خبر ما بعد أبو مازن ؟ أخيراً فهمنا .. ناثان ج. براون

الساعة 10:47 ص|19 نوفمبر 2009

بقلم: ناثان ج. براون

أطلق إعلان الرئيس الفلسطيني محمود عباس أنه لن يسعى إلى فترة ولاية رئاسية ثانية، موجة واسعة من التكهّنات: هل هو يُخادع؟ هل سيُلغي الانتخابات ببساطة ويبقى في منصبه؟ وفي حال تَرَك منصبه، من يخلفه؟ وماهي المواقع التي سيحتلّها خليفته (أوخلفاؤه): رئيس السلطة الفلسطينية، أم رأس حركة "فتح"، أم رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، أم رئيس دولة فلسطين التي أُعلنت بشكل غير مُقنع في الجزائر العام 1988؟ إن مراقباً ساخراً قد يُلمّح إلى أن التدهور السياسي في النظام السياسي الفلسطيني بلغ مرحلة من التعقيد، إلى درجة أن الإجابة عن التساؤلات في شأن موضوع الخلافة تبدو مهمة بقدر أهمية وجود مُطالب بعرش الإمبراطورية الرومانية المُقدّسة. لكن هذا ليس وقت هذه الدرجة من السخرية - ليس بعد. فالخلافة والزعامة لاتزالان هامتين إلى حد ما. (ومن المُثبط بطبيعة الحال أن نُلاحظ أن جميع الأسماء التي طُرحت للخلافة هي إما شخصيات مُستهلكة أوساسة فاسدون، أوكلاهما معاً. الاستثناء الوحيد المُمكن، مروان البرغوثي، ليس سجيناً في إسرائيل وحسب، بل هو يمتلك أيضاً قاعدة سياسية أضيق بكثير مما قد تعتقد أحياناً الأطراف الخارجية).

مع ذلك، يتعيّن علينا التركيز أقلّ على الشخصيات وأكثر على الديناميات الكامنة في هذه المسألة. وأنا هنا أرى بالفعل وجه شبه بالإمبراطورية الرومانية المُقدّسة: فتماماً على حدّ وصف فولتير الشهير للكيان السياسي الأوروبي الغريب بأنه "ليس بالمُقدّس ولا الروماني ولا الإمبراطوري"، ثمة أسباب لوصف السلطة الفلسطينية بقيادة عباس على أنها لا فلسطينية ولا سلطة. فهي محمية تحظى بالرعاية الدولية وتُموَّل دولياً بشكل جزئي، وتُدير بعض المدن والبلدات الفلسطينية في الضفة الغربية. وقد كان من المُفترض أن يكون سقف عمرها خمس سنوات، بدءاً من إنشائها في العام 1994. وبالتالي، فإن اعتبار البقايا العفنة جنين دولة فلسطينية، يتجاهل الجرعة غير الصحية من المضادات الحيوية التي ضخّها الإسرائيليون والأميركيون والفلسطينيون أنفسهم في الحركة الوطنية الفلسطينية على مدى السنوات العشر الماضية.

بالطبع، طريقة استجابة إدارة أوباما للأزمة المتصاعدة في السياسة الفلسطينية فاقمت الأمور. بيد أن هذا، للغرابة، قد يكون إنجازاً: لم يَعُدْ بالإمكان بعد إنكار الحقيقة بأن عملية السلام باتت عارية بلا ملابس. 

حقاً أنه كان ثمة افتقار شديد للحنكة في تنفيذ السياسة الأميركية، بيد أن المشكلة الرئيسة تكمن أساساً في تصميم تلك السياسة: إذ ورث فريق أوباما عن سلفه سياسة تقوم على ديبلوماسية رفيعة المستوى لكن لامعنى لها، وعلى فرض عقوبات وحشية على غزة ودعم حكومة تكنوقراط سلطوية في رام الله، وجهل كامل بالسياسة الداخلية الفلسطينية. والخطأ الذي ارتكبه الفريق هو أنه تبنّى من دون رويّة عناصر كثيرة للغاية من السياسة السابقة، آملاً أن تؤدّي توليفة أكثر مُشاكسة إلى نتيجة مختلفة.

