خبر الإسلام الثوري وأزمة الاستشراق الجديدة .. سيف دعنا

الساعة 11:47 ص|01 ديسمبر 2009

هذا النص هو مقدّمة محاضرة عامّة عن الإسلام عرضت في جامعة ويسكونسن قبل نحو شهر. وهو يتناول أساساً عمليّة صناعة «المسلم الجيّد» كجزء من مشروع الهيمنة على منطقة الشرق الأوسط. وهي عمليّة تستند إلى تاريخ طويل من النظرة العنصريّة للقوى الغربية المهيمنة تجاه سائر شعوب العالم

سيف دعنا(*)

يبدأ مايكل هيرش، من «نيوزويك» تقويمه للفشل الأميركي في العراق بالقول «إن الخطأ في القراءة الأميركية للعالم العربي ـ وفشل المغامرة الأميركية في العراق ـ ربما تكون قد بدأت في عام 1950» (وكلمة فشل في تقويم الحروب، بعكس كلمة هزيمة، تنكر وجود الآخر وتأثير فعله ودوره في الوصول إلى هذه النتيجة. فالجيش الإسرائيلي مثلاً يدّعي الفشل في لبنان، لا الهزيمة على يد المقاومة). المقصود هنا، وما يعالجه هيرش بتوسّع، هو الفشل المعرفي الغربي لفهم المجتمعات الإسلامية، التي يؤكد أنها بدأت في الخمسينيات وتحديداً مع دراسة «برنارد لويس» للأرشيفات العثمانية. هيرش يركّز في معالجته على رؤية لويس التي تبرّر التدخل العسكري الغربي في العالم العربي بافتراضها التناقض بين الإسلام والديموقراطية، وحتى نفيها إمكان التغيير من الداخل. أنا أقتبس هيرش هنا لا لأتّفق معه، بل لأعارضه.

يستند هيرش في قراءته، من الفقرة الأولى، إلى مسلّمتين خاطئتين. الأولى، قبوله الضمني بمبدأ نشر الديموقراطية كتفسير أساسي للحرب الأميركية على العالم الإسلامي، وهذه المسلّمة متضمّنة في قراءته بدءاً من العنوان «ماذا لو لم يكن الإسلام عقبة للديموقراطية؟». المسلّمة الخاطئة الثانية، التي ستكون محور حديثي، أننا أمام حالة فشل أكاديمي بحت، وبالتالي فإنّ المطلوب إعادة القراءة والدراسة من أجل الوصول الى معرفة أكثر دقة. هذه الرؤية خاطئة لأنها تنمّ عن جهل أو حتى تزوير لطبيعة وجوهر العملية المعرفية في العلوم الاجتماعية والإنسانية، وعن سذاجة مفرطة لافتراضها أن هدف العملية المعرفية والباحثين هو المعرفة الخالصة والبحث عن الحقيقة. ليس المقصود طبعاً هنا إظهار دور سوء النيّة أو الانحياز الايديولوجي أو حتى العرقي لدى بعض الباحثين، وهو غير مهم كثيراً في الحالة التي نناقشها هنا، رغم وجوده وسهولة تلمّسه في الكثير من الأعمال (مثلاً، برأيي ان مثل هذا الزعم في حالة لويس ذو قيمة حقيقية). فالمهم هو السياق التاريخي، السياسي، الثقافي والاجتماعي لإنتاج المعرفة (التوسّع الإمبريالي)، وهو المؤسس لمنهجية عادةً ما تكون مقبولة في كل مرحلة لإنتاج الصور والأفكار التي تحملها جماعة ما لجماعة أخرى، وفي بعض الأحيان فرضها هذه الرؤية على الجماعة الأخرى (مثلاً، بعض التسميات للسكان الأصليين ذات الدلالات العنصرية الفاضحة، بمعزل عن السياق الاستيطاني الأوروبي وممارسة المستوطنين البيض كل أنواع الإبادات الجسدية والثقافية ضدهم، كما يشير المفكر العربي منير العكش). يجدر أوّلاً إدراك دور المعرفة كأداة هيمنة وسيطرة داخل المجتمعات وبينها، برؤيتها في سياقها التاريخي، والارتباط البنيوي بين إنتاج المعرفة والتوسع والنهب الإمبريالي.

بعض النقد الغربي الجدي للمشروع الحداثي (أو الحداثة الرأسمالية، كما في حالة النقد الماركسي على اختلاف أنواعه) يستنتج إفلاس التنوير كمشروع إنساني تحرري وتحوّله، على العكس، إلى مشروع هيمنة عبر أدوات التحرير المفترضة ذاتها، أو ما يسمّيه ماركسيّو مدرسة فرانكفورت «جدلية التنوير» وتناقُض الحداثة الداخلي (ماكس هوركهايمر وثيودور أدورنو)، رغم تمسكهم بإمكان حداثة بديلة. ماركس في دراسته لـ«الحرب الأهلية في فرنسا» شخّص استخدام العلم كأداة هيمنة طبقية حرّرته كومونة باريس. نقد ميشيل فوكو للعلوم الحديثة، كأدوات هيمنة، ونقده للمجتمع والمؤسسات الحديثة كأدوات تأديبية مهمتها الأساسية تشكيل ذاتيّة الفرد وتطويعها وتطبيعها، يلقي الضوء على جانب مهم آخر للإفلاس. أكثر النقد الغربي إبداعاً برأيي، لأنه يشخّص تأثيرات الحداثة الرأسمالية على الوعي في كل المجالات تقريباً، ويشخّص خللاً أصيلاً في الممارسة الأكاديمية الغربية التي تدرس موضوعاتها باستقلالية مطلقة عن السياق التاريخي سياسياً، اقتصادياً، ثقافياً واجتماعياً (مثلاً علم الجريمة الذي يتجاهل سياقها الاجتماعي والسياسي) هو ما قدمه جورج لوكاش في عرضه لمفهوم التشييء، الذي هو بالأساس توسيع لمفهوم ماركس عن الصنمية البضاعية (رؤية العلاقات الاجتماعية المتغيّرة والتاريخية الطابع كأشياء جامدة، غير متغيّرة ولا تاريخية، وهذا طبعاً نتيجة لسيادة العلاقات الرأسمالية).

رغم ذلك، تجاهل هذا النقد الغربي للحداثة تأثيراتها على المجتمعات غير الغربية، واكتفى بتأثيراتها السلبية (على الوعي، الفكر، والنقدية، وتشكيل الذاتية) على الإنسان الغربي فقط. يمكن الزعم أنه باستثناء روزا لوكسمبورغ ورؤيتها لما سمّته «السوق الثالثة» في تشخيصها للإمبريالية، ومفهوم لينين لتفاوت التطوّر، لم يدمج أي مفكر غربي المجتمعات غير الغربية في نقده للحداثة أو الحداثة الرأسمالية. كل النقد وإظهار تأثيرات الحداثة على المجتمعات غير الغربية باستخدام أطر فكرية غربية تمّت بالأساس على أيدي مفكرين من أصول غير غربية (مثلاً، إدوارد سعيد استخدم فوكو، غاياتري سبيفاك استخدمت دريدا). إذاً، إنتاج الطاعة وتعريف السلوك «الطبيعي» وتشكيل الذاتية وفق نموذج أو قالب كأدوات سيطرة، شكّلت أحد محاور نقد الحداثة في الغرب، وهي إحدى نتائج وتجليات إفلاس التنوير والحداثة كمشروع تحرري. كذلك تحوّلت المعرفه إلى أداة فعّالة للوصول إلى نتائج وأهداف بعينها بمعزل، أو بغضّ النظر، عن القيم الإنسانية والتحرريه الأساسيه كالعداله، المساواة، والتحرر أو ما يسمّى التفكير التكنوقراطي، الذي يجعل المشاركة في أكثر الأمور لاأخلاقيةً جزءاً من القيام بالعمل اليومي والروتين (مثلاً، تحويل العلم إلى أداة لإنتاج آكثر آلات القتل فعالية وفتكاً في مختبرات جامعية بدل استخدامه في تحرير الإنسان) كما جادلت حنة ارندت. وفي بعض الأحيان، تأخذ هذه الأداتيّة المعرفية شكلاً مقيتاً ومبتذلاً جداً، كما تشير إلى ذلك فضيحة مشاركة الأنثروبولوجيين (اختصاصيي علم الإنسان) في ما يسمّى الحرب على الإرهاب.

أما في الشرق، فإن السياق الإمبريالي الغربي والنهب الاستعماري هو ما يفسر الطبيعة الأداتية للمعرفة ودورها في إنتاج هويه السكان الأصليين وتشكيل واستعمار وعيهم (أو محاولة معرفتهم بهدف السيطرة عليهم، كما يفعل علم السكان والإحصاء والعلوم العملية حسب تسمية فوكو)، ويفسر كذلك النتائج التي وصل إليها لويس. الأهم أن دلالة إعادة قراءة أعمال لويس من قبل هيرش وغيره، لا ترمز في الحقيقة إلى همّ معرفي كما يمكن أن يتصوّر البعض، ولا حتى لإدراك بريء، وإن كان متأخراً، لخطئها، ان تواضعنا ولم نقل لحقيقتها (ومن كان جدياً في هذا الأمر، كان بإمكانه قراءة أنور عبد الملك وإدوارد سعيد قبل الحرب على العراق بأكثر من أربعين عاماً للأول، وعشرين عاماً للثاني، ليدرك حقيقة وخلفية أعمال لويس). الدلالة التي قد تشكل أحد أسلحه هزيمة الغرب في الشرق وفي العالم الإسلامي تحديداً، هي أزمة الابستمولوجيا الإمبريالية، أو أزمة البنية والأدوات المعرفيه ذاتها التي شكلت سابقاً سلاحاً أساسياً في نجاح الحملات الاستعمارية الأوروبية.

يتمثل جوهر الأزمة (أزمه الاستشراق الثانية) أساساً، ليس بفشل باحث ما أو حتى مجموعة مفكرين كما يظن هيرش، بل بالمقاومة الشرسة والفعاله حتى اللحظة التي تبديها الصيغ الجديدة للثقافات المحلية (التي لطالما استهان بها وأنكر إمكان فعلها المفكر المستعمر أو المستعمر المفكر ـ عادة لدوافع عنصرية ـ كما تدلل على ذلك الافتراضات الاستشراقية) لمحاولات الإبادة الثقافية وإعادة تشكيل الوعي والهوية على طريق جدلية الهيمنة والنهب. إعادة تشكيل وعي السكان الأصليين واستعمار هويتهم على يد المستعمر الأوروبي من أجل تطويعهم في خدمة المصالح الاستعمارية كما يتصورها المفكر المستعمر (وكما يتخيلها وعي المستعمر) تتضمن نفياً مطلقاً لأي إراده أو إمكان فعل (مقاومة أو رفض) لدى السكان الأصليين. وطبعاً، نفي الإرادة أو القدرة على الفعل لدى السكان الأصليين ليس بالأساس نتاجاً لعنصرية المفكر المستعمر نفسه وحسب، بل نتيجة للبنية الاستعمارية المعرفية، أو أن العنصرية المتمثلة بنفي إرادة السكان الأصليين مبنية في، أو هي جزء أساسي من، بنية الابستمولوجيا الإمبريالية. وبالتالي، فإن أي حالة مقاومة للسكان الأصليين التي هي بشكل من الأشكال تعبير عن رفضهم للهوية التي اخترعها لهم المستعمر ومحاولته استعمار وعيهم، وإنتاجهم لهوية ووعي مضادين، وهو أحد أشكال المقاومة أيضاً، تنتج في ما تنتج أزمة معرفية وتتشكّك بقوة بالبنية المعرفية الإمبريالية. سبب الأزمة، إذاً، هو الفعل، أو مقاومة السكان الأصليين لمحاولة استعمار برنارد لويسوعيهم، ولو لم يقاوم العراقيون (والمقاومة في العراق بدأت في الأسبوع الثاني للاحتلال) لما تشكّك هيرش بنتائج لويس على الإطلاق. من يبحث في مكان آخر عن السبب، كتفسير أزمة المعرفة الإمبريالية بتفحّصها هي فقط، أو التشكيك بالباحثين بمعزل عن أو بإسكات دور الآخر غير الغربي، يقع في ما سمّاه لوكاش التشييء.

ليست هذه هي الأزمة الأولى التي تواجه الاستشراق الغربي. المفكر العربي أنور عبد الملك في «أزمة الاستشراق» عام 1963 ربط بين ما شخّصه كأزمة الاستشراق وصعود حركات التحرر والاستقلال، الأمر الذي تشكك ببنية معرفية مؤسّسة على إنكار إمكان اعتماد غير الغربي على نفسه وحاجته الدائمة إلى المستعمر. كما تشكّك بالدراسات الاستشراقية بسبب قصورها المنهجي مقارنةً بالعلوم الاجتماعية والإنسانية (قزّم الاستشراق الإسلام إلى خيمة وقبيلة، كما يشير سعيد، بدل دراسته من خلال أطر علم اجتماع الدين مثلاً). لكن، نجح الاستعمار في إعادة إنتاج نفسه بشكل الاستعمار الجديد وفشلت محاولات الاستقلال الجدية وتجدّد الاستشراق كأداة هيمنة. المقاومة المحلية للاستعمار الجديد اليوم لا تفسّر أزمة الاستشراق الجديدة وإعادة قراءة لويس وأمثاله فقط، بل ربما تلقي الضوء على جدلية الاستعمار كذلك.

إدوارد سعيدهذا تفسير متواضع ومبسّط سأستخدمه لتقديم قراءة لأزمة الإمبريالية الابستمولوجية أو أزمة الاستشراق الثانية (وللهزيمة الغربية التي يمكن رؤية مقدماتها الآن، في العالم العربي، وتفسير للزعم بواقعية إمكان تشكيل شرق أوسط لا أميركي ولا إسرائيلي) تركز أساساً على الدور المضاد الذي تقوم به المقاومة والشعوب العربية (التي تنكر الابستمولوجيا الإمبريالية إمكان فعلها ولا تراها إلا من منظار التنميط والعنصرية) ثقافياً في إنتاج وعي مضاد وهوية بديلة لمحاولات الهيمنة.

ليست المقاومة العربية بأشكالها المختلفة مقاومة مسلحة أو عنيفة بالأساس (لكن الزعم بعكس ذلك يتفق مع الصورة النمطية والعنصرية عن العرب في الغرب)، ولا مجال للتشكيك أصلاً في التفوق العسكري الغربي (انظر مثلاً دراسة جامعة جون هوبكنز: «الكلفة الإنسانية للحرب في العراق» لترى مدى العنف والقدرة التدميرية الغربية). ولكن الفشل الاستعماري نادراً ما كان عسكرياً. كل العوامل التي ساهمت في نجاح المشاريع الاستعمارية الأوروبية منذ المحاوله الأولى لنشر الهيمنة خارج القارة العجوز في الحملة الصليبية الأولى في 1095 (العنف، الاقتصاد، البيئة والجغرافيا، البيولوجيا أو الأمراض، الثقافة، المعرفة) ساهمت في هزيمتها أيضاً. هذه جدلية الاستعمار، الذي يحمل دائماً بذور هزيمته. رواية الفريد كروسبي في «الإيكولوجيا الإمبريالية» مثلاً تؤكد أن الفشل والنجاح الاستعماري الغربي تأثر أساساً بعوامل بيئية، جغرافية وبيولوجية. النجاح في أميركا الشمالية (وما يسمّيه كروسبي أوروبا الجديدة) اعتمد أساساً على البيئة المشابهة لأوروبا التي مكّنت الأوروبيين من بناء مجتمع أوروبي في العالم الجديد، وكذلك ساهمت الأمراض التي حملها الأوروبيون معهم بقتل السكان الأصليين. لنفس الأسباب أيضاً، فشل الأوروبيون في العالم الإسلامي في الحملات الصليبية (الملاريا وليس عنف العرب). أنا جادلت في دراسة ستصدر قريباً، انه ولأسباب إيكولوجية وهيدرولوجية، أن الفشل سيكون مصير أي محاولة لإقامة مجتمع أوروبي الطابع في فلسطين (لذلك، لا يمكن إسرائيل، لأسباب بيئية وهيدرولوجية، أن تستمر كمستوطنة أوروبية، وهذا بمعزل عن المقاومة العربية لها وبغض النظر عن قوتها العسكرية). العامل المهم اليوم هو الممانعة الثقافية العربية التي أنتجت هوية مضادة، ثقافة مضادة، ورموزاً ثقافية مضادة فعالة لما يحاول الغرب الاستعماري فرضه. طبيعة الحركات المقاومة الجديدة في العالم العربي بارتكازها أساساً على الثقافة والتاريخ العربيين تجعل إمكان استعمار وعيها أو إصابتها بما سمّاه الفيلسوف الإيراني أحمد فرديد «مرض الغربنة»، وبالتالي فقدان الهوية أكثر صعوبة، وأظنّه مستحيلاً.

مثلاً، أثناء الحرب الإسرائيلية على لبنان في تموز 2006، خاطب قائد المقاومة اللبنانية السيد حسن نصر الله الإسرائيليين (وأنا أعتقد أنه كان يخاطب وعي الجماهير العربية أساساً) بالقول لهم «أنتم لا تعرفون اليوم من تقاتلون: أنتم تقاتلون أبناء محمد وعلي والحسن والحسين... وأنتم اخترتم الحرب المفتوحة مع قوم يعتزون بتاريخهم، وحضارتهم، وثقافتهم... الخ). جملة واحدة حددت معنى الحرب وجعلت كل العرب، مسلمين ومسيحيين، قوميين وماركسيين، طرفاً فيها. طبعاً لم يشارك كل العرب في المعركة، ولكن الوطن العربي بعد الحرب هو غيره قبلها ووعي العرب بأنفسهم وبإسرائيل (كما هو وعي الإسرائيليين بأنفسهم وبالعرب) اختلف جدياً بعد الحرب. «إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت» يقول السيد نصر الله مقتبساً آية قرآنية، ثم تسمعها في أغنية، وقصيدة، وتراها على «تي شيرت» وبوستر، وتصير وعياً وقناعة، وتصير حقيقة بفعل الخطاب الجديد (ماذا سيحصل لفكرة إسرائيل في الوعي العربي لو وضعت كل الدول العربية شعار «أوهن من بيت العنكبوت» على طوابع البريد، أوراق وقطع النقد، مداخل الأحياء،.. الخ). لماذا يزعج فرنسا بيتان من الشعر كتبهما المبدع مفدي زكريا في النشيد الوطني (يا فرنسا قد مضى وقت العتاب) بعد خمسة وأربعين عاماً من التحرير. التفوق العسكري الاستعماري لم يشكل ضمانة أكيدة لاستمرارية الهيمنة، وفشله رغم تفوقه الهائل يؤكد أهمية العوامل غير العسكرية، ويؤكد أيضاً عمق الأزمة المعرفية الغربية. يمكن الاستشهاد بعشرات الأمثلة الشبيهة التي تؤكد التحولات الثقافية العميقة والثورية الطابع التي تحدث في العالم الإسلامي وغيره والتي تؤكد أيضاً فشل (أو هزيمة) أحد أهم الأسلحة التي استخدمها الاستعمار (الهيمنة من خلال المعرفة وسيادة الصور الثقافية للغرب عن الغرب، وللغرب عن الشرق)، لكن المسألة الأهمّ هي بداية خسارة الغرب الصراع على الإسلام.

بسبب مركزيته في الثقافة العربية، أصبح الإسلام قضية صراعية بين الشرق والغرب، كمدخل للهيمنة أو الاستقلال، فيما كان تاريخياً قضية صراع إسلامي ـ إسلامي تختلف حوله وحول قراءته وتعريفه الجماعات الاجتماعية المختلفة كل من موقعه ولمصلحته. الخلاف الفقهي في التاريخ الإسلامي كان دائماً سياسياً واجتماعياً في الجوهر ولا يزال كذلك. لكن ليس الصراع الأساسي على روح الإسلام اليوم إسلامياً ـ إسلامياً، بل هو إسلامي استعماري. الصراع حول تعريف الإسلام والمسلم اليوم يتمثل برؤية إمكان تحوّل الإسلام إلى أداة هيمنة إمبريالية (ما يسمّى الإسلام المعتدل) والمسلم كخادم للمشروع الاستعماري (المسلم الجيد)، أو الإسلام

باستثناء روزا لوكسمبورغ ورؤيتها لما سمّته «السوق الثالثة»، ومفهوم لينين لتفاوت التطوّر، لم يدمج أي مفكر غربي المجتمعات غير الغربية في نقده للحداثة

كمشروع تحرري (ما يمكن تسميته الإسلام الثوري) والمسلم كمقاوم. ليس هدف الغرب تشويه الإسلام، بل تشويه الإسلام المقاوم للهيمنة الغربية، وتسويق إسلام آخر يتمّ من خلاله نزع أي صفة إسلامية عن المقاومة ووسمها بالإرهاب لتسهيل استدامة وإعادة إنتاج العلاقات الاستعمارية الجديدة. هذا ما قصده الرئيس بوش في لقائه مع مجموعة من المسلمين بعد أحداث أيلول بقوله إن الإسلام دين سلام، والمسلمين أناس جيدون. لو تجاوزنا العنجهية والصفاقة المتمثلة بالجرأة على تعريف دين الآخرين لهم، فإن المتضمن في هذا الخطاب هو لا أسلمة وشيطنة أي صيغة مقاومة للهيمنة الغربية، فالمسلم الجيد لا يقاوم الهيمنة، والإسلام دين اعتدال (فقط حين يتعلق الأمر بالموقف من الاستعمار). هذا أيضاً يمكن رؤيته في العشرات من الكتب الصادرة حديثاً والتي بتقديمها كما تدّعي صورة مختلفة عن الصورة المشوّهة السائدة للإسلام تخرج الملايين من المسلمين عن الإسلام وتكفرهم، لأن القراءة المقدمة عادةً ما تنكر إسلامية المقاومة كطريقة لتسويق الإسلام المعتدل. ويقع في الخطأ أحياناً فقهاء مسلمون بتقديمهم رؤية اعتذارية عن مفهوم الجهاد الذي لا يغطي العمل المقاوم وكأن الخلاف مع إسرائيل مثلاً هو خلاف لغوي. التأكيد، والتوسع في معاني الجهاد المختلفة، مكانُهُ المدارس الدينية المتخصصة، ولكن الصراع على الإسلام مع الغرب هو سياسي وثقافي بامتياز، لا فقهي، ولا يستهدف الشعائر، بل استعمار الثقافة العربية والوعي. الكثير من المسلمين يؤمنون أن الحرب ليست على الإسلام، وإنما هي، ككل الحروب، من أجل النهب. هذا صحيح إذا كان الحديث عن ممارسة الشعائر والعبادات (لن يجادلنا المستعمر في آداب الوضوء)، ولكن الإسلام بلا شك جزء من المعركة كمكوّن أساسي للثقافة العربية، وبالتالي كمدخل محتمل للهيمنة، لو أعيد تعريفه.

يجدر بالأميركيين أكثر من غيرهم إدراك إمكان تحوّل الإسلام إلى مشروع تحرري وقوة فعل إيجابية، وتفهُّم ذلك واحترامه. ألم يكن الإسلام قوّة فاعلة وأساسية في حركة الحقوق المدنية الأميركية، وساهم في جعل أميركا أكثر إنسانية وتحضّراً وأقل عنصرية؟ من ينكر دور مالكولم أكس لا يمكنه أن يفسّر منطقياً ما نعرفه اليوم عن الاستعمار الداخلي للأقليات، ووعي آليّات الاضطهاد ومقاومتها. الإسلام الأميركي كان رئيسياً في التأسيس لهوية ووعي مضاد وثقافة مضادة في مواجهة دعاية الاندماج والانصهار المبني على فوقية البيض ودونيّة الأقليات. الصراع على تعريف الإسلام ساهم في إنتاج الإسلام الثوري، واستمرار الصراع على جوهره وخسارة الغرب للمعركة الثقافية ربما سيفرض على الإسلام المحلي الإجابة عن أسئلة جديدة وجدية مرتبطة بجوهر عملية التحرر الاجتماعي. لو كنت في خندق المفكر المستعمر الغربي اليوم، لكنت متشائم العقل، وعذراً من غرامشي، متشائم الإرادة أيضاً.

ــــــــــــــــ

* أستاذ علم الاجتماع والدراسات الدوليّة في جامعة ويسكونسن ـ بارك سايد