خبر أوروبا فيما بعد الحقبة الأمريكية * .. المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية

الساعة 09:53 ص|23 نوفمبر 2009

إعداد / محمد الجوهري

يدخل العالم الآن مرحلة "ما بعد الحقبة الأمريكية" بعد أن أصبحت الحرب الباردة جزءا من التاريخ وتسارع عولمة توزيع القوة الدولية باتجاه الجنوب والشرق. وقد أدركت الولايات المتحدة نفسها هذه التحولات وبدأت العمل على استبدال هيمنتها العالمية التي استمرت لفترة قصيرة إلى بناء بشبكة من الشراكات من شأنها أن تضمن بقائها كـ "أمة لا غنى عنها"indispensable nation.

وفي ضوء هذه التحولات، تثور تساؤلات عديدة أهمها: ما تداعيات كل ذلك على العلاقات عبر الأطلسي بين أوروبا والولايات المتحدة؟ هل ستتجه حتما نحو التقلص؟ وما الأهمية التي يشكلها هذا الأمر لأوروبا؟ وكيف يرد الأوروبيون على ذلك؟

ونجادل في هذا التقرير بأن التهديد الذي يواجه العلاقات عبر الأطلسي في المرحلة القادمة ليس نابعا من إعادة صياغة الإستراتيجية الكونية للولايات المتحدة بشكل يتماشى مع المتغيرات الجديدة التي يشهدها النظام الدولي، لكنه نابع من فشل الحكومات في الدول الأوروبية في إدراك أن العالم يتغير، وفي تكييف العلاقات عبر الأطلسي مع هذه التغيرات؛ وبالتالي فشل الدول الأوروبية حتى الآن في التخلص من المواقف والسلوكيات والإستراتيجيات التي اكتسبتها على مدى عقود من الهيمنة الأمريكية.

وهذا النوع من السياسات الأوروبية هو الذي يؤدي إلى تناقص مصلحة الولايات المتحدة في التعامل مع أوروبا بشكل أكثر سرعة حيث إن عالم ما بعد الولايات المتحدة وتعزيز العلاقات عبر الأطلسي يتوقفان على ظهور "أوروبا ما بعد الحقبة الأمريكية".

لقد أظهرت سنوات الحرب الباردة قدرا كبيرا من تضامن الحكومات الأوروبية مع أمريكا بعد أن قبلت لعب دور ثانوي في النظام العالمي مقابل قيام الأخيرة بالحفاظ على أمن أوروبا. وقد أعطت هذه الترتيبات للأوروبيين إحساسا بالقوة دون تحمل قدر كبير من المسئوليات.

لكن بعد مرور عشرين عاما على سقوط حائط برلين، تغيرت السياقات والظروف التي كانت سائدة أيام الحرب الباردة؛ الأمر الذي كان يقتضي تغييرا في التفكير والسياسات المتبعة، لكن ذلك لم يحدث، فما زال الأوروبيون مستمرين في التفكير بعقلية الحرب الباردة.

دليل ذلك أن هناك أربعة أوهام تتعلق بالعلاقات عبر الأطلسي ما تزال تعتقد الحكومات الأوروبية أنها حقائق راسخة غير قابلة للتشكيك فيها، وهي:ـ

1) أن أمن أوروبا ما يزال يعتمد إلى حد كبير على الحماية الأمريكية.

2) تطابق المصالح الأمريكية والأوروبية، ومن ثم فإن على الولايات المتحدة أن تصغى جيدا للرؤية الأوروبية.

3) ضرورة الحفاظ على تناغم وقوة العلاقات عبر الأطلسي حتى تستطيع أوروبا تحقيق أهدافها والحفاظ على أمنها.

4) ومن ثم فإن الاختلاف مع الولايات المتحدة يمثل اقترابا غير ملائم للأوروبيين ومصالحهم.

أوروبا المنقسمة

لا تتحدث الدول الأوروبية مع الولايات المتحدة بصوت واحد، فلكل دولة أوروبية علاقات ثنائية خاصة مع الولايات المتحدة بعيداً عن الاتحاد الأوروبي كإطار مؤسسي جامع. أما العلاقات الدفاعية بين الجانبين فيتكفل بتنظيمها حلف الناتو. ومع تضاعف عدد دول الاتحاد الأوروبي، ودخول مجموعة من الدول الأوروبية الصغيرة خاصة من شرق أوروبا قليلة الخبرة في التعامل على الساحة الدولية، فإنه من المتوقع استمرار هذا الاقتراب غير الملائم في العلاقات بين الطرفين.

ومن ناحية أخرى تعتبر بعض الدول الأوروبية مثل هولندا والمملكة المتحدة والبرتغال نفسها بمثابة الجسر الذي يربط أوروبا بالولايات المتحدة. وقد أدى الصراع الدائم داخل أوروبا بين النزعة الأوروبية والنزعة الأطلسية إلى غياب التنسيق بين الدول الأوروبية وبعضها البعض فيما يتعلق بالسعي نحو بلورة رؤية مشتركة بخصوص القضايا ذات الاهتمام المشترك مع الولايات المتحدة.

ولا تجد الدول الأوروبية، التي اعتادت على تعظيم مصالحها الاقتصادية، صعوبة في التعامل مع أمريكا بشأن قضايا التجارة والتنظيم أو سياسة المنافسة باعتبارها عملاقا اقتصاديا؛ ولذلك تتميز العلاقات عبر الأطلسي في هذه المجالات بالقوة وتعمل بصفة عامة على تحقيق منفعة متبادلة كبيرة للطرفين.

ويحدث العكس تماما في مجالات السياسات الأمنية والدفاعية، إذ ما تزال دول الاتحاد تتمسك إلى حد كبير بسيادتها الوطنية في إدارة الملفات والقضايا في هذين المجالين؛ لذلك نجد هذه الدول تعمل فرادى داخل حلف الناتو، ونادرا ما يمنحون المنسق الأعلى للسياسة الخارجية خافيير سولانا دورا كبيرا في إدارة الشئون الأمنية والدفاعية للاتحاد.

ونتيجة لذلك فشلت أوروبا في التحول إلى قوة دولية فاعلة على الصعيد الأمني، أو بعبارة أخرى فشلت في أن تتصرف كقوة كبرى. وفي الوقت الذي تعتقد فيه الدول الأوروبية أن التنسيق فيما بينها للتعامل مع دول مثل الصين وروسيا أمر ضروري من أجل تحقيق مصالحها، لكن مثل هذا الاقتراب المشترك في التعامل مع بعض القضايا لا يحظى بنفس الأهمية حينما تتعامل هذه الدول مع أمريكا.

وتتلخص المعضلة الرئيسية في أن الدول الأوروبية أضحت تنظر إلى العلاقات عبر الأطلسي باعتبارها صنما أو معبودا في حد ذاتها، لا يمكن التخلي عنه، دون أن تكلف نفسها عناء البحث عن الأهداف والغايات التي تريدها من هذه العلاقة، أو حتى محاولة وضع إستراتيجيات مناسبة لتأمين تحقيق هذه الأهداف والمصالح.

وفي هذا الإطار يعتبر صانعو القرار الأوروبيون أن الحفاظ على تقارب العلاقات مع الولايات المتحدة وتناغمها من الأهداف الأولى بالاهتمام، وذلك من خلال اتباع عدد من الإستراتيجيات والسياسات التي تعطي الولايات المتحدة انطباعا بأهمية هذه العلاقات، ومن أهم هذه الإستراتيجيات:ـ

- الشموع المضيئة: فهناك حديث مستمر من جانب الأوروبيين عن التاريخ والقيم المشتركة بينهم وبين الولايات المتحدة، ومن ثم فإن أوروبا ستظل شريكا طبيعيا للولايات المتحدة في النظام الدولي، على الرغم من أن الولايات المتحدة لديها وجهة نظر أخرى، خاصة بعد تصريح الرئيس باراك أوباما بأن "الولايات المتحدة والصين هما المنوط بهما تشكيل وصياغة القرن الحادي والعشرين".

- الاحتواء الإيجابي: من خلال التأكيد على ضرورة التحرك الجماعي الدولي وإشراك الولايات المتحدة في المؤتمرات الدولية والحوارات والتشاور حول القضايا الدولية ذات الاهتمام المشترك.

- تحمل الأعباء: وذلك عن طريق توفير الكثير من الموارد والمساهمات للقضايا الهامة بالنسبة لواشنطن، دون أن تفكر الدول الأوروبية فيما إذا كان عليها أن تعمل لحسابها الخاص وبالاعتماد على نفسها بعيدا عن الولايات المتحدة. وتعتبر الحرب على أفغانستان المثال الأبرز في هذا السياق.

- المطالبة بالثمن: من خلال محاولة عدد من الدول الأوروبية الحصول على مجموعة من المنافع والامتيازات نظير تعاونها مع الولايات المتحدة وتقديم خدمات لها في مختلف القضايا على الساحة الدولية. وعلى سبيل المثال حاولت بريطانيا استغلال مشاركتها في الغزو الأمريكي على العراق من أجل دفع إدارة الرئيس بوش لتكون أكثر التزاما تجاه عملية السلام في الشرق الأوسط وخاصة موضوع المستوطنات، بالإضافة إلى محاولة الاستفادة من تكنولوجيا الدفاع المتطورة لدى القوات المسلحة الأمريكية.

- تقديم المثال الجيد: تحاول الحكومات الأوروبية تقديم نموذج يمكن أن تحتذي به الولايات المتحدة في التعامل مع العديد من الموضوعات والقضايا الدولية المهمة، وعلى رأسها قضية التغيير المناخي. لكن جميع المؤشرات في الوقت الحالي تشير إلى أن الكونجرس الأمريكي، المؤسسة التي يتم تجاهل دورها الكبير في النظام السياسي الأمريكي من جانب الكثير من الحكومات الأوروبية، سيتبنى السياسات التي تصب في اتجاه المصالح الأمريكية فقط، دونما اعتبار لأي مصالح أخرى حتى لو كانت مصالح الدول الأوروبية.

وتعتبر الولايات المتحدة هذه الإستراتيجيات عامل إزعاج لها ولسياستها وليس عامل إقناع، مما يؤكد حقيقة أن إستراتيجيات تفضيل الآخر ومصالحه –وهو هنا الولايات المتحدة- والتي تتبعها أوروبا مع الولايات المتحدة ليست إستراتيجيات فاعلة لإدارة العلاقات الأطلسية.

تكتيكات أمريكا البرجماتية

جاء باراك أوباما إلى البيت الأبيض حاملا أجندة داخلية وخارجية مثقلة بالكثير من الموضوعات والقضايا الشائكة مثل مواجهة الأزمة الاقتصادية العالمية والأوضاع المتدهورة في أفغانستان، علاوة على قضايا منع الانتشار النووي. وقد أبدى أوباما رغبة فعلية في معالجة هذه القضايا من خلال التعامل مع الأطراف الفاعلة التي تمتلك القدرة على حل مثل هذه المعضلات. وفي هذا الإطار تعمل الإدارة الأمريكية الجديدة على إنشاء شبكة من التحالفات الدولية باعتبارها السبيل الأكثر فاعلية لمواجهة هذه المعضلات.

ولذا تمر الولايات المتحدة بمرحلة إعادة صياغة لعلاقاتها مع حلفائها الأوروبيين، والسبب أن أوروبا لم تعد هاجسا أمنيا بالنسبة لواشنطن كما كانت في حقبة الحرب الباردة والفترة الانتقالية التي تبعتها، وترغب الولايات المتحدة في بلورة اقتراب عملي جديد لإدارة العلاقات عبر الأطلسي بشكل يحقق لها المزيد من المنافع والمصالح.

وقد أكد أوباما في أول زيارة رئاسية له لأوروبا أن الولايات المتحدة لا تسعى إلى علاقة تبعية مع أوروبا، لكنها ترغب في وجود شركاء أوروبيين حقيقيين، وهو تحول ليس من السهل على أوروبا استيعابه رغم أن سلوك إدارة أوباما لم يكن بالجديد، وإنما هو امتداد للسياسة التي بدأت الإدارة الأمريكية السابقة انتهاجها في فترة ولايتها الثانية، حيث أكد بوش في زيارته لبروكسل عام 2005 أن أوروبا الموحدة ستكون أكثر فائدة بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية.

وفى إطار هذا الطابع البرجماتي الذي يميز التعامل الأمريكي مع الدول الأوروبية، تحاول أمريكا الاستفادة قدر الإمكان من بعض الإمكانيات والنفوذ الذي تتمتع به بعض الدول والمؤسسات الأوروبية في قضايا معينة. ولتحقيق ذلك تتبع واشنطن أربعة تكتيكات في التعامل مع أوروبا، يمكن بيانها على النحو التالي:ـ

- التجاهل: في قضايا مثل (الصين) حيت تتجنب أوروبا لعب أي دور جيوبولوتيكي، ولذلك تتجاهل الولايات المتحدة أي دور أوروبي في هذا السياق.

- طلب المساعدة: وذلك في قضايا العراق وغيرها من قضايا الشرق الأوسط حيث تتمتع الدول الأوروبية بنفوذ نسبي يمكنها من مساعدة الولايات المتحدة، ولكن واشنطن تعمل قدر الإمكان على تهميش هذا الدور.

- التدخل النشط: في قضايا مثل أفغانستان وإيران، حيث تملك معظم الدول الأوروبية رؤية مشتركة توافقية حول الكيفية التي يجب من خلالها التعامل مع مثل هذه القضايا؛ لذلك تتعاون الولايات المتحدة بكثافة مع الدول الأوروبية من خلال عدد من القنوات مثل الناتو أو الاتحاد الأوروبي من أجل الوصول إلى أكثر السبل فاعلية لمعالجة هذه القضايا المهمة.

- فرق تسد: في قضايا مهمة مثل روسيا، حيث تعتبر روسيا قضية حيوية بالنسبة لأوروبا، ولكن الدول الأوروبية ليست متوافقة على رؤية مشتركة للتعامل معها؛ لذلك فإن إستراتيجية فرق تسد هي الاقتراب المعتاد الذي تعتمد عليه الولايات المتحدة للتعاون مع أوروبا في التعاطي مع روسيا.

وتمثل هذه التكتيكات ما تعتبره أمريكا أفضل السبل لتأمين حصولها على المساعدات الأوروبية، لكن واشنطن بذلك تقع في معضلة كبيرة حيث لا تستطيع أن تقرر ما إذا كانت تفضل أوروبا موحدة، الأمر الذي يخدم مصالحها على المدى الطويل، أم أن مصلحتها تكمن في إبقاء أوروبا غير متفقة تجاه عدد من القضايا.

وليس من المتوقع أن تؤيد الولايات المتحدة فكرة الاندماج الأوروبي أكثر من الأوروبيين أنفسهم، ولذا فإن تحديد ما إذا كانت العلاقات عبر الأطلسي ستكون قادرة على التعاطي مع تحديات القرن الحادي والعشرين، وما إذا كانت ستكون محورا هاما في العلاقات الصينية الأمريكية، كلها أسئلة سيتحتم على الأوربيين الإجابة عليها.

استمرار التبعية ليس في مصلحة أوروبا

إن إصرار الأوروبيين على استمرار سمة التبعية في علاقاتهم الأطلسية لا يمثل فقط إحباطا للولايات المتحدة، وإنما يضر أيضا بمصالح أوروبا، كما أن نتائج مثل هذه السمة لا تنعكس فقط على نمط العلاقة مع الولايات المتحدة، وإنما أيضا على قدرة أوروبا أو عدم قدرتها في التعامل مع مختلف القضايا الدولية الأخرى، ومن أوضح الأمثلة على ذلك تعامل أوروبا مع ثلاث قضايا دولية غاية في الأهمية، هي:ـ

أولا: أفغانستان، تعتبر مثالا بارزا على نتائج فشل الحكومات الأوروبية في الاضطلاع بمسئولياتها تجاه صراع يعتبر حيويا للمصالح الأوروبية الأمنية، فعلى الرغم من أن أوروبا قدمت الكثير من الجهود مقارنة بما قدمته الولايات المتحدة، فإن تأثيرها على الإستراتيجيات المتبعة للتعامل مع الأوضاع في أفغانستان ما يزال هامشيا مقارنة بالولايات المتحدة لأن الساسة الأوروبيين الذين يتحدثون عن أهمية أفغانستان للأمن الأوروبي ظلوا يتعاملون مع القضية على أنها مسئولية أمريكية في المقام الأول.

ثانيا: روسيا، وهي قضية مختلفة تماما، ورغم الحوار المستمر بين الأوروبيين حول هذه القضية واتفاقهم حول ضرورة وجود رؤية موحدة للتعامل معها، لكنهم حتى اليوم يلقون بمهمة التعامل مع روسيا إلى الولايات المتحدة.

وبقدر ما فشل الأوربيون في الاتفاق على دعم السياسة العدوانية التي اتبعها بوش تجاه روسيا أو عدم دعمها، فإنهم وجدوا أيضا صعوبة في إدراك ما إذا كانت السياسة الجديدة التي تتبعها إدارة أوباما تجاه روسيا سوف تؤثر عليهم بالسلب أم لا. ومع أن الولايات المتحدة ترغب في رؤية أوروبا واحدة وواثقة من نفسها، خاصة فيما يتعلق بالتعامل مع الملف الروسي وتقديم بديل فاعل لدول أوروبا الشرقية يبقيها بعيدا عن الهيمنة الروسية، فإن السياسة التي تتبعها الولايات المتحدة مع روسيا يبدو أنها تقود أوروبا إلى مزيد من الانقسامات والشكوك تجاه هذا الملف.

ثالثا: الشرق الأوسط، وهي منطقة تهم أوروبا إلى حد بعيد لعاملين أساسيين، الأول المصالح الإستراتيجية للدول الأوروبية في هذا الإقليم، والثاني التداعيات التي قد تفرزها الصراعات داخل الإقليم خاصة الصراع العربي - الإسرائيلي.

ومع أن الأوروبيين يتمتعون بالميزة الاقتصادية والدبلوماسية التي تمكنهم من لعب دور أكبر في تسوية الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين إذا أرادوا لأنفسهم ذلك، فإن الانقسامات الداخلية بين الدول الأوروبية كانت أحد الأسباب التي دفعتهم إلى اللجوء للجنة الرباعية إذا أرادوا مناقشة أي سياسة متعلقة بهذا الصراع، ولم يشفع الالتزام الدبلوماسي الأوروبي بلعب دور أساسي في عملية السلام في الشرق الأوسط، سواء بصورة منفردة من خلال جهود بعض الدول الأوروبية أو بصورة جماعية من خلال مؤسسات الاتحاد الأوروبي، في أن تقوم أوروبا بعدم التماهي، من الناحية الواقعية، مع الدور الأمريكي حيث تكتفي الدول الأوروبية بدور مقدم المساعدات المالية والفنية.

وسوف يظل الحذر الأمريكي من أي دور أوروبي مستقل فاعل في القضية أحد أهم الأسباب وراء ضعف الدور الأوروبي في هذا الملف، حيث يخشى الأوروبيون من أن تؤدي محاولاتهم للعب دور مستقل إلى حدوث خلافات كبيرة وصدام في العلاقات عبر الأطلسي؛ ومن ثم عادة ما تأخذ الولايات المتحدة زمام المبادرة، بينما تكتفي أوروبا بتقديم النصيحة.

حان وقت "أوروبا ما بعد الحقبة الأمريكية"

تحتاج الحكومات الأوروبية إلى تكييف سلوكها مع مرحلة ما بعد الحقبة الأمريكية، ليس فقط فيما يتعلق بكيفية التعامل مع الولايات المتحدة، ولكن أيضا لإعادة النظر في العلاقات عبر الأطلسي من خلال النظر إلى الأبعاد الأخرى لهذه العلاقة.

ولا يعني ذلك تسخير القوة الأوروبية ضد الولايات المتحدة أو لخدمتها؛ فالفكرة القائلة بأن العالم يريد أو يحتاج إلى أوروبا "موازنة" لهيمنة الولايات المتحدة لم تنج من كارثة الانقسام الأوروبي الميئوس منه تجاه غزو العراق. كما أن العلاقات عبر الأطلسي وثيقة جدا ويمكن الحفاظ عليها فقط إذا كان لدى الأمريكيين وكذلك الأوروبيين القدرة على التعامل مع تحديات القرن الحادي والعشرين والتأثير على التحولات الجارية في النظام الدولي في اتجاهات تلائم مصالحهم.

في هذا الإطار يجب على الأوربيين اتباع مجموعة من المبادئ في علاقاتهم عبر الأطلسية تعتبر بديلا للأوهام التي حكمت العلاقة بين الطرفين على مدار الفترة السابقة. وتتمثل هذه المبادئ في:ـ

أولا: المسئولية وليس التبعية، ليس هناك مبرر موضوعي يحتم استمرار اعتقاد الدول الأوروبية بأنه بدون المظلة الأمنية الأمريكية ستظل أوروبا غير قادرة على الدفاع عن نفسها في عالم مليء بالأخطار، لذلك لا معنى لأن تستمر الدول الأوروبية في التأكيد على الأهمية الحيوية لحلف الأطلسي وكون الولايات المتحدة هي المسئولة عن ضمان أمن أوروبا باعتبارها القوة الرئيسية داخل الحلف، لأن سيادة هذا الاعتقاد سوف يؤدي إلى استمرار تجنب الأوروبيين لتحمل مسئولياتهم الأمنية حتى بالنسبة لقضاياهم، إلى جانب أن ذلك يحول دون طرح أنفسهم كقوة موازنة للولايات المتحدة.

ثانيا: الحلول الوسط وليس الإجماع، فالولايات المتحدة في كثير من الأحيان تثير غضب حلفائها الأوروبيين، التي تعتبرهم يتحدثون أكثر مما يفعلون، ولذلك على الدول الأوروبية أن تتقبل حقيقة أن الولايات المتحدة قد تتبنى سياسات لا تكون محل قبول من جانبهم فيما يتعلق بشئون الدفاع والسياسة الخارجية، وذلك نتيجة لاختلاف المصالح بين الجانبين.

ولا يكمن الحل لمثل هذه المعضلة في الحوار مع واشنطن أو إقناعها برؤية العالم بعيون أوروبية، وإنما في قبول فكرة أن الولايات المتحدة تفكر بعقلية مختلفة، ومن ثم فإن على الأوروبيين التوصل لتسويات عملية معها، وهذا يستدعي من الجانب الأوروبي أن تكون لديه أفكار جادة وجديرة بالمناقشة على طاولة الحوار، علاوة على امتلاكه لمجموعة من الأدوات والوسائل التي يمكن من خلالها إقناع واشنطن والضغط عليها. بمعنى آخر أن تكون لديه الحوافز والأدوات –سواء كانت إيجابية أو سلبية– التي تدفع الولايات المتحدة إلى تعديل مواقفها.

ثالثا: الحزم وليس الخضوع، إن استمرار نمط تفكير الأوروبيين في العلاقات عبر الأطلسي على أنها هدف في حد ذاتها، ومن ثم بذل كل ما في وسعهم لاستمرار تناغم هذه العلاقات بصرف النظر عن العائد الذي يعود عليهم منها، لا يعني قدرتهم على الاستمرار في مغازلة المطالب الأمريكية طوال الوقت، خاصة أنهم يتعاملون مع دولة برجماتية لن تضحي بمصالحها القومية من أجل خطب ود الآخرين.

رابعا: تحرك جماعي وليس منفردا، فالدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي في حاجة إلى التحرك بصورة جماعية في مواجهة الولايات المتحدة حتى يكونوا قادرين على موازنة نفوذها وقوتها.

ولا يمكن تقديم إجابة وافية حول كيفية تطبيق هذه المبادئ على أرض الواقع نظرا لكون العلاقات عبر الأطلسي شاملة ومجالاتها معقدة ومتشابكة، ومع ذلك فإن هناك ثلاث خطوات مهمة يجب على الدول الأوروبية العمل عليها في الوقت الراهن، تتمثل في:ـ

1 ـ تطوير إستراتيجية أوروبية للتعامل مع الأوضاع في أفغانستان:

وقد تتضمن هذه الإستراتيجية إما الخروج من أفغانستان أو إلى مزيد من التدخل الأوروبي أو حتى مجرد تغيير للتكتيكات. وتكمن دلالة تطوير هذه الإستراتيجية في أن أوروبا بدأت تتحدث بمنطق مصالحها في مواجهة واشنطن، بدلا من مجرد اتباعها لها وتنفيذ رغباتها، كما تعني أيضا أن حوارا جادا يجب أن يتم بين دول الاتحاد الأوروبي أو الدول الكبرى داخله، والتي تربطها علاقات ومصالح قوية فيما بينها، من أجل تحديد ما تريد أوروبا تحقيقه في أفغانستان؛ لذلك يمكن اعتبار الدعوة التي أطلقتها الدول الثلاث الكبرى داخل الاتحاد الأوروبي لعقد مؤتمر دولي، وإن كان متأخرا، حول الأوضاع في أفغانستان تدفع بهذا الاتجاه.

2 ـ قبول مسئولية معالجة ملف العلاقات مع روسيا:

لا يعني هذا مجرد بذل مزيد من الجهود في اتجاه تقوية مبادرة الشراكة بين الاتحاد الأوروبي ودول أوروبا الشرقية فقط، ولكن يعني كذلك مزيدا من الحوار والنقاش داخل الاتحاد الأوروبي حول الكثير من القضايا ذات الطابع الأمني في مختلف مناطق القارة، لأن من شأن غياب هذا الحوار أن يؤدي إلى عواقب وخيمة على مستقبل القارة. وعلى سبيل المثال عبرت قضية الدرع الصاروخي التي كانت تشرع أمريكا في وضع أجزاء منه في بعض دول أوروبا الشرقية عن غياب الثقة بين دول حلف الناتو ودول الاتحاد الأوروبي والأعضاء الجدد في الاتحاد، كما أن غياب التضامن بين هذه الدول وغياب فكرة التحرك الجماعي قد ساهم في زيادة مناخ عدم الثقة هذا.

ولذلك يجب على دول الاتحاد الأوروبي التحرك المباشر فيما بينها لمعالجة ملف العلاقات مع روسيا، وليس فقط مجرد انتظار أن تخبرهم الولايات المتحدة بضرورة التحرك في اتجاه معين أو عدم التحرك في اتجاه آخر، كأن تخبرهم مثلا أن دوراً أكبر لحلف الناتو في شرق أوروبا مطلوب أو ليس مطلوبا طبقا لما تراه هي. وذلك لأن رفض الدول الأوروبية الاضطلاع بمسئولياتها المباشرة تجاه هذا الملف الشائك من شأنه أن يسهل على موسكو التحرك وتنفيذ سياساتها، كما أن هذا السلوك سوف يتسبب في الكثير من الإحباط للولايات المتحدة الأمريكية.

3 ـ التحرك في الشرق الأوسط:

إن كلا من الملف النووي الإيراني والصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين مرشحان بقوة للانفجار في الفترة القادمة؛ فإسرائيل تصر على ربط الملفين ببعضهما البعض، وفي حال قررت أوروبا التحرك باستقلالية عن الولايات المتحدة، فإنها يمكن أن تعمل على تفكيك هذا الربط الإسرائيلي، ومن ثم تكون قادرة على استخدام ثقلها الاقتصادي لتصعيد ضغوطها على إيران من أجل دفعها نحو التخلي عن طموحاتها النووية وعلى إسرائيل من أجل دفعها نحو تجميد التوسع في المستوطنات.

وبصفة عامة فإن المطلوب من الدول الأوروبية في هذه القضايا الثلاث، وغيرها من القضايا الأخرى مثل التغير المناخي وتكنولوجيا الدفاع وإعادة صياغة قواعد النظام المالي العالمي، أن تتغير عقلية الأوروبيين من مجرد اتخاذ موقف إلى التحرك الفعلي في اتجاه تحقيق المصالح الأوروبية، مع الأمل في أن تقدم الولايات المتحدة على اتباع السياسات الصحيحة بالنسبة للعمل المشترك بين طرفي الأطلسي.

ولن يتم ذلك دون إدراك الأوروبيين مصالحهم وتقييم الحوافز التي يمتلكونها والتفاوض بصلابة أكثر، كما يجب أيضا على الدول الأوروبية –في حالة إذا تطلب الأمر– أن تقدم على إظهار التكلفة الكبيرة التي يمكن أن تتحملها الولايات المتحدة في حال عدم التوصل إلى تسويات وحلول وسط ترضي الأوروبيين وتضع مصالحهم في الاعتبار.

كيف السبيل؟!

لكي تصل أوروبا إلى دور الفاعل على الساحة الدولية من خلال إعادة النظر في العلاقات عبر الأطلسي على أساس رؤية جديدة ومنهج أكثر صلابة في التعامل، فإن هذا يتطلب إرادة سياسية حقيقية من جانب الدول الأوروبية. وقد تساعد معاهدة لشبونة في تحقيق ذلك نظرا لما توفره من علاقات أكثر قوة بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، فضلا عن مجموعة من الأدوات المؤسسية المتضمنة فيها، والتي تمكن هذه الدول من التوصل إلى مواقف مشتركة، إضافة إلى تمثيل الاتحاد الأوروبي في مواجهة الدول والمؤسسات الدولية. ويظل العامل الحاسم في نجاح هذه الاتفاقية هو الاستخدام الفعلي للأدوات التي توفرها، وليس تركها مجرد مبادئ نظرية.

وتعتبر فرصة البداية الفعلية لإصلاح العلاقات عبر الأطلسي قريبة جدا مع تسلم إسبانيا رئاسة الاتحاد الأوروبي في بداية عام 2010، حيث أعلنت إسبانيا أنها سوف تعيد إحياء الإعلان الذي تم توقيعه في عام 1995 بين إدارة الرئيس الأمريكي بيل كلينتون ورئيس وزراء إسبانيا آنذاك فليبي جونزاليز ورئيس المفوضية الأوروبية، تحت عنوان "أجندة جديدة للعلاقات عبر الأطلسي".

تجدر الإشارة إلى أن هذا الإعلان مثل نقلة نوعية في العلاقات بين القارة الأوروبية والولايات المتحدة حيث نقل هذه العلاقات من مجرد التشاور إلى مرحلة المواقف المشتركة كنتيجة طبيعة للتطور المؤسسي الكبير الذي شهده الاتحاد الأوروبي في تلك الفترة.

ومن شأن فشل الأوروبيين في بلورة مثل هذه الرؤية الجديد لعلاقاتهم عبر الأطلسي أن يؤكد الرؤية المتشككة التي تحملها الإدارة الأمريكية تجاه ما يستطيع الأوروبيون فعله على أرض الواقع، ما سيسهم في الإضرار بمصداقية الأوروبيين لدى واشنطن، بدلا من توطيد العلاقات فيما بين الطرفين؛ ومن ثم تتطلب الرؤية الجديدة تغييرا وإصلاحا في السياسات وليس إصلاحا في المؤسسات، فليست هناك حاجة إلى مزيد من القمم الرئاسية أو محافل الحوار والنقاش لأن القمة الأخيرة التي جمعت الطرفين في "براج" جعلت الرئيس أوباما يدرك أنه مجتمع مع 27 دولة أوروبية وليس مع مؤسسة واحدة.

ولتحقيق ذلك تحتاج الدول الأوروبية إلى نقاش جاد للاتفاق حول القضايا المهمة بالنسبة للعلاقات عبر الأطلسي، وذلك لتحديد ماهية القضايا التي يمكن للأوروبيين الاتفاق على موقف مشترك حيالها في مواجهة واشنطن، وهو ما بدأت بوادره مع تولي فرنسا رئاسة الاتحاد الأوروبي في النصف الثاني من عام 2008، حيث دعت إلى اجتماعين وزاريين لمناقشة الأجندة والأولويات الأوروبية على الساحة الدولية في المرحلة القادمة لتقديمها إلى الإدارة الأمريكية الجديدة.

ويمكن لإسبانيا أن تتبنى مجموعة من الحوارات داخل مؤسسات الاتحاد الأوروبي استعدادا للقمة الأوروبية الأمريكية المزمع عقدها في عام 2010 لمناقشة الأوضاع في الشرق الأوسط، وذلك من أجل التوصل إلى رؤية أوروبية مشتركة حول القضايا الأساسية الثلاث (الشرق الأوسط، وأفغانستان، وروسيا) باعتبارها القضايا الأهم، فضلا عن وجود مجموعة أخرى من القضايا التي لابد للدول الأوروبية التوصل إلى رؤية مشتركة حيالها، ومن أهمها: التغير المناخي، وإصلاح المؤسسات الدولية، وإعادة هيكلة النظام المالي العالمي.

وفي ظل هذا العالم المضطرب، فإن الشراكة عبر الأطلسي -والتي لا يجب أن تكون قاصرة على حلف الناتو أو حتى العلاقات الثنائية بين الدول الأوروبية فرادى والولايات المتحدة، بل يجب أن تمتد لتشمل شراكة قوية وفاعلة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ومؤسساته- ستكون مهمة للغاية لكل من الأمريكيين والأوروبيين. وللحفاظ على هذه العلاقة يجب على الأوروبيين قبول إمكانية حدوث اختلافات وصعوبات في العلاقة مع واشنطن.

---------------

مركز أبحاث أوروبي أنشئ في أكتوبر 2007 يقول إنه يهدف إلى "إجراء البحوث وتشجيع المناقشة في جميع أنحاء أوروبا بشأن تطوير سياسة خارجية أوروبية فعالة ومتماسكة ومستندة إلى القيم".

*الموجز التنفيذي لدراسة صادرة عن المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، تحت عنوان "نحو أوروبا ما بعد الحقبة الأمريكية.. إعادة تقييم قوة العلاقات الأمريكية الأوروبية"، أكتوبر 2009.

وقد أعد الدراسة كل من (جيرمي شابارو) مدير الأبحاث بـ"مركز الولايات المتحدة وأوروبا" بمؤسسة بروكينجز الأمريكية وعمل كمحلل متخصص في شئون الدفاع والسياسة الخارجية بمؤسسة راند الأمريكية, و(نِك ويتني) الذي شغل منصب أول رئيس تنفيذي لوكالة الدفاع الأوروبية، وهي وكالة تم إنشاؤها عام 2004 لمساعدة دول الاتحاد الأوروبي على تطوير قدراتها الدفاعية المتعلقة بعمليات إدارة الأزمات في ظل سياسة الأمن والدفاع الأوروبية.