هل ثمة مخرج ما؟

كلا. ليس الآن على الأقل. وأفضل ما يمكننا فعله هو العمل كي لاتزداد الأمور سوءاً، والشروع في إيجاد مكوّنات أوّلية لمقاربات جديدة ونضرة. قد لايكون هذا سهلاً. إذ ثمة أشخاص يودّون اغتنام هذه الفرصة لجعل أي حل في المستقبل أمراً مستحيلاً.

وفي الواقع، استدرّ اليأس من الوضع الحالي دموع التماسيح من لَدُن اليمين الإسرائيلي ومعسكر الرفض الفلسطيني: فعملية السلام التي لم يؤمنوا بها يوماً كانت مَيْتَة منذ مُدة، لكنهم يستمتعون الآن بفرصة دفنها علناً. بالنسبة إلى اليمين الإسرائيلي، يأخذ هذا شكل الاستيطان في الضفة الغربية، وزيادة الفصل الكامل لمنطقة القدس عن الضفة الغربية، وخنق غزة، ورفعاً خفيفاً للقيود المفروضة على حرية الحركة لجعل الحياة لاتُطاق بشكل أقلّ في الضفة الغربية. فإلى أين يؤدي ذلك في المدى الطويل؟ لقد وَصَفْتُ الواقع الناشئ من قبل على أنه حل الدولة الواحدة الذي لايحل شيئا، وتذوّقنا بعض ما يمكن أن يبدو عليه الوضع في خريف هذا العام حين شاهدنا بوادر جنينية لانتفاضة ثالثة – هذه المرة، تَعبُر هذه الانتفاضة الخط الأخضر (حدود إسرائيل في العام 1967) وتشمل المقدسيين، وغير الإسلاميين من الضفة الغربية، والمواطنين الفلسطينيين الإسرائيليين.

أما بين الصفوف المتزايدة للرافضين الفلسطينيين (الذين ينضم إليهم باطّراد أولئك الذين لايرفضون فكرة حل الدولتين من طريق التفاوض، لكنهم ببساطة يئسوا من احتمال تحقّقها)، ثمة من يتحدّث عن حل السلطة الفلسطينية أو اختيار حل الدولة الواحدة. الخيار الأول يقوم على افتراض غير مُحتمل مفاده أن إسرائيل ستضطر إلى تحمّل عبء إدارة الضفة الغربية لمصلحة سكانها. والثاني يستند إلى أمل غير وارد على نحو مُتساوٍ بأن ثمة طريقاً معقولاً نحو إقامة دولة ذات قوميتين تُوفّر السلام والعدالة والرخاء لجميع مواطنيها. بيد أن النتيجة الأكثر ترجيحاً هي أن سكان الدولة الواحدة سيدركون ببساطة معنى عبارة جان بول سارتر الشهيرة (في المسرحية التي تحمل اسماً مناسباً "لامخرج"): "الآخر هو الجحيم".

الآن، إذا ماكان الوضع الحالي سيئاً وكانت البدائل أسوأ، فهل ثمة شيء بنّاء يمكن القيام به؟ في السابق، اقترحت "الخطة البديلة (ب)" التي تُركّز بصورة أقلّ على ديبلوماسية إنهاء النزاع، وبشكل أكبر على العمل لاحتواء الأضرار وخلق أساس للمضي قُدُماً نحو التوصّل إلى حل في المستقبل. وأنا لا أزال أدعم هذا الاقتراح، لكني أعترف أن فيه نقاط ضعف، ويمكن أن يكون قائماً على آمال مُفرطة في التفاؤل إزاء ما يمكن تحقيقه. ولذا، اسمحوا لي الآن أن أقتصر على بعض المؤشرات، لأقول بأنه أياً تكن المقاربة المُعتمدة، فإنها يجب ألا تتجاهل الحقائق التالية:

-1 خيار "الضفة الغربية أولاً" فشل

لا أُنكر أنني لم أعتقد أبداً أن هذا النهج الذي وضعته إدارة الرئيس جورج بوش وتابَعه أوباما - إدعم حكومة رام الله وتمنَّ أن تستسلم غزة - سوف يُحقّق النجاح. لكني أشعر الآن بالقلق من أن ثمة نهجاً أميركياً مُحتملاً هو أن نُضاعف رهاناتنا عليه مرة أخرى، من طريق وضع كل آمالنا في سلّة "خطة" سلام فياض لبناء الدولة الفلسطينية. صحيح أن ثمة بعض الأسباب الوجيهة لمواصلة دعم نهج فياض، لكن هذا النهج يُمثّل عنصراً صغيراً من سياسة ملائمة، وليس بديلاً من التفكير المنهجي. وهنا، ينبغي على الولايات المتحدة أن تعترف بعجزها في محاولاتها لبناء سلطة فلسطينية قابلة للحياة في الضفة الغربية، كما علينا الكف عن تعليق آمالنا على أي شخصية واحدة بعينها.

2-  الفلسطينيون لديهم سياسة داخلية أيضاً

لا مشكلة بالنسبة إلى الساسة الأميركيين عموماً في أن يتذكّروا بيئتهم السياسية الداخلية. هذا علاوة على أن النظام السياسي الإسرائيلي يفرض هو أيضاً قيوداً يمكن تحديدها بسهولة. ومع ذلك فالسياسة لاتتوقّف عند خطوط العام 1967. إذ يُظهر فشل تقرير غولدستون ما يمكن أن يحدث حين ننسى أن للجمهور الفلسطيني آراءه، وأن ثمة لعبة سياسية داخلية مُكثّفة. ومن المفارقات أن التقرير نفسه قَدّم قراءة مُقلقة حول إسرائيل وحول نصف السلطة الفلسطينية الذي تقوده "حماس". وعلى النقيض من ذلك، خرجت السلطة الفلسطينية التي تتّخذ من رام الله مقرّاً لها، سالمة من دون خدوش إلى حد كبير، لكنها، مع ذلك، كانت حتى الآن الطرف الوحيد الذي دفع ثمناً سياسياً باهظاً.

3- لا تنسوا غزة

تركّز النقاش حول تقرير غولدستون على سلوك إسرائيل أثناء حرب غزة وعما إذا كانت استهدفت المدنيين الفلسطينيين. قد يكون ذلك نقاشاً مهماً، لكن لايمكن الشكّ بالصورة الأكبر للدمار في غزة. ثم أنه نادراً ما تتم، على الأقل في دوائر السياسة الأميركية، مناقشة الدرجة التي دُمّر فيها اقتصاد المدنيين في غزة نتيجة العقوبات الدولية (المفروضة أساساً من قِبَل إسرائيل ولكن أيضاً من قِبَل مصر مع بعض التأييد الدولي الأوسع). بطبيعة الحال، واضح لماذا لا تريد إسرائيل إدخال المواد العسكرية إلى غزة، لكن ليس من الواضح على الإطلاق لماذا تعتبر المعكرونة والورق مواد عسكرية.

يجب الاعتراف بحجم الكارثة: فقد تم تدمير اقتصاد غزة حتى قبل الحرب الأخيرة. والآن تم تدمير جلّ البنى التحتية إلى جانب عدد كبير من المنازل. كانت عمليات الإغاثة ممكنة؛ لكن عمليات إعادة الإعمار لم تكن على هذا النحو. وهذا يجب أن يكون مهمّاً لنا جزئياً لأنه يهم الكثير من الناس في جميع أنحاء العالم - هؤلاء الناس الذين يعتبرون الولايات المتحدة مسؤولة جزئياً عن الكارثة الإنسانية. وينبغي أيضاً أن يهمّنا الأمر لأنه من الواضح أن الغرض الذي يبدو بالكاد خفياً لسياسة الخنق - جعل قدرة "حماس" على الحكم مستحيلة - أتى بنتائج عكسية، إذ استخدمت "حماس" سيطرتها على اقتصاد الأنفاق كي تتخندق بقوة.

لقد ضغطت الولايات المتحدة بصمت لتخفيف عدد من الجوانب الأكثر قسوة من الحصار المفروض على غزة، لكنها لم تُفصح سوى عن النزر اليسير في العلن، وأيّدت ضمناً الكثير من عمليات الإغلاق عبر الفشل في الضغط بشدّة من أجل إعادة الإعمار. كما أنه ليس من الواضح ما إذا كانت ثمة سياسة جذابة لزعامة أميركية تشعر بالقلق إزاء إعادة تسليح "حماس". لكن تجاهل المشكلة أومعالجة معاناة غزة باعتبارها ثمناً مؤسفاً يجب أن يدفعه شعبها (كما نفعل الآن) يُقوّض ماتبقّى من ديبلوماسيتنا الإقليمية.

4- لا توجد حلول سريعة  لتحدّي "حماس"

لقد تحصّنت "حماس" بقوة في قطاع غزة، وهي الآن في مرحلة سبات ليس إلا في الضفة الغربية، كما تحظى بشيء من التأييد القوي في بعض مجتمعات الشتات أيضاً. والطريق الذي لم تسر على دربه الولايات المتحدة - العمل على دمج "حماس" في الديبلوماسية - لن يكون مُهمّة سهلة، والفشل فيه يبقى احتمالاً حقيقياً. بيد أن هزيمة "حماس" لم تنجح، كما لن تتلاشى هذه الحركة ببساطة. صحيح أن التراجع في مكانة "حماس" الجماهيرية حقيقي تماماً، لكن لاتوجد وسيلة سهلة لاستخدام استطلاعات الرأي العابرة لقذف "حماس" إلى خارج السلطة.

5- المستوطنات مهمة

كانت ديبلوماسية إدارة أوباما بشأن قضية الاستيطان الإسرائيلي بمثابة إشكالية، لكنها لم تخلق مشكلة. وأي نهج يقوم على أساس الافتراض بأن المستوطنات هي قضية جانبية (كما ادّعى البعض بشكل غريب)، أو بأنه يمكن حل المسألة ببساطة من طريق ترسيم الحدود بطريقة ملائمة، ونقل عدد صغير من المستوطنين (كما يتم التأكيد بشكل روتيني)، يتجاهل حقيقة كم أن المستوطنات منتشرة، وكيف أنها نمت بسرعة خلال عملية السلام، ومدى صعوبة أي عملية نقل بالنسبة إلى إسرائيل، وكيف أصبح المستوطنون أقوياء في السياسة الإسرائيلية الداخلية، وكيف جعلوا آمال الفلسطينيين في حل الدولتين تتآكل، وكم سيكون صعباً بالنسبة إلى قيادة فلسطينية قبول إجراء "تعديلات حدودية".

6- اغتنموا فترة الهدوء

الوضع الإسرائيلي الفلسطيني قاتم الآن، لكن ثمة قدر قليل من القتال. في الماضي، استخدمنا فترات الهدوء تلك للسماح لاهتمامنا بأن يتحوّل إلى أماكن أخرى، وأدرنا عجلاتنا في عمليات ديبلوماسية غير مُحدّدة بزمن، أوقرّرنا أن في إمكاننا الانتظار حتى تصبح الأطراف جدّية. لكن هذه المرة يجب أن يكون الأمر مختلفاً: لايمكننا إنهاء الصراع الآن، لكن يمكننا إلقاء نظرة أبعد حول كيفية الحفاظ على الهدوء الحالي، من دون ترسيخ الظلم أوجعل جولة مُقبلة من القتال أمراً لامفرّ منه.