خبر الاضطراب في قلب العرب ... ومن حولهم .. رضوان السيد

الساعة 11:46 ص|22 نوفمبر 2009

بقلم: رضوان السيد

فاجأ هجوم الميجور الأميركي ذي الأصل الفلسطيني على زملائه في القاعدة العسكرية الأميركية، الكثيرين من العرب ومن الأميركيين. لكنّ الأمر كان أسهل على الأميركيين منه على العرب والمسلمين. فقد عاد العديد من الأميركيين إلى الأنماط والقوالب الجاهزة التي تشكّلت قبل 11 سبتمبر وبعدها. وسُرعان ما اعتقدوا أنهم اكتشفوا أنّ للميجور القاتل شيخاً أصولياً يتعاطف مع "القاعدة"، وقد أثّر فيه، ودفعه لارتكاب فعْلته الشنعاء.

وكان الأمر أصعبَ على العرب، ليس لأنهم يأملون أن تتغير السياسات الأميركية في عهد أوباما فقط؛ بل لأنهم يريدون الخروج بأي ثمنٍ من الواقع المُزري ومن الصُوَر النمطية في الوقت نفسِه. لكنّ الأمرين مستمران ومتلازمان. فالأوضاع تتفاقمُ في فلسطين وأفغانستان وباكستان، و"المجتمع الدولي" مُصِرٌّ على تصعيد العنف في البلدين لمكافحة الإرهاب؛ بينما هو يستسلم للعنف الإسرائيلي ضد الفلسطينيين دونما اعتراضٍ حقيقي. وتشعر غالبيةُ العرب أنّ الأفعال الشائنة التي يرتكبُها الشبان لن تُغيّر الواقع، ولن تحرر الأرض، كما لن تجلب العِزَّة. لكننا نشعرُ أيضاً بالعجز عن الضبط والانضباط. ويعتقد الغربيون أنّ الناس في بلادنا نسوا ما حصل بالعراق وللعراق، أمّا في باكستان وأفغانستان، فهم مضطرون لمكافحة "الإرهاب" حتى لا يرتدّ عليهم مجدداً. ثم إنهم يعترفون بالعجر عن التأثير على الإسرائيليين، لكنهم ليسوا مستعدّين حتّى لاتّخاذ قرار دولي يمنع الاستيطان، ويتيح للفلسطينيين إقامة دولة مستقلة.

ومع ذلك فأشكال المواجهة التي يجترحُها الشبان منذ سنواتٍ في مواجهة الإسرائيليين والأميركيين، تظلُّ رغم هَولها وعشوائيتها، مُواجهات من حولنا ومن خارجنا. لكن ما الذي يمكن قولُهُ عن هذا التدمير الذاتي المشتعل في قلبنا: في الصومال والسودان والعراق واليمن ولبنان؟ في هذه البلدان تشتعل حروبٌ ونزاعات متفاوتة الحماوة، لكنها دائماً هائلة التدمير.

في الصومال مثلا سقط نظام سياد بري عام 1992 إثر حربٍ فاشلةٍ شنّها على إثيوبيا من أجل إقليم أوغادين. ومنذ ذلك الحين تداولَ على السلطة ثلاثةُ فُرقاء أو مرت الأمور بثلاث مراحل: مرحلة الجنرالات الذين حاول كُلٌّ منهم الاستئثار بالسلطة، ومرحلة شيوخ القبائل الذين أرادوا إقامة دويلات حسب امتداد قبائلهم، ومرحلة الإسلاميين الذين بدأوا مثل "طالبان" باعتبار أنفسهم حركةً لضمان أَمْن الناس، وانتهوا إلى التشرذم والالتحاق بالتطرف العنيف. وهكذا فالسلطة المستبدة هي السبب البعيد وحسْب، أمّا بعد ذلك، فإنّ المحليات والحزبيات وبيئات الجريمة والفوضى، هي التي تحكمت بالجميع. إنما الغريب في المأزق الصومالي أنه لم يُثر قلقاً إقليمياً أو دولياً يدفعُ لاهتمامٍ حقيقيٍ. ذلك رغم موقع الصومال المهمّ على المحيط الهندي، ورغم انغماس كلّ دول القرن الإفريقي وجواره بمشكلته. فبذريعة المجاعة تداخل الأميركيون عام 1993، لكنهم انسحبوا عام 1994 بعد مذبحةٍ ضدّهم. وما تدخل العالَمُ في السنتين الأخيرتين إلاّ بسبب القرصنة في المحيط الهندي، وبسبب ما قيل من أن "القاعدة" اتخذت من الصومال مرتكزاً لها. والمؤسف أيضاً أن رُبع الصوماليين اضطروا للهجرة بسبب الاضطرابات والمجاعات، وأنّ عشرات الألوف منهم ماتوا في رحلات الهرب عبر البحار. ومن الغريب أخيراً أنّ التشدد الديني الظاهر لدى الإسلاميين الثائرين يبدو مصطَنَعاً ومستورَداً، وأنّ الشعب الصومالي لا ينقسم على خطوطٍ قَبَليةٍ أو دينية أو مذهبية!

وتختلف الحالةُ لدى السودانيين المنقسمين عما يحدث في الصومال. فهناك شمالٌ وجنوب، وعربٌ وأفارقة، وسلطة أكثر قوةً وتمركُزاً. لكنّ السنوات الأخيرة التي حفلت بالنزاع حول دارفور، أبرزت للعيان وضعاً لا يختلف كثيراً عن الوضع الصومالي، حيث تسود المحليات والقَبَليات وظروف ما قبل الدولة، في حين تطفو على السطح نخبةٌ سياسيةٌ وعسكريةٌ هشّة، تتكون في الغالب من موظفي وعسكريي الدولة السابقين. بيد أنّ السودان لقي اهتماماً عالمياً أكبر ربما بسبب وجود العروبة والإفريقية فيه، أو بسبب وجود المسيحية والإسلام أو لأنه بقيت لديه القدرة، رغم النزاع الداخلي، على التأثير في جواره القريب. وإذا كانت البنية السلطوية الحديثة في الصومال ما لعبت دوراً في النزاع الداخلي إلاّ في المرحلة الأولى، فالبنية السلطوية السودانية كانت وما تزال أكثر صلابةً وإن لم تكن أكثر تماسُكاً. وكما أنّ الأُفُقَ الصوماليَّ يبدو أغبر وغامضاً؛ فإنّ الأُفُق السودانيَّ غاصٌّ باحتمالاتٍ شتّى.

وعندما قشّرت القوات الأميركية الغازية البنية السلطوية الملتصقة بالمجتمع العراقي، بدا كأنما المجتمع يتحلَّلُ إلى عناصره الأولية، بحيث صار كُلُّ أحدٍ يُعادي كلَّ أحدٍ آخر على طريقة سارتر في أيام كهولته: الآخر هو جهنَّم! وما عاد المشهد مُفزعاً الآن، لكنّ الروح العراقية التي صنعتْها الدولةُ قبل السبعينيات زالت إلى غير رجعة ويصعُبُ الحديثُ عن مستقبلٍ عاديٍّ للعراق وسط الاستقطاب الداخلي والصراع من حوله وفيه. ومع الحذر والتحفظ الضروريَّين، يمكن القول إنّ العراقَ لن يجد استقراراً وثباتاً يليقُ بشعبه وإمكانياته ما دام الانقسام الإثني والمذهبي ينخر فيه.

وإذا كانت الأمثلة الثلاثة السابقة، يحضُرُ فيها هذا العنصر أو ذاك من عناصر الاضطراب أكثر من غيره؛ فإنّ اليمن تحضُرُ فيه عناصر الاضطراب جميعاً وبمقادير شبه متساوية: القَبَلية، والمحلية، والمذهبية، وسلبيات السلطة السياسية، والتدخُّل الخارجي. ويقول الماركسيون وبعض الليبراليين إن ّالأمة تخلُقُها الدولةُ أحياناً، في حين يؤدي الوعي بالأمة إلى قيام الدولة في أحيانٍ أُخرى. والواقع أنّ الوعي بالوحدة والأمة كان متوهِّجاً في المدن الساحلية اليمنية، لكنه لم يكن كذلك في الجبال والصحارى. وقد حكمت النُخب العسكرية والسياسية اليمن منذ قيام الثورة عام 1962، لكنْ من خلال صفقاتٍ مع القبائل والإسلاميين (السُنّة). أما شبابُ الزيدية فقد تأثروا بالثورة الإيرانية وبـ"حزب الله"؛ فازداد من جراء ذلك إحساسهم بالتهميش، وضرورة التمرد والثورة. بيد أنّ العامل الرئيس يظلّ في استيلاء "القَبَلي" على "الدولتي"، وفساد الطبقة السياسية والعسكرية، وبروز المذهبية الأُصولية بعد أن كان اليمن خالياً منها. فقد ظهر الأُصوليون السنة في صورة "الإخوان" والسلفيين، ثم ظهر أُصوليو الزيدية في صورة الحوثيين.

وأُصولُ مشكلة لبنان مختلفة عن المشكلات الأخرى. فقد قام كيانه على الطائفية فظهر التناقض الإسلامي المسيحي. ثم أُضيف لذلك بُعْدٌ آخر بحضور المشكلة الفلسطينية في لبنان. ثم دخل السوريون، وبعدهم الإيرانيون مع "حزب الله". وكلُّ مرحلةٍ من المراحل المذكورة لا تُلغي سابقتَها بل تُغطيها دون أن تُزيلَها. وبالنتيجة فالبلاد عاجزةٌ عن التقدم بأي اتجاه، للعراقيل والاستقطابات المتبادَلة، وامتزاج المحلّي بالإقليمي.

إنّ القاسم المشترك بين الدول المضطربة ليس تماثُل البنية الاجتماعية والسياسية؛ بل فشل تجربة الدولة لأسبابٍ مختلفة. ولذا ينبغي أن تنصبّ الجهود على التحصين من التدخل الخارجي، في العمل على تجديد تجربة الدولة عبر التداوُل السلمي للسلطة. وقد لا يكون ذلك سهلاً ما دام الاشتباك مندلعاً بين الإسلاميين وأهل السلطة.

المستجير بعمروٍ عند كربته كالمستجير من الرمضاءِ بالنارِ.