خبر من أجل صناعة التاريخ الفلسطيني .. كلوفيس مقصود

الساعة 05:45 م|23 نوفمبر 2009

بقلم: كلوفيس مقصود

لم يعد من مفر للشعب الفلسطيني إزاء شراسة التحديات التي تواجهه ومخاطر إلغاء فلسطين كقضية والتعامل معها كمسلسل من المشكلات الإنسانية والاجتماعية، من أن يعاد النظر بشكل جدي وحاسم في إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية كحركة مقاومة لاحتلال جاثم يتصرف كأنه مالك للأرض وليس محتلاً لها. إن إعادة بناء منظمة التحرير واستعادة ثقافة المقاومة لها أصبحا حاجة ملحة كونها الإطار الطبيعي لوحدة الشعب الفلسطيني بغياب إطار دولة فلسطين المستقلة. وهذا هو السبب الحقيقي أصلاً لقيام المنظمة خاصة بعد هزيمة الدول العربية عام 1967.

إن منظمة التحرير، في ممارستها للمقاومة بشتى تجلياتها، استطاعت أن تستقطب احتضاناً دولياً والتزاماً عربياً وإسلامياً ودعماً من قوى عدم الانحياز ودوائر الضمير في مختلف أرجاء العالم. ولعل التعبير على الدليل القاطع لهذا التبني الشامل كان خطاب الرئيس الراحل ياسر عرفات في الأمم المتحدة عام 1974  الإعلان عن تجذر الشعب الفلسطيني في أرضه وإصراره على التحرير سلماً أو مقاومة. وكان المنظر في ذلك اليوم رائعاً برمزيته حيث كان رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة وزير خارجية جزائر الثورة الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة، الذي أرسى القواعد لقيام الدولة الفلسطينية في 15 نوفمبر/ تشرين الثاني ،1988 وكانت بمثابة الخميرة التي لم تينع بعد والتي هي الآن أكثر احتمالاً بصيرورتها إذا وعت منظمة التحرير على ضرورة تاريخية مسؤوليتها حتى تسترجع قدرة صناعة تاريخها.

إن منظمة التحرير الفلسطينية اليوم لم تعد تمثل الشعب الفلسطيني بكل شرائحه وكأن ما سمي السلطة الفلسطينية التي هي من إفرازات اتفاقية أوسلو حولتها أو تكاد إلى شبه محمية أمريكية “إسرائيلية”، وبالتالي لم تعد مؤهلة لتمثيل الشعب الفلسطيني. هذا يعني أن تؤخذ إجراءات عملية فورية تتمثل بادئ ذي بدء في مؤتمر وطني يؤسس لإعادة منظمة التحرير إلى ثوابتها المتجذرة في الوعي الفلسطيني من جهة حتى تتمكن من التكيف مع المستجدات التي تمكن القيادة التي يفرزها هذا المؤتمر من إدارة الصراع وضبط المصطلحات التي غيبتها اتفاقية أوسلو، وما سمي زوراً بالواقعية، والتي حولتها أوسلو إلى مصيدة خانقة لعمل المقاومة، وبالتالي وقيعة تكاد تشل حركة التحرير الوطنية للشعب الفلسطيني والتي تبقى رهينة الانشطار القائم في القيادات الحالية خاصة فتح وحماس. لذا فعلى قيادات الفصائل القائمة الآن جميعها من دون استثناء أن تدعو إلى المؤتمر الوطني في إطار جامعة الدول العربية إذا أمكن، وأن تتم إعادة الوحدة الوطنية وقيادة ديمقراطية منتخبة، وأن يكون للطاقات الفكرية وللعديد من المستقلين دور مشارك ليس فقط في إبداء الرأي، بل أيضاً في صناعة القرار. وهذا يعني أن يسترجع القياديون المنتخبون حركة المقاومة وأن يتخلوا بالتالي عن الألقاب التي أنتجتها أوسلو إلى أن تصبح في ما بعد متطابقة كتعبير عن السيادة حتى لا تنجر بعض القيادات  كما هو حاصل اليوم  إلى الانجذاب بها وترك الأرض المحتلة للمشروع الصهيوني للإمعان في اغتصابه وانتهاكه.

وإذا كان قد حان الوقت لمراجعة صارمة فعلى هذا المؤتمر الوطني وقياداته المنتخبة أن تدرك أنها تقاوم اغتصاباً لأرض هي أرض الشعب الفلسطيني. لذلك لا بد أن تكون الأولوية أن تمتثل “إسرائيل” لكونها محتلة وبالتالي للشعب الفلسطيني حق المقاومة بشتى أنواعها، مفاوضة، عصياناً مدنياً، مظاهرات شعبية، توجهاً إلى الرأي العام العالمي. وإذا استنفدت كل هذه الخيارات يكون الكفاح المسلح خياراً مشروعاً. إن استقامة المعادلة هي السابقة التي يجب أن تتوضح قبل أي استئناف للمفاوضات، بمعنى أن على القيادة الفلسطينية الموحدة في تعاملها مع المجتمع الدولي أن تصر على إلزام “إسرائيل” بالانصياع لاتفاقية جنيف الرابعة، وأنه في حال استقامة المعادلة لا تعود المفاوضات كما هي الآن عملية اكتشاف إذا كان للشعب الفلسطيني حقوق أم لا، بل المفاوضات تستقيم عندما يكون هناك تفاوض بين المحتل والمقاوم. ولعل أوضح دليل على إصرار “إسرائيل” اليوم على إيجاد وقائع جديدة على الأرض هو ما تقوم به في عملية التدمير وإخلاء السكان من منازلهم في القدس الشرقية المحتلة وإعلانها بوضوح أن القدس كلها هي عاصمة أبدية وأزلية لها، وكأنها تبلغ العالم بأن أزليتها تعود إلى ما قبل التاريخ وأبديتها أنه لا يكون للفلسطينيين العرب النصارى والمسلمين أية علاقة بقدسهم. إذا كانت المستوطنات تدل على أنها وقائع ثابتة وبالتالي دائمة فماذا يعني سوى أنها التعبير الواضح عن تصميم لتأكيد وترسيخ التملك، وبالتالي إلغاء مستقبلي لكيان اسمه فلسطين. ونقول هذا ليس مبالغة بل دليلاً واضحاً على أن “إسرائيل” مثلما تمارس المجزرة بالتقسيط في قطاع غزة حصاراً وتقتيلاً واغتيالاً، كذلك تمارس في الضفة الغربية تصميماً على تكثيف المستوطنات وإعطائها ترخيصاً لترسيخ وجودها كوقائع على الأرض يستحيل تفكيكها وبالتالي تتحول تمهيدياً إلى صك للامتلاك كما حصل بعد التقسيم عام 1947 عندما استولت على أراضٍ فلسطينية أفرزها التقسيم للعرب وإذا بها عند إعلان الدولة “الإسرائيلية” تصبح واقعاً كجزء من “إسرائيل”. إذا كان هذا عام ،1947 فكل الدلائل تشير إلى أن التصرف “الإسرائيلي” في هذه اللحظة هو تسريع لأسرلة الأراضي المحتلة ما يفسر أن “إسرائيل” تبقى دولة بغير حدود معلنة  وبالتالي دولة غير مستكملة. هذا في ما يتعلق بغزة والضفة الغربية، أما في القدس فهو إخراجها من أي احتمال أن تشارك أي طرف غير “إسرائيلي” أن يكون أي قسم منها عاصمة لغير “إسرائيل”.

إذا كانت هذه الدعوة لإعادة إطار الوحدة للشعب الفلسطيني ضمن استعادة منظمة التحرير شرعيتها، فهذا من شأنه كما أشرنا لأن يلبي فوراً حاجة ماسة للحيلولة دون الانشطار الفلسطيني الراهن والاندثار السائد في التوجهات والافتقاد لمرجعية موثوقة توجه النضال وتخطط لمقاومة تسقط من خياراتها الانتقام، كما تسقط أيضاً العمليات الانتحارية. فالمقاومة هي التعبير المشروع عن نقمة قائمة وتتطلب استراتيجية واضحة المعالم محيطة بمعرفة أهداف العدو كما بالأوضاع الإقليمية والدولية التي تؤثر وتتأثر بأوضاع القضية الفلسطينية. بالتالي تكون مرشحة أكثر للمساهمة في إنجاح أهداف النضال الفلسطيني كما تصبح أكثر التزاماً في مجابهة وإحباط العديد من عدوانية المشروع الصهيوني إجمالاً وردع التفلت “الإسرائيلي” من الانصياع لما يمليه القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة والشرعية الدولية عليها، كأنها غير مسؤولة تجاه المجتمع الدولي وبمنأى عن أية مساءلة ناهيك عن أية معاقبة.

في هذا المضمار يصبح واضحاً أن الاستراتيجية الفلسطينية يجب أن تكون عنصراً مكوناً فاعلاً لاستراتيجية عربية قومية متناسقة مستوعبة للمخاضات العالمية سواء أكانت على مستوى القضايا المستجدة كتحديات التنمية المستدامة وحالات الفقر المتفاقمة كما تبين من وجود أكثر من مليار وربع مليار إنسان في حالة الجوع أو على مستوى العنصرية المستشرية والتي تمارسها “إسرائيل” في تعاملها مع المواطنين العرب وفي إصرارها على أن يعترف بها الشعب الفلسطيني على أنها دولة يهودية ودولة لليهود بما تعنيه هذه الشروط. إن التمييز العنصري داخل “إسرائيل” هو في صلب وجودها وإذا لم يقبل المواطنون العرب بدونيتهم عندئذ فهم مرشحون للترحيل القسري، كما “إسرائيل” فاعلة في القدس الشرقية وكما يدعو بصراحة وزير خارجيتها ليبرمان ويؤيده بشكل قاطع بنيامين نتنياهو وغيرهما من المسؤولين “الإسرائيليين”. ولعل الرفض المسبق للمحادثات التي حصلت طيلة أوسلو وأنابولس وغيرهما وما حصل من إسقاط لحق العودة للاجئين طيلة عهود الحكومات “الإسرائيلية” المتعاقبة هو أيضاً ضوء على مضمون المشروع الصهيوني الذي أكدته الجمعية العامة عندما اتخذت قراراً بتوصيف الصهيونية كوجه من أوجه العنصرية وقامت قيامة “إسرائيل” والولايات المتحدة آنذاك.

قد يكون تقرير غولدستون قدم إجابة واضحة، كونه سلط الأضواء على الممارسات التي وصفت بأنها جرائم حرب، وأنها استعمال مفرط للقوة ضد المدنيين، وبالتالي تعتبر خرقاً لقوانين الحروب ولحقوق الإنسان والإنسانية ما أدى إلى تهجم غير مسبوق على أحد أهم فقهاء القانون الدولي والقضاة الذين كلفوا بأصعب مهام التحقيق في كثير من المجازر التي حصلت بعد انتهاء الحرب الباردة في إفريقيا وأوروبا وغيرهما. أجل هذا القاضي الذي لم تستطع “إسرائيل” أن ترحمه كونه رجح النزاهة المهنية ومستلزمات العدالة الإنسانية في تحقيقاته للمجازر في غزة التي قامت بها “إسرائيل” تدعيماً لحصارها الخانق، إذ إن كونه يهودياً أراد بسلوكه التعبير عن قيم الإنسانية في الدين اليهودي والتي أصبحت تبدو لعدد متزايد من يهود العالم أن الصهيونية تشوه هذه القيم، وأن عدوانيتها تعطل أي يهودي يريد الالتصاق بأخلاقياتها.

السؤال الذي يطرح نفسه هل الظرف مواتٍ لمثل هذه النقلة النوعية لمنظمة التحرير الفلسطينية؟

نعم ولا.. غير مواتٍ كون إدارة الرئيس أوباما الحالية اعتقدت أن إعادة “المفاوضات” بين الفلسطينيين و”إسرائيل” لم تعد أولوية في ظل تفاقم أزمات أفغانستان وباكستان وتصعيد احتمال فرض العقوبات على إيران، بالإضافة إلى حاجة الرئيس أوباما إلى تأييد الكونجرس لتمرير القوانين المطلوبة في حين أن اللوبي “الإسرائيلي” في الكونجرس لا يزال بمقدوره الحصول فوراً على أكثر من 320 عضواً من أعضاء مجلس النواب وأكثر من 75 من أعضاء مجلس الشيوخ ليتبنى بشكل آلي كل ما تتطلبه منظمة AIPAC “الإسرائيلية”، بمعنى أن الرئيس أوباما حتى لو أراد كما طالب بضرورة تجميد المستوطنات وكما انتقدت إدارته بالأمس عمليات التدمير لبيوت السكان الفلسطينيين في القدس الشرقية فإن ردة الفعل من قبل الكونجرس  بما فيه من حزبه الديمقراطي ستردع أية محاولة للضغط على “إسرائيل” كما حصل في إصرار هذه الأكثرية الكبرى في الكونجرس على استباق أي بحث في مضمون تقرير غولدستون كما في الإصرار على ضرورة أن تستعمل الولايات المتحدة حق النقض في حال جاءت المجموعة العربية لاستصدار قرار للاعتراف بدولة فلسطين.

أمام إصرار “إسرائيل” تجد إدارة أوباما نفسها مضطرة لتمييع الطلب الأمريكي بتجميد المستوطنات ويبقى السؤال المطروح: كيف يمكن أن يكون هناك ما يمكن أن يندرج في خانة “ضغط مقابل”؟ هنا تظهر الحاجة لإعادة هيبة منظمة التحرير، وبالتالي كونها آلية للوحدة الوطنية ومرجعية موثوقة فلسطينياً وعربياً ودولياً قادرة على تنظيم ضغط مقابل من خلال إعادة الحيوية للإرادة العربية بجعلها مصممة على أن تكون هناك تكلفة لردع “إسرائيل” عن التمادي في شراسة تعاملها لا مع الشعب الفلسطيني فحسب بل مع الشرعية الدولية من جهة ومع الإدارة الأمريكية من جهة أخرى، وذلك بأن تعيد منظمة التحرير لنفسها حق المقاومة لاحتلال قائم، وأن المقاومة ليست عملية تمرد على ملكية “إسرائيلية” للأرض الفلسطينية، كذلك الأمر أن تعيد حيوية الالتزام للشعب العربي بكل الأوطان العربية المكونة للأمة بحيث تصبح هناك استقامة واضحة تعبر عن ذاتها بقطع العلاقات مع “إسرائيل” حتى لا تستمر بمنأى عن عقوبة مستحقة، وأن يكون التمثيل الفلسطيني في أرجاء العالم وبالأحرى في الولايات المتحدة هو التمثيل التعبوي لضمير العالم والذي بدوره يستطيع أن يضغط على التشويه والتزوير الصهيونيين القائمين. إن الابتزاز الذي يمارسه رئيس الوزراء “الإسرائيلي” عندما يقول إن “على الفلسطينيين أن يعودوا من دون شروط إلى المفاوضات”، في حين أنه يفرض عملياً ويومياً وقائع جديدة على الأرض ويفرض شروطاً مثل استثناء القدس من أية عملية تفاوضية. أين الجواب العربي على هذا الافتراء؟

إن الفرصة متاحة لإعادة النظر جذرياً في عمل المقاومة الفلسطينية من خلال التجديد الملهم لمنظمة التحرير كونها آلية التحرير. الخطوة الأولى تبدأ من هنا، وأن الانتخابات بمثل هذه الظروف تشكل انحرافاً واضحاً وتكريساً لمفاعيل اتفاقية أوسلو وما أفرزته من نتوءات عطلت قدرة المجابهة فكان الانقسام خرقاً للخطوط الحمر في الحالة الفلسطينية محمية تسمى سلطة وحكومتين “تصريف أعمال في الضفة” وحكومة “مقالة” في قطاع غزة، كلاهما خروج عن ثقافة المقاومة، وبالتالي فإن بقاءهما بهذا الشكل يعطل الوحدة الوطنية للشعب الفلسطيني ما يجعل المنظمة في حالتها الراهنة شظايا ما كانت عليه وما يجب أن تكون عليه. لذلك كما أشرنا بداية حان الوقت أن تستعيد منظمة التحرير الفلسطينية وحدتها الوطنية والتزامها القومي، وأن تسترجع دورها التعبوي للجماهير العربية والذي قد يجعل الكثير من شعوبها تتجاوز ما أفرزنه اتفاقية أوسلو مباشرة أو غير مباشرة من تفكك بين الأوطان العربية، ومن تفتيت داخل المجتمعات العربية، كما نشاهد في عدد من الأوطان كاليمن مؤخراً والصومال والعراق وغيرها. فلسطين الموحدة هي المدخل المتوفر اليوم لإعادة الحلم ليس بإقامة الدولة الفلسطينية فقط بل أيضاً إعادة زرع بذور وحدة الأمة التي من دونها لا حصانة لكرامة العرب ولا مناعة لانطلاق نهضتهم.