسبة لبرنامج حكومته الحديثة، ومستمتعا بالصخب الآتى من وراء حدوده.

ولم يكن الأردن المصدر، وجدته فائرا بغضب مكتوم فى أعقاب تعرض الناشط والنقابى اللامع ليث شبيلات إلى «علقة» ساخنة على أيدى عدد من «البلطجية»، ولم أكن أعرف أن هذا النوع من الخبرة وصل إلى هناك، بعد أن استقر فى عدد من دول شمال أفريقيا واستقر فيها محققا إنجازات فاقت إنجازاته فى دول المنشأ. ولم يطل أمد الفوران إذ سارع ملك الأردن بحل الحكومة بأمل أن يؤدى تغيير الوجوه إلى ترطيب الأجواء. هنا أيضا فى الأردن، كما فى لبنان، كانت الأسماع مشدودة إلى الصخب الآتى من وراء الحدود.

ولم يكن العراق مصدر الصخب، أو على الأقل لم يكن مصدر هذا الصخب تحديدا، وعلى كل حال لم أذهب لأتحقق بنفسى مثلما فعلت فى لبنان والأردن، ولكن جاء من هناك أصدقاء عديدون، يحمل كل منهم حكاية مختلفة عن حقيقة ما يدور فى البصرة وفى بغداد وفى الموصل وفى كركوك وإربيل، ولديهم جميعا حكاية مشتركة، إنها حكاية الجنرالات الأمريكيين الذين اعتزلوا الخدمة العسكرية أو تقاعدوا ليعودوا رؤساء لشركات عابرة الجنسية تحتكر استخراج ثروات البلاد وتصديرها، وبخاصة نفط الشمال،

ويطلق عليه الآن فى الغرب وفى بعض الصحف التركية نفط الأكراد بعد أن عرفه العالم على امتداد مائة عام بنفط العراق. هناك كما فى لبنان والأردن، كان العراقيون مشدودين إلى تطورات وراء حدودهم والى صخب من نوع مختلف عن الصخب الذى عاشوا فى أصدائه منذ الغزو الأمريكى فى عام 2003.

انبهار صاخب فى سوريا

لم يبق غير سوريا، وهى التى عرفناها مصدرا دائما للصخب فى المنطقة، وجدناها هذه المرة مصدرا وساحة للصخب فى آن واحد. تغيرت أشياء كثيرة فى المنطقة العربية، سقطت أيديولوجيات ونشبت حروب وقامت تحالفات وتغيرت خرائط وبقيت سوريا مصدرا أساسيا من مصادر الفعل والحركة فى هذه المنطقة الشاسعة التى أنجبت معظم الأنبياء والرسل وأثمرت عشرات الأديان وأبدعت فى صنع الطوائف والمذاهب والأعراق.

كانت دمشق، عندما زرناها، خارجة لتوها من معركة دبلوماسية مع حكومة بغداد التى اتهمتها بتدبير مذبحة الأربعاء الأسود قبل أن تسعى لتدويل اتهامها أسوة بمحاولة أطراف لبنانية وأطراف عربية ودولية تدويل اتهام سوريا بالضلوع فى مصرع رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريرى.

هذه المرة لم تنفعل حكومة دمشق كما انفعلت عندما وقع اتهامها بقتل الحريرى، وهذه المرة لم توافق الدول الغربية على تدويل الاتهام بتدبير مذبحة الأربعاء الأسود التى وقعت فى العراق و لم تؤيد مساعى السيد نورى المالكى لتدويل قضيته مع سوريا.

سوريا التى كانت منذ عامين، لا أكثر، واقعة تحت الحصار والصعوبات الدولية والعربية، هى الآن صاحبة فضل، معترف به فى فرنسا وغيرها من دول الغرب وفى المملكة السعودية، فى تشكيل حكومة فى لبنان، ومدعوة لتقديم فضل آخر فى تسهيل انسحاب القوات الأمريكية من العراق، ومعروض عليها المساهمة فى الجهود الجارية لإقامة نظام إقليمى جديد فى الشرق الأوسط ومطلوب منها أن تلعب وبكفاءة والتزام دور بوابة تركيا إلى العالم العربى والعالم العربى إلى تركيا. فى كلمات قليلة أستطيع القول إن سوريا عادت موضوع سباق تشترك فيه دول غربية وآسيوية وعربية.

عادت سوريا، ومعها المنطقة، إلى حالة أطلق عليها باتريك سيل الصحفى البريطانى المعروف تعبير «الصراع على سوريا» فى كتابه ذائع الصيت، وركز عليها مالكولم كير أستاذ العلاقات الدولية الشهير ورئيس سابق للجامعة الأمريكية فى بيروت فى كتابه الأشهر بعنوان «الحرب الباردة العربية».

رأينا دمشق الرسمية فى هذه الزيارة سعيدة، ورأينا شعب سوريا أيضا سعيدا. ولكنها السعادة المصحوبة بصخب شديد انتقلت عدواه إلى كل دول الشرق الأوسط، ووصلت أصداؤه إلى دول الغرب ومعها أصداء صخب مماثل وإن باعتدال من دول القوقاز وإيران ودول فى وسط آسيا، حتى الصين ودول جنوب آسيا وأفريقيا انضمت إلى الدول الباحثة عن تفسير، وكذلك الدول التى توترت أعصاب السياسيين بها وانتابهم القلق.

عدت من بلاد الشام متيقنا أن وراء الصخب الكلامى والقلق السياسى والانبهار الإعلامى والأكاديمى ووراء فورة النشاط فى جميع وزارات خارجية دول الاقليم، روايات وأفعال وممارسات تجتمع جميعا تحت لافتة تحمل عنوانا من أربع كلمات هى «تركيا تعود إلى الشرق الأوسط».

فى البداية بدا لى الاهتمام العربى و الإسرائيلى مبالغا فيه، وتصورت لبعض الوقت أن الصخب السائد فى المنطقة حول هذه العودة ما هو إلا فقاعة فى عصر فقاعات كثيرة، مالية أو سياسية، ما أن يكتمل تكوينها إلا وتنفجر، وتسرب إلى نفسى الشك فى أن التركيز الإعلامى الغربى على التغيرات فى السياسة الخارجية التركية تجاه الشرق الأوسط هدفه دفع حكومة حزب العدالة والتنمية إلى الكشف عن نواياها الحقيقية واتجاهاتها الدينية والتزاماتها الليبرالية والديمقراطية.

وما كان يمكن أن أجد إجابة شافية عن سؤال أو آخر من أسئلة كثيرة تراكمت فى الذهن، وأزيل شكا أو آخر من شكوك ثبتتها فى النفس ذكريات علاقات أليمة وتاريخ مأساوى ربطنا لعدة قرون بالأتراك، وأتيقن من سلامة فكرة تزداد إلحاحا منذ وقت غير قصير تدعونى إلى الاهتمام بالعواقب المحتملة لاستمرار حالة الفراغ القيادى التى تمسك بخناق الأمة العربية و كذلك بالأمة الإسلامية، إنها فكرة تتعلق بضرورة تكثيف كل الجهود العربية بحثا عن جهة أو تجمع أو دولة تملأ هذا الفراغ وتمنعه من أن «يشفط» إلى القاع دولة عربية بعد أخرى، وقيمة قومية أو إسلامية بعد أخرى، وآمال شعوب تريد أن تنهض.

بسبب هذا الصخب ورغبة فى الحصول على إجابات وحرصا على إزالة شكوك وتثبيت يقين أو آخر، وللتعرف على جهود سد الفراغ الاقليمى، لم أتردد فى قبول دعوة للسفر إلى تركيا للالتقاء بمفكرين أتراك، عسى أن أجد بينهم من يروى عطشى إلى معلومات جديدة وتحليلات عاقلة ورؤى مختلفة، ولنرى بأنفسنا، وعلى الطبيعة، كيف تنهض الأمم بعد أسبوع قضيناه فى بلدنا وفى الجزائر أيضا رأينا فيه دلائل ومؤشرات مؤكدة عن أمة تقاد إلى التخلف.

هناك فى وديان هضبة الأناضول الآسيوية وعلى مسافة غير بعيدة من إسطنبول الأوروبية بدأنا رحلة البحث عن تفسير للصخب الذى تسببت فيه تركيا.

ثقة عظيمة فى النفس

«الدولة التى تجهد نفسها للتأثير من خلال حدودها باستخدام القوة الناعمة، هى الوحيدة التى تمكن من المحافظة على نفسها». تنسب هذه الكلمات إلى أحمد داود أوغلو، المعروف فى تركيا والعالم الغربى باسم أحمد دافتوغلو، الرجل الذى تولى منصب وزير الخارجية التركية منذ فترة غير طويلة قضى معظمها متنقلا بين عواصم الدول المجاورة، كنت فى تركيا وكان فى إسبانيا.

كنت أسأل عن علاقات تركيا بالدول الأوروبية المنضمة إلى الاتحاد الأوروبى، ومدى الإنجازات التى حققتها تركيا فى الشرق الأوسط، بينما كان أوغلو فى إسبانيا يجيب عن سؤالى قبل أن يسمعه منى فيقول للإسبان «لن تستطيعوا فهم تاريخ خمس عشرة عاصمة أوروبية إذا لم تفتحوا الأرشيف العثمانى وتقرأوا تفاصيل أحداث القرون الخمسة الماضية»، بهذه الدرجة من الثقة يتحدث الوزير التركى. وليس وحده على كل حال.

ففى زيارة خلال الأسبوع الماضى إلى «حكومة» كردستان قال ظافر شاجلان وزير التجارة التركية فى احتفال جرى فى مدينة الموصل وهو يفتتح قنصلية جديدة من بين قنصليات عديدة قررت تركيا فتحها بالعراق: «نحن أبناء العثمانيين جئنا إلى هنا لنعلن عن اهتمامنا بتنمية الموصل تماما كما فعل أجدادنا عبر القرون».

الغرب غاضب

ولا يقتصر الشعور بالثقة فى النفس وفى تركيا على قادة حزب العدالة والتنمية وعلى رأسهم رجب طيب أردوجان، ففى أوساط تركية عديدة سمعنا الناس تردد عبارات تنبئ بغضب مكبوت تجاه الغرب «الذى لا يريد أن يتفهم أهداف السياسة الخارجية النشطة التى تنتهجها تركيا».

استنكر أحد الأتراك أمامى تعمد دول غربية الاستهانة بسياسة تركيا الحديثة، وأشاد بموقف حكومة أردوجان والإعلام التركى من انتخاب رئيس وزراء الدنمارك سكرتيرا عاما لحلف الأطلسى، وهو الرجل الذى لم يرتح الأتراك لموقفه خلال أزمة الرسوم الكاريكاتورية، إذ بدا غير منصف لمشاعر الطرف الإسلامى، يقول محدثى، «لا يهمنا الآن ما يقال عن أن تركيا بهذا الموقف اختارت مراعاة الحساسية الإسلامية وأهملت مراعاة الحساسية الأوروبية الليبرالية».

ولا يخفى لأتراك دهشتهم للحملة الإعلامية فى الولايات المتحدة وحملة الأكاديميين الأمريكيين ضد الانفتاح التركى على الشرق الأوسط والعالم الإسلامى عموما. حول هذا الموضوع يقول إبراهيم كالين مستشار رئيس الوزراء للسياسة الخارجية، «غريب أمر هذا الغرب. عندما انفتح الأمريكيون على روسيا قيل إنه عهد جديد فى الدبلوماسية. ولكن عندما انفتحنا على الجيران سئلنا إن كنا قررنا تبديل تحالفاتنا؟».

وفى جدل مثير يقول وزير المالية الجديد فى حكومة أنجيلا ميركيل فى برلين «إنه لو صارت تركيا عضوا كامل العضوية فى الاتحاد الأوروبى فلن تتمكن من ممارسة وظيفة الجسر الذى تدعى أنها تستطيع أن تفيد منه جميع الأطراف بما فيها الأطراف الغربية والشرقية فى وقت واحد. إن الجسر التركى مثل أى جسر لا يمكن أن يكون تركيا غربيا من جهة وتركيا إسلاميا أو شرقيا من الجهة الأخرى». بمعنى آخر، الجسر يكون تركيا غربيا أو لا يكون.

مثل هذا الكلام، إن دل على شىء فإنما يدل على أنه ناتج عن انفعال أكثر من كونه ناتجا عن تعقل وروية، يرد عليه إيجيمين باجيس EGEMIN BAGIS وزير شئون الاتحاد الأوروبى فى الحكومة التركية بالقول «كان الغرب يقول لنا.. تركيا جسر بين الشرق والغرب، الآن تركيا لا يمكن أن تكون إلا أوروبية.. كيف يمكن لجسر أن يقف على دعامة واحدة فى جهة واحدة».

جدل فى الغرب، وجدل بين الغرب وتركيا، وجدل أشد صخبا فى تركيا، وجدل صامت كالعادة بين المسئولين فى العواصم العربية ولكن صاخب بين المثقفين العرب والمسلمين فى جميع أنحاء الشرق الأوسط، وجدل فى روسيا وبين روسيا وتركيا، وجدل فى إيران وبين إيران وتركيا. كان مذهلا أن تكون تركيا أول دولة تهنئ نجادى بفوزه فى الانتخابات التى قيل إنها خضعت للتزوير.

كان مذهلا أيضا ما سمعته فى إسطنبول عن تخلى حكومة أردوجان عن قاعدة ثابتة لم تتغير إلا حين، ووفق للرئيس الإيرانى على أن تجرى مراسم استقباله فى زيارته لتركيا فى مدينة إسطنبول ليتفادى الجميع إحراج نجادى إذا زار أنقرة، إذ كان سيتعين عليه زيارة ضريح كمال أتاتورك ووضع الزهور على قبره.

وليس سرا أن تركيا أبلغت الولايات المتحدة رفضها المطلق لأى محاولة لضرب إيران لأنها تدرك جيدا أن ضرب إيران يعنى احتمال وقوع اضطرابات فى سوريا ولبنان وكلاهما تحرص تركيا أشد الحرص على حماية الاستقرار فيهما فضلا عما يمكن أن يحدث فى العراق.

هناك طرفان فى تركيا يعيشان حالة انتظار لمعرفة إلى أى حد تبدو حكومة حزب العدالة والتنمبة مستعدة للاعتراف بحقوقهما. الأكراد لا يصدقون أن ما يحدث فى أنقرة وأكثره يخص مستقبلهم يسير فى اتجاه إيجابى لمصلحتهم. والعلويون ونسبته لبقية السكان قد تصل إلى ما يقرب من 15 بالمائة.

هؤلاء يعرفون أنهم يمثلون ورقة مهمة فى تطور العلاقات التركية السورية منذ أن اقتطعت تركيا لواء الإسكندرون من سوريا وضمته إليها. وعندما سألت عما إذا كان هؤلاء العلويون أنفسهم ورقة يمكن لسوريا أن تستخدمها للضغط على تركيا قوبل سؤالى بالاستنكار.

والأرمن حائرون، هل يقبلون باعتذار تركى خافت الصوت عن مذبحة الأرمن فى 1916، أم يصرون على تعظيم الجرم والتنديد بتركيا، والآذريون غاضبون لأن التقارب التركى مع الأرمن قد يأتى على حسابهم كدولة تحتل أرمينيا جزءا من أرضها. وإسرائيل لا تعرف كيف تنتقم، يعتقد بعض المعرضين للتعاون بين تركيا وإسرائيل أن مرحلة الجدل انتهت وبدأت مرحلة العقاب والضغط لوقف الزحف التركى وإثارة الشكوك بين العرب حول النوايا التركية. تخشى إسرائيل أن تنتقل بالعدوى من أنقرة إلى عواصم العرب كبرياء القوة التركية الصاعدة.

والعراقيون متوجسون، منهم من لا يريد تركيا طرفا فى ميزان قوى إقليمى ساحته العراق، ومنهم من لا يريد تركيا ضامنة لكردستان العراق وحامية لنزواتها، ومنهم من يريد تركيا على أى شكل وبأى هدف تختاره ففى كل الأحوال ستكون أفضل من عرب غير موجودين. سمعت فى الشأن العراقى أن هناك فى الغرب، وربما فى أمريكا تحديدا من يدعو إلى تشكيل قوة عملtask force من الولايات المتحدة وروسيا والصين وإيران وتركيا تتولى المساعدة فى إدارة شئون العراق فور انسحاب القوات الأمريكية. لم أندهش لغياب طرف عربى فى هذا التشكيل، إذ كنت قد قضيت فى تركيا ما يكفى من الوقت لإقناعى بأن الدور العربى فى أى معادلة إقليمية قائمة أو قادمة غير موجود أو هامشى على أحسن الفروض.

لم يكن هينا على النفس فى هذا السياق أن أسمع أن أطرافا غربية طلبت نصيحة خبراء أتراك حول فكرة دعوة النرويج لتمسك بملف المصالحة الفلسطينية بين فتح وحماس.

وفى سوريا فرحة. الناس سعداء سعادة فائقة. ولا أظن أن الدوافع خافية بعد أن شاهدوا بأعينهم حواجز على الحدود تنحى جانبا و لعلها المرة الأولى فى حياة شعب عربى يشعر فيها أن قيدا على حرية حركة وانتقال ينكسر وأن كابوسا ثقيلا يرفع عن كاهله. «وقفنا مشدوهين وسط انبهار الصحفيين السوريين وذهول الصحفيين الأتراك. يسأل السوريون، ولدى كل منهم جواب عن سؤاله ومع ذلك يستمرون فى توجيه الأسئلة.

لماذا بدأ الأتراك بسوريا، لماذا نحن أولا؟». وتكاد زينب حور بانلى الصحفية التركية تجيب فى صحيفة «حريات»، حين قالت: «لم يحدث أن تركيا تعاونت مع دولة أجنبية تعاونها الراهن مع سوريا». وتساءلت بدورها «هل يمكن أن يكون هذا التعاون مقدمة لنوايا تركية بإقامة «الاتحاد شرق الأوسطى» محاكاة للاتحاد الأوروبى.

فتح ملف الهوية

ورغم زخم الجدل الدائر فى الخارج، يبقى الأهم دائما الجدل الدائر فى داخل تركيا. الجدل الدائر فى الخارج بعضه يمسنا فى مصر مباشرة، لأن السائد شرقا وغربا هو أن الجديد فى توجهات السياسة الخارجية التركية جاء ليملأ «فراغا متوحشا»، مصر مسئولة عنه بالتأكيد. والسائد أيضا فى تركيا وخارجها أن هذا الفراغ يهدد بابتلاع الأوطان فى المنطقة جزءا بعد جزء ثم وطنا بعد وطن، وقادر على أن يهلك شعوبها. يهمنا أيضا، أو يجب أن يهمنا، جدل من نوع آخر دائر الآن فى أوساط النخب التركية حول شئون السياسة الداخلية فى تركيا.

فتركيا هذه الأيام تغلى بالنقاش الحاد والموضوعى حول التوفيق أو الفصل بين اتجاهات الدولة الدينية واتجاهات الدولة المدنية، ونقاش حول دور الطبقة الوسطى الحديثة الصاعدة من المناطق الريفية فى صنع مستقبل تركيا، وحول دور المؤسسة العسكرية والأساليب المبتكرة لتقييد حريتها فى التدخل فى الشأن السياسى ومنعها من تخطيط الانقلابات العسكرية وفضح عمليات اغتيال المعارضين لها من الزعامات المحلية والنقابية والدينية، وجدل حول العودة إلى الأساليب العثمانية التى قضت بالاعتراف بالهويات العرقية والدينية أو التمسك بالتعاليم الكمالية التى لا تعترف إلا بالهوية التركية الجامعة.

أظن أننا فى بلدنا فى حاجة ماسة إلى جدل مماثل فى الحدة والموضوعية يبدأ بالسؤال الذى بدأ به النقاش العام فى تركيا «من نحن؟ هل نحن صنيعة الغرب أم صنيعة التاريخ». ولا يخالج الزائر المهتم بتطورات السياسة والثقافة والفن فى تركيا أدنى شك فى أن حزب أردوجان الحاكم، أى حزب العدالة والتنمية، التزم أمام ناخبيه والنخب التركية بالإجابة عن هذا السؤال، وأتمنى أن نجد فى مصر من يتعهد بالمثل